المبحث الثالث
{الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}
لقد استنتج من تفصيل الآية {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} أن {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} هو اسم واحد مكون من إسمين أى أنه إسم شفع لصفة المفاضلة "الرب الأكرم". وعلمنا سبب ارتباطهما ببعضهما البعض في آيات القرآن. ثم جاءت آية كاملة بهذا الإسم الشفع في سورة الفاتحة. فما هو السر الذي جعل من هذين الاسمين آية؟ ومن أجل الوصول إلى الإجابة على هذا السؤال سوف يتم تفصل الآية بالأسئلة. ومن ثم نبحث عن إجاباتها من آيات الله المفصلات والأحاديث والقصص والأمثلة إن أمكن.
تفصيل الآية {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} من الآيات والأحاديث
يتم تفصيل الآية بالأسئلة التالية: أولاً: ما المقصود بالآية {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}؟ ثانياً: لماذا جاءت الآية بهذه الصورة أي باسمين فقط ؟ ثالثاً: ما هو حكم هذه الآية وما كيفية تطبيقه ؟
المقصود بالآية {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} من تفصيل الآيات
لقد استنتج البحث أن معنى الآية "الحمد لله رب العالمين" هو نفس معنى "بسم الله الرحمن الرحيم". فاتضح أن الذكر يكون بأسماء الذات فقط. حيث جاء تفصيل الذكر بالاسم الوتر"الله" وجاء بالاسم الشفع "الرحمن الرحيم". ثم كان بالاسم الثلاثي "الله الرحمن الرحيم" ولم يأت باسم المكانة "رب العالمين" قط.
ولكن الحمد جاء بالاسم الوتر"الله "وجاء باسم المكانة "رب العالمين". فهل يعني أن الحمد لا يأتي بالاسم الشفع ؟ أعتقد أن الآية {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} قد جاءت مباشرة بعد آية {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إجابة على هذا السؤال لتوضيح أن الحمد "للرحمن الرحيم" أيضاً كما كان الذكر "للرحمن الرحيم".
وبالتالي يستنبط أن الحمد يكون للإله بأي من أسمائه وبأي من أسماء مكانته ولكن الذكر يكون بأسمائه فقط. بذا يكون الحمد "للرحمن الرحيم" هو تثنية وتوكيد للحمد لله رب العالمين، كما كان الذكر بالاسم الشفع "الرحمن الرحيم" تثنية وتوكيد للذكر بالاسم الوتر "الله". ولكن ما زال السؤال قائماً وهو : لماذا أنزلت الآية بهذه الصورة أي باسمين فقط؟
سبب نزول الآية بهذه الصورة
لقد أنزلت هذه الآية باسمين فقط أي"الرحمن الرحيم" لأنها آية محكمة ليظهر تفصيلها أحد معالم إعجاز اللغة العربية في القرآن. حيث أن الاسمين "الرحمن الرحيم" كما ذكر سابقاً هما إسم واحد يطابق الاسم الله ويطابق الاسم الرحمن وويطابق اسم المكانة "رب العالمين" تطابقاً كاملاً. فكل منهم دلالة واضحة للذات الإلهية. فإذا استبدل اسم المكانة "رب العالمين" في الآية الحمد لله رب العالمين" بالاسم "الرحمن الرحيم" تكون الآية هي: " الحمد لله الرحمن الرحيم" بدلاً عن "الحمد لله رب العالمين"
وبهذا تكون الآية: "الحمد لله الرحمن الرحيم" مثنية ومؤكدة للآية "بسم الله الرحمن الرحيم": وللآية "الحمد لله رب العالمين" وقد علمنا أيضاً من تفصيل الآيتين "بسم الله الرحمن الرحيم" و"الحمد لله رب العالمين" أن كل واحدة منهن مكونة من شطرين كالآتي: "بسم الله" و"بسم الرحمن الرحيم" و"الحمد لله" و "الحمد لرب العالمين". فكانت كلمة واسم في الشطر الثاني من الآية "بسم الله الرحمن الرحيم" مستترة. وكلمة والحمد في الشطر الثاني من الآية "الحمد لله رب العلمين" مستترة. عليه يستنتج أن الآية "الرحمن الرحيم" أصلها "والحمد لله الرحمن الرحيم". فكانت جملة "والحمد لله" مستترة. والسبب في ذلك هو أن الحمد للإله الواحد الأحد يكون بالأسماء الوتر وباسماء المكانة وبالأسماء الشفع والأسماء الثلاثية. ولكن الذكر يكون بأسماء الذات الوتر وبأسمائها الشفع والثلاثية فقط ولا يأتي بأسماء المكانة. مثنية ومؤكدة لتوحيد الإله عز وجل. فلا يحمد المرء ربه إلا إذا كان مؤمناً في الأساس بوحدانيته وأسمائه. وبالتالي هي من المثاني أي من المؤكدات لتوحيد الله أي لكلمة "لا إله إلا الله" ومن المثبتات للمؤمنين على إيمانهم بتكرارها المستمر والله أعلم.
حكم الآية، وكيفية تطبيقه وأسباب الحمد "للرحمن الرحيم"
ومن أجل تحديد الحكم فالنتمعن في معنى الآية التالية مرة أخرى ونتدبرها: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرحمن الرَّحِيمُ} 163 البقرة. فالإله الواحد الأحد هو" الرحمن الرحيم". أي أن الألوهية جاءت باسم "الرحمن الرحيم". وبما أن حكم الذكر كان فرض للإله باسمه "الرحمن الرحيم" وأن الحمد فرض لذات الإله بجميع أسمائه، فإن حكم الحمد "للرحمن الرحيم" هو فرض وأيضاً.
وإذا تدبرنا آيات سورة فصلت نجدها قد أنزلت "بالرحمن الرحيم". حيث جاء فيها:{حم} {تَنزِيلٌ مِّنَ الرحمن الرَّحِيمِ}1-2 فصلت. وبعد إلإخبار بأن الكتاب هو تنزيل من "الرحمن الرحيم" وأن الكفار لم يؤمنوا به ولم يوحدوه، أوضحت الآيات أن الكفار الذين لم يوحدوا "الرحمن الرحيم" هم الذين لم يقيموا الصلاة ولم يؤتوا الزكاة فلهم النذير. ثم جاءت الآية 9 مستنكرة كيف يكفرون بمن خلق الأرض في يومين ويجعلون له أنداداً؟ فمن هو الذي كفر به بعض الناس؟ ألم يكن هو الذي نزل الكتاب بشيراً ونذيراً وهو "الرحمن الرحيم"؟ إذاً كان استنكار الآية هو كيف يكفرون"بالرحمن الرحيم" وهو"رب العالمين". بهذا يكون الاسم "الرحمن الرحيم" في الآية 2 فصلت قد استبدل باسم المكانة "رب العالمين" في الآية 9 فصلت. وبما أن الإله هو رب العالمين فحكم الحمد له فرض وواجب لأنه إيمان وذكر ودعاء.
كيفية تطبيق حكم الآية
بما أن الحمد للإله لا يختلف مهما اختلفت مسمياته، كانت كيفية الحمد "للرحمن الرحيم" هي نفسها كيفية الحمد "لله رب العالمين" أي يكون الحمد "للرحمن الرحيم" قولاً باللسان وعملاً بالجوانح أي بالطاعات مع الصبر على كل حال خيره وشره. والحكمة في ذلك هي: أن من يؤمن بوحدانية الله يؤمن بجميع أسمائه وأسماء مكانته لا يفرق بينها. فالذكر يكون بأي من الأسماء فقط. أما الحمد فيكون بأي من أسمائه أو بأي من أسماء مكانته والله أعلم.
أسباب الحمد "للرحمن الرحيم"
بما أن "الرحمن الرحيم" هو "الله" وهو "الرحمن" وهو"رب العالمين" فأسباب الحمد واحدة. فحمده يكون لوحدانيته بخلقه لجميع المخلوقات وملكيته لكل شيء، ونعمه على خلقه وهدايتهم إلى الحق. أي أن كل أسباب الحمد التي تم تلخيصها في نهاية تفصيل الحمد لله رب العالمين تنطبق على الآية: "الرحمن الرحيم".
بذا نصل إلى أن الآيات "بسم الله الرحمن الرحيم" و "الحمدلله رب العالمين" و"الرحمن الرحيم" متشابهات في المعنى والمدلول بالرغم من اختلاف ألفاظهن وذلك لتشابه تفصيلهن والله أعلم