المبحث الخامس:
تفصيل الآية {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}
يتم تفصيل الآية بالأسئلة التالية: ما معنى العبادة؟ ما حكمها؟ وما كيفية آدائها؟ ما المقصود بإياك نعبد ؟ما معنى الإستعانة ؟ ما حكمها؟ وما كيفية آدائها؟ ما المقصود بإياك نستعين؟ لماذا أنزلت هذه الآية بهذه الصورة؟
معنى العبادة وحكمها وكيفية آدائها من الآيات والأحاديث
يمكن استنباط معنى العبادة من آيات دعوة الرسل لأقوامهم نذكر منها دعوة سيدنا نوح لقومه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}
{أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} 25-27 هود توضح هذه الآيات أن دعوة سيدنا نوح إلى قومه كانت نذيراً لهم بألا يعبدون إلا الله، لأن هنالك يوم لعذابهم أليم إن لم يعبدوه وحده 25"-26" هود. فاستجاب فريق من القوم للدعوة وكفر بها فريق آخر"27" هود. ولما ابتاس سيدنا نوح لعدم استجابة كل القوم لندائة أوضح الله لنا أنه قد خفف على رسوله عليه السلام لقوله تعالى:{ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} 36 هود.
لقد أوقع الإيمان في الآية "36" هود موقع العبادة. حيث جاءت مخاطبة لسيدنا نوح بالآتي: "...أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ..." بدلاً عن "...أنه لن يعبد من قومك إلا من قد عبد فلا تبتئس..." فاستبدلت كلمة يعبد بكلمة يؤمن. وكلمة عبد بكلمة آمن. مما يدل على أن العبادة هي الإيمان وهي التوحيد. والآية "58" هود تعضد ذلك حيث جاء فيها "... نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا..". ولم تكن"...نجينا هوداً والذين عبدوا معه...". وبنفس النهج جاءت دعوة سيدنا صالح لقومه: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ الله مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ}{قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ}61-62 هود فرفض فريق من قومه أن يعبدوا الله وحده وبالتالي لم يطيعوا الله ورسوله فعقروا الناقة فأنزل الله قوله: {فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} 66 هود. فنلاحظ أن الدعوة كانت كالآتي: " اعْبُدُواْ الله مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ .. فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ ولكن كانت النتيجة هي: " نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ ، ولم تكن "نجينا صالحاً والذين عبدوا معه" مما يؤكد أن العبادة والإيمان كلمتان مترادفتان في المعنى مختلفتان في اللفظ. وكذلك كانت دعوة شعيب لقومه أن يعبدوا الله أي يوحدوه ولا يشركوا به شيئاً ويطيعوا أوامره بأن لا ينقصوا الميزان والمكيال . فلما جاء أمر الله نجاه والذين أمنوا معه أي الذين أمتثلوا لعبادة الله وتوحيده والإمتثال لأوامره. وفي سورة الشعراء أوضح الله سبحانه وتعالى دعوة رسله لأممهم لعبادته. ولكن بلفظ يختلف عن اللفظ الذي ورد في سورة هود كما يلي: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ} {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} {فَاتَّقُوا الله وَأَطِيعُونِ} 108 الشعراء. استمرت الآيات توضح الدعوة إلى أن وصفت نتيجتها بالآتي: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} 8 الشعراء. لقد كانت دعوة جميع الرسل لأممهم موحدة في سورة الشعراء وهي "فَاتَّقُوا الله وَأَطِيعُونِ". فمن الملاحظ أن نتيجة الدعوة هي: " وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ" بدلاً عن "وما كان أكثرهم متقين". مما يدل على أن التقوى هي الإيمان والمتقون هم المؤمنون. وآيات دعوة الرسل ونتيجتهن في سورة هود أخبرن أن معنى العبادة هو الإيمان وأن العابدين هم المؤمنون. وبالتالي تكون العبادة هي الإيمان وهي التقوى أي التوحيد. فالعبادة إذاً هي دعاء وهي ذكر وهي حمد وهي توحيد وهي تقوى. وقد أوضح الحديث التالي أن الدعاء هو العبادة وهو: عن النعمان بن بشير، رضي الله عنهما، عن النبي، صلى الله عليه وسلم ، قال: "الدعاء هو العبادة" هذا الحديث يؤكد أن آيات ذكر الإله بالاسم "الله الرحمن الرحيم" أو آيات ذكره بأي لفظ فيه اسم من أسمائه هن دعاء وبالتالي هن عبادة. وآيات الحمد "لله رب العالمين" و" للرحمن الرحيم" و "لمالك يوم الدين" أو آيات الحمد للإله بأي اسم من أسمائه الوتر أو الشفع أو للإله بأي اسم لمكانته في الدنيا والآخرة هن دعاء وبالتالي هن عبادة و الله أعلم.
حكم العبادة
إن العبادة هي محور الرسالات حيث كان السبب الأول واللأخير لخلق الإنس والجن هو عبادة الله لقوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 56 الذاريات وبما أن العبادة هي الإيمان وهي التقوى وهي الحمد وهي الذكر فحكمها هو الفرض.
كيفية العبادة
بما أن العبادة هي توحيد الخالق توحيداً مطلقاً، فهي تنزيهه من الوالد والصاحبة والولد والشريك وكل ما لا يليق بذاته. فيستنبط من الآيات التالية أن لفظ العبادة هو التسبيح للخالق بأي من أسمائه أو أسماء مكانته:{ قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً}{ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا}{ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} 42-44 الإسراء.
إذاً يكرر المؤمن لفظ العبادة سبحان أو تبارك باستمرار توكيداً وتثنية لوحدانية الله وتثبيتاً للمؤمن على عبادته أي إيمانه وتوحيده. كما كانت {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} لفظ الذكر الذي يكرر، والشكر لفظ الحمد الذي يكرر وهكذا. ولتنظر إلي الآيات التالية: { وَقُرْآناً فَرَقْرقنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً} {قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا}{وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا}106-109 الاسراء نجدها توضح أن كيفبة العبادة ً تكون عملاً بالسجود وقولاً بلفظ سبحان ربنا. والآية 109 تؤكد أن التسبيح أي التوحيد يكون عملاً بالسجود والبكاء مما يزيد الخشوع أي الإيمان والتوحيد والتقوى والإسلام قوة ورسوخاً. وبما أن التسبيح يزيد الإيمان قوة فهو إذاً تثنية وتوكيد للتوحيد أي لكلمة "لا إله إلا الله".
وفي الآية التالية توكيد لما جاء في الحديث الذي أوضح أن الدعاء هو العبادة. والآية هي:{دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}10 يونس. فالمؤمنون الذين يدخلون الجنة في الآخرة يكون دعواهم فيها سبحانك اللهم. إذاً الدعاء يكون بلفظ العبادة سبحانك اللهم والدعاء أيضاً يكون بقول "الحمد لله رب العالمين" ولقد تم البرهان بالآيات والأحاديث أن الدعاء هو الإيمان وهو العبادة. فالحمد إذاً عبادة والعبادة حمد و كل منهما دعاء وكل منهما إيمان. ولهذا كان أول دخولهم في الجنة توحيد وتسليم وإيمان "لله رب العالمين" تسبيحاً، وآخر استقرارهم في الجنة هو أيضاً توحيد وتسليم وايمان "لله رب العالمين" حمداً. والآية التالية قد جاءت توحيداً لله وعبادته وحده وتنزيهه عن الشريك والصاحبة والولد بالتسبيح وهي:{اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ الله وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 31 التوبة وبعد هذا السرد من الآيات نكتفي بتوضيح معني العبادة وكيفيتها فهي توحيد الإله بقول: "لا إله إلا الله" ابتداءاً، ثم توكيد وتثنية "لا إله إلا الله" بتكرار لفظ التسبيح باستمرار قولاً وتكرار التسبيح عملاً بالفرائض والسنن حتى تكتمل العبادة إيماناً حقاً.
المقصود بإياك نعبد من تفصيل الآيات
إن توضيح معنى إياك نعبد هو توضيح إلى من المقصود بكلمة إياك. أي من هو المعبود. وبالتمعن في الآيتين التاليتين: {وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 100-101 الأنعام نجد فيهما أولاً استنكاراً من المولى أن يجعلوا له شركاء. وقد جاء التسبيح أي لفظ العبادة باسمه الله. ثم أكد وحدانيته بقول سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ. أي منزه من الشرك. وأوضح بعد ذلك أسباب توحيده وعدم وجود شريك له بانه بديع السموات والأرض وأنه خالق كل شيء. ثم سأل سؤال نفي موضحاً به أنه لم يتخذ صاحبة فأنى له بالولد! أما الآيات التالية فقد جاءت فيها العبادة للإله بالاسم الرحمن: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن آلِهَةً يُعْبَدُونَ} 45 الزخرف {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرحمن أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} 60 الفرقان. فالآية 45 الزخرف أوضحت أن الإله كان معروفاً بالاسم الرحمن لدي جميع الرسل المرسلين من قبل بأنه الإله الواحد الذي له العبادة وحده دون غيره. أما الآية 60 الفرقان فهي تؤكد أن السجود كما ذكرنا سابقاً هو تسبيح عملي وعبادة عملية وتوحيد توثيقي. لهذا أمر الله عباده بالسجود "للرحمن" أي للإله الواحد الاحد باسمه "الرحمن" فأنكروا ذلك ونفروا منه. ثم جاء التوحيد والتسبيح والعبادة للرب باسمه الرحمن لتنزيهه عن الشريك والصاحبة والولد كما يلي: { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرحمن وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} 26 الأنبياء {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرحمن وَلَدًا}{ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا}{ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا}{ أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا } { وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا} { إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرحمن عَبْدًا} { لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} 88-95 مريم. كما جاءت الآية التالية بالتسبيح أي بلفظ العبادة للرب بنعته: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} 180 الصافات
لقد ورد الذكر بالأسماء الوتر والأسماء الشفع. كما ورد الحمد بكل الأسماء التي ورد بها الذكر بالإضافة إلي أسماء مكانة رب العزة في الدنيا والآخرة. وبما أن العبادة مترادف الذكر والحمد في المعنى والمدلول فإن العبادة والاستعانة توجهان لخالق الخلق بجميع الأسماء التي ورد بها الذكر والحمد. لهذا نجد أن كلمة إياك تعني: يا إلهنا يا من اسمه "الله" واسمه "الرحمن" واسمه "الرحمن الرحيم" ويا من هو "رب العالمين" ويا من هو "مالك يوم الدين" كما نذكرك ونحمدك، ننزهك من كل نقص ونوحدك بتنزيهك من الشريك والصاحبة والوالد والولد ونستعين بك. فكلمة إياك في البداية أحسبها لتكفي عن تكرار سبحانك باسمك كذا وكذا وسبحانك بإسم مكانتك كذا وكذا. وذلك لتوضيح أن العبادة والاستعانة تكونان للإله بأي من أسمائه المذكورة أو بأسماء مكانته في الأولى والآخرة كما كان الحمد. وبنفس الطريقة تتم الاستعانة وقد عبر الشعراوي عن نفس المعنى ولكن من زاوية مختلفة وهي استحضار صفات الأسماء المختلفة التي وردت قبل إياك نعبد بدلاً عن استحضار الأسماء.
وبما أن العبادة دعاء فهي تجلب الخير وتكسب صاحبها الاستجابة لما يريده من ربه كما جاء في نداء سيدنا يونس لربه عندما كان في بطن الحوت:{وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ}87-88 الأنبياء فنداؤه هذا لم يكن به دعاء مباشرولم يكن به سؤال مباشر للنجاة، وإنما كان توحيداً مما يؤكد أن كلمات التوحيد والعبادة هن الدعاء الذي نتوجه به إلى الله. ثم أوضحت الآية 88 أن من يدعو الله بالتسبيح والتوحيد يستجيب الله له بتحقيق أهدافه. فيشير ذلك إلى أن الحديث القدسي من شغله ذكري عن مسألتي... ينطبق أيضاً على العبادة لأنها دعاء وذكر وتوحيد وحمد وتقوى كما ذكرنا أنه ينطبق على الذكر والحمد والله أعلم.
ثالثاً: معني الاستعانة وحكمها وكيفيتها من الآيات المفصلات
إن آيات هود الآتية توضح أن محور الكتاب كله ما أحكم من آياته وما فصل هو العبادة والإستعانة والآيات هي: "الر، كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير" "ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير" "وأن استغفروا ربكم ثم تولوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً إلي أجل مسمي ويؤت كل، ذي فضل فضله ، وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير"1-3 هود. لقد أوضحت هذه الآيات أن كل من الآيات المحكمات والآيات المفصلات تتلخص معانيهن في: ألا تعبدوا إلا الله واستغفروه وتوبوا إليه. أي اعبدوه واستعينوا به بالاستغفار والتوبة. فيعطيكم المقابل وهو أن يمتعكم متاعاً حسناً ويؤتي كل ذي فضل من فضله. وفي الآية التالية توضيح إلى دعوة سيدنا هود الموجهة إلى قومه لعبادة الله والاستعانة به وحده: { وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ} 50 هود
{وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ} 52 هود وأن الإستعانة كانت بالإستغفار. فالإستغفار يجلب المطر والرزق والقوة، وهو إذاً استعانة كاملة تشمل المغفرة. فلم يستجب إلى هذه الدعوة من قومه إلا القليل. وقد أوضح الله أن نتيجة دعوة جميع الرسل ممثلة في الآتي:{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} 36 هود أي أن جميع الرسل كانت دعوتهم عبادة الله والاستعانة به وحده. وأن القليل هم الذين آمنوا. فلم تكن النتيجة كالآتي: لم يؤمن لك ولن يستعين بك إلا القليل مما يدل على أن الدعوة عبادة واستعانة ونتيجتها إيمان.فهي إذاً دعوة للايمان بالله وحده. أي أن الاستعانة هي إيمان. ولهذا تبرأ سيدنا هود من قومه عندما أنكروا وحدانية الله وكفروا بربهم وذلك في قوله تعالى على لسان رسوله: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُو آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}56 هود معلناً توحيده المطلق لربه بالتوكل عليه والاستعانة به إيماناً منه بأن زمام كل أمر بيده. أما سيدنا يوسف فقد جاء سؤاله لربه بعد توكيد إعترافه له بنعمه عليه والإيمان به وتوحيده له كما يلي:{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}101 يوسف فالاستعانة كالحمد وكالذكر وكالعبادة. تبدأ بتوحيد الله ثم توكيده بالاستعانة به. فهي توقع موقع الإيمان لأن من لم يؤمن بالله لن يستعين به بل يستعين بغيره. فهي توكيد وتوثيق للإيمان الذي يؤدي إلى استجابة الله للطلب. فالنتيجة من العبادة والاستعانة هي توحيد الله والفوز برضائه والجنة.
فإذا كانت العبادة توحيداً فى الظاهر فهى إستعانة في الباطن لأنها ذكر كما سبق توضيحه والذكر دعاء. وإن كانت الإستعانة إستعانة فى ظاهرها فهى توحيد فى باطنها أو فى أصلها ومدلولها. إذاً العبادة إستعانة والإستعانة عبادة. ولهذا كانت الإستعانة مثنية ومؤكدة لمعنى العبادة في الآية "إياك نعبد وإياك نستعين". والآية التالية تؤكد أن العبادة أساس الاستعانة كما يلي:{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَالله لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَالله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 80 التوبة وهذه الآية دليل كافى على أن أساس الإستعانة بالله وحده هو قمة الايمان. وبالتالي يستنتج أن الإستعانة بالإله الواحد الأحد بدايتها "لا إله إلا الله" . ثم تكرار ألفاظ الإستعانة كالإستغفار والتوكل والمسألة مع العمل المستمر والمتكرر للأعمال الصالحة، أي أن العمل بالأحكام والفرائض والسنن مما يزيد "لا إله إلا الله" قوة ورسوخاً والله اعلم.
رابعاً: كيفية الإستعانة من الآيات
للاستعانة أوجه عديدة توضحها الآيات التالية: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَه مِنَ الثَّمَرَات مَنْ آمَنَ مِنْهُم بالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}126 البقرة في هذه الآية كانت الاستعانة من سيدنا إبراهيم حيث طلب من ربه الأمن والرزق لمن آمن بالله واليوم الأخر. وبتعبير آخر لا استعانة لمن لم يؤمن بل أن الاستعانة توكيد للايمان . والآية التالية تعضد ذلك:{ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء}38 آل عمران وطلب سيدنا زكريا من ربه أن يرزقه ويهب له ذرية وهو كهل وشيخ كبير يؤكد إيمانه بوحدانية الله بأنه القادر وحده علي كل شيء والأمر عنده هين. أي أنه وحده الذى يهب الذرية. كما أكد إيمانه بربه بأنه سميع الدعاء . أما طلب سيدنا نوح من الله أن ينجي له ابنه بحجة أنه من أهله كما في الآية : {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} { قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}45-46 هود جاء رد الله عليه موضحاً تفرد المولى عز وجل بعلم الغيب فيا سبحان الله ! كيف لا يعرف الأب أن أبنه ليس من أهله ؟ فأنظر كيف كان رد سيدنا نوح على رد مولاه : { قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ}47 هود فطلب سيدنا نوح الإستعانه من الله بالأستعاذة من الجهل ثم بالإستغفار والرحمة تثنية للإيمان بالخالق الواحد الأحد.
هنالك صور أخري للاستعانة بالخالق الإله الواحد الأحد والآيتان التاليتان توضحان صورة أخري للاستعانة : {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ الله إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} 32 يوسف{قَالَ مَعَاذَ الله أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّآ إِذًا لَّظَالِمُونَ} 79 يوسف
والإستعانة كما ذكرنا كانت بالاستعاذة كما في الآيتين أعلاه. وتكون الاستعاذة من الشيطان الرجيم ومن شروره وهي أهم نوع من أنواع الإستعاذة بالله كما جاء في الآية التالية: { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}{ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون} 98-99 النحل فالذين آمنوا أولاً وتوكلوا علي الله توكيداً لايمانهم سيكون الله هو مولاهم وهو الذي سيكفيهم شر الشيطان وسلطانه.
حكم الاستعانة من الآيات
لقد ورد حكم الاستعانة بالله في آيات سورة هود التي أوضحت أن ملخص آيات الكتاب محكمها ومفصلها هو ألا تعبدوا إلا الله وأن استغفروا ربكم ثم تولوا إليه فكان حكم العبادة والاستعانة بالله وحده فرض.
رابعاً: المقصود بإياك نستعين
إن توضيح معنى إياك نستعين هو توضيح لمن هو الذي تطلب منه الإستعانة أي من هو المقصود بإياك. والآيات التالية تجيب على ذلك: ففي الآية: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا} 18 مريم توضيح بأن المستعان هو الإله باسمه "الرحمن". وجاءت الاستعانة بالاسم الاله "الله" كما في الآية: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بالله إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أما الآية: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} 83 الأنبياء فكانت الاستعانة باسم المكانة رب العالمين. ولنتمعن في الآيات التالية التي أوضحت أن الكتاب منزل من الإله الواحد الأحد الذي اسمه "الرحمن الرحيم" والذي أوحى للرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلن أنه بشر ولكن هنالك إله واحد يجب أن يعبد ويطاع وحده ويستعان به وحده. إذاً يستعان بالإله باسمه الشفع "الرحمن الرحيم" والآيات هي : { تَنزِيلٌ مِّنَ الرحمن الرَّحِيمِ} 2 فصلت {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ} 6 فصلت
بذا يكون معنى "إياك نستعين" هو أن الدعاء والعبادة والتقوى والذكر والحمد موجهون للإله بكل أسمائه التي وردت في آيات سورة الفاتحة التي سبقت آية إياك نعبد وإياك نستعين وبمعنى آخر: إياك يا "الله الرحمن الرحيم" يا "رب العالمين" و يا"الرحمن
الرحيم" ويا "مالك يوم الدين" ؛ نستعين بك لا نفرق بين أسمائك هذه أبداً.
وأسباب العبادة والاستجابة لله وحده هي أن الله قد خلق كل كبيرة وصغيرة في هذا الكون وهو مدبر الأمر وحده. والكل لا حول ولا قوة له إلا بالله كما أوضحته الآيات التالية: {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}102-103 الأنعام {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْس وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} 13 فاطر. أوضح الإله عز وجل في الآيتين 102و103 الأنعام أنه خالق كل شيء وانه الإله الواحد الأحد فأعزنا بالعبادة له، أي بتوحيده والتوكل عليه. وأوضحت الآية 103 أن الإله لا يري بالنظر نسبة لأن بصر الخلائق محدود لايصل لمكان وجوده. ولهذا جعل الله للخلائق بصائر ينظرون من خلالها أي يعلمون به من خلالها. والبصائر هذه هي كتبه السماوية التي أرسلها لرسله لتوضح للناس وجود خالق هذا الكون وما فيه مما يستوجب عبادته وطاعته والإستعانة به وحده. فيكون نظرنا له ومعرفتنا به من خلال آياته الكونية ومخلوقاته. ولهذا من آمن وصدق وعلم أي أبصر فلنفسه لأن العبادة لها مقابلها أي أن الله يجزي عليها. ومن كفر وكذب وجهل فعلي نفسه لأن الكفر مقابله العذاب.
أما الآية 13 فاطر فقد أكدت أن الدعاء والإستعانة بغير الله خسران وضياع لأنه وحده الذي له الملك وغيره لا يملكون شيئاً ولا حتى اليسير من نواة التمر فيا سبحان الله !
خامساً: الصورة التي جاءت بها الآية
لقد جاءت التثنية والتوكيد في آيات الفاتحة الأولى بصور مختلفة. قالآية {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} جاءت بشطرين أي أن كلمة بسم قد وردت في الشطرالأول فقط وكانت مستترة في الشطر الثاني. وكذلك الآية {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} جاءت بشقين بالرغم من أن كلمة الحمد قد وردت في الشطر الأول فقط وكانت مستترة في الشطر الثاني.ثم جاءت التثنية والتوكيد للذكر والحمد باسم الذات الشفع "الرحمن الرحيم"، فلم يظهر توكيده للحمد إلا بعد تطبيق قاعدة التطابق البدل والابدال. كما جاءت التثنية والتوكيد باسم المكانة "مالك يوم الدين" فقط ولم تظهر تثنيته وتوكيده للحمد إلا بعد تطبيق قاعدة التطابق البدل والابدال. أما الآية: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فقد جاء شطراها كاملين. فجاء الشطر الثاني مثنياً ومؤكداً للشطر الأول. لذا جاءت التثنية والتوكيد فيها بصورة مباشرة. حيث تكرر لفظ إياك في الشطرين. ولم يأتي مستتراً في الشطرالثاني كما كان الحال في الآيات الأولى. وأحسب أن الحكمة في ذلك هي توكيد أن كل آية من الفاتحة تتكون من شطرين وأن الكلمة التي ترد في بداية الشطر الأول تتكرر في بداية الشطر الثاني. كما أحسب أن هذه الآية قد اختيرت تحديداً لأن لفظ العبادة كانت محور الرسالات وهو الذي ارتكزعليه قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (56) الذاريات وبما أن العبادة هي التوحيد والذكر والحمد فقد جاءت الآية توكيداً لتوحيد الله حيث أن المؤمن وحده هو الذي يعبد الله ويستعين به كما جاء في آيات هود. عليه تكون الآية {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مثنية ومؤكدة للآيات التي سبقتها. بالإضافة إلى أن بها تثنية وتوكيد للتوحيد بداخلها. إن أهم لفظ يوضح عبادة الله أي توحيده هو التسبيح لأنه تنزيه للإله من الشريك ومن الوالد والصاحبة والولد. وقد ابتدأت بالتسبيح آيات كثيرة لتوضيح معني التسبيح وأحكامه وتشريعاته وفائدته. وكل سورة ابتدأت بالتسبيح تدرج تحت آية {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. وقد جاء التسبيح بالفعل الماضي "سبح" وبالفعل المضارع "يسبح" وبالمصدر "سبحان" أي موحد ومنزه ومقدس. وقد بلغ عدد السور التي ابتدئت بالتسبيح ثمانية سور