عبدالله بوقصة .عضو فعّال
البلد : الجزائر عدد المساهمات : 30 نقاط : 66 تاريخ التسجيل : 28/05/2010 الموقع : جامعة حسيبة بن بوعلي الشلف المهنة : أستاذ جامعي
| موضوع: التداولية بين النشأة و المفهوم 2010-08-13, 22:46 | |
| - مفهوم التداولية:
تعد التداولية مبحثًا من مباحث الدراسات اللسانية التي تطورت إبّان سبعينيات القرن العشرين، و هذا المبحث يدرس كيفية فهم الناس بعضهم لبعض، و إنتاجهم لفعل تواصلي كلامي في إطار موقف ملموس و محدد، فهي دراسة مفصلة تتعامل مع المعاني التي يتغاضى عنها علم الدلالة... و تقع الدلالة كأكثر الدروس حيوية في مفترق طرق الأبحاث الفلسفية اللسانية. و تأتي أهمية التداولية الجوهرية في النص الأدبي المعاصر لأنها تحاول الإحاطة بالعديد من الأسئلة، مثل: من يتكلم؟ و ما هو مصدر الإيضاح و التشويش في الكلام؟ و كيف نتكلم بشيء و نريد قول شيء آخر؟
و ينصرف المفهوم اللغوي للتداولية المشتق من مادة"دول"إلى معانٍ كثيرة منها: التناوب، و النزاع، و النصرة، و التنقل... فقولهم: تداولنا الأمر معناه أخذناه بالتداول... و قالوا: دواليك أي مداولة على الأمر، و دالت الأيام أي دارت، و الله يداولها بين الناس، و تداولته الأيدي: أخذته هذه مرة وهذه مرة ...و تداولنا العمل بيننا بمعنى تعاوننا عليه، فعمل هذا مرة و عمل هذا مرة.(1)
وتكاد هذه الإحالات اللغوية جميعها تؤسس لوجود طرفي التداول
(الباثEmetteur ، و المتلقيٌRécepteur ) كتداول المال مثلا.
ثمّ إنّ المفهوم الاصطلاحي للتداولية تتقاذفه مصادر معرفية عديدة، فقد اعتبرت ملتقى لمصادر أفكار و تأملات مختلفة يصعب حصرها، إضافة إلى أنها تتداخل مع علوم أخرى، مما جعل مجالها ثريا وواسعًا و عسيراً.(2)
فاللسانيون ليسوا وحدهم المعنيين بالتداولية، بل إنها تعني الكثير من الفلاسفة،
و المناطقة، و السوسيولوجيين، و السيكولوجيين و تتجاوز اهتماماتها إلى الأبحاث المتعلقة بالدلالة و التواصل، و تطغى على موضوع الخطاب لتصبح نظرية عامة للنشاط الإنساني.(1)
ونظراً لاتساع حدودها، أقرّ العديد من الدراسين غموض معالمها، فهي درس جديد
و غزير إلا أنه لا يملك حدوداً واضحة... و لعل من أهم الصعوبات التي تصادف التعريف بالتداولية عدم استقرارها على مصطلح، يشمل مقولاتها و مجالاتها العديدة حيث تعددت التسميات العربية للمصطلح الأجنبي Pragmatique.*
فقيل: البراغماتية بعدها نقلا حرفيا عن المصطلح الأجنبي،
و قيل: التداولية، و المقامية، و الوظيفية، و السياقية، و الذرائعية، و النفعية. و بين هذه الألفاظ – في حقيقة أمرها- فروق لا تسمح باستعمالها مترادفة لتكون مقابلاً للمصطلح الأجنبي.
فإذا كانت البراغماتية تعنى بخصائص استعمال اللغة عند المتكلمين، و ردود أفعال المستقبلين، و النماذج الاجتماعية للخطاب... ثم تحولت فيما بعد مع أوستين Austinإلى دراسة أفعال اللغة، ثم امتدت بعد ذلك و اتسعت لتشمل نماذج الاستعمال و التلفظ و شروط الصحة و التحليل الحواري.(2)
فإن الذرائعية تهتم بالفائدة العملية للفكرة كمعيار لصدقها، و تعتبر فكرة الموضوع ما هي إلا مجموعة أفكار لكل الوقائع المتخيلة. فهي نظرية فلسفية تلحّ على المكون العملي الفاعل للإنسان قصد بلوغ المعرفة.(3)
ـ لكن مصطلح التداولية هو الذي صار مهيمنا على استعمالات الدراسين، و بتعريفات متنوعة تعكس التنوع المعرفي الذي نشأ فيه الفكر التداولي، مما جعل الباحث يقف أمام تداوليات لم تتحدد بعد مع أنها في قمة ازدهارها.(1)
و لقد مكننا فحص مدونة تعريفات التداوليات من تصنيفها إلى الحقول الموالية:
أ- تعريفات ترتبط بحقل نشأة التفكير التداولي
1- تعريف تبناه تشارلز موريس Charles Morris:
استخدم هذا الفيلسوف الأمريكي، مصطلح التداولية بمفهومه الحديث سنة1938م، دالاً على فرع من فروع ثلاثة يشتمل عليها علم العلامات أو السيميائيةSémiotique *.
و اعتبر موريس التداولية جزء من السيميائية التي تعالج العلاقة بين العلامات و مستعمليها أو مفسريها( متكلم، سامع، قارئ، كاتب....) و كان ذلك حينما شرح أبعاد السيميائية الثلاثة:
1- علاقة العلامات بالموضوعات و ذلك بعد دلالي يهتم به علم الدلالة Sémiotique
4- علاقة العلامات فيما بينها، و ذلك بعد تركيبي يهتم به علم التراكيبSyntaxe .(2)
5- علاقة العلامات بالناطقين بها و بالمتلقي و بالظواهر النفسية و الاجتماعية المرافقة لاستعمال العلامات و توظيفها و ذلك بعد تداولي تهتم به التداولية..
و يعود هذا التصنيف أصلا إلى بيرسPerce الذي قدم إسهاما كبيرا حين ميز بين النمط و الورود، فالنمط هو علامة لها كيان مجرد مثالي و تقع في اللسان، أي في الوضع اللغوي، في حين أن الورود هو الاستعمال الملموس للنمط في السياق، و لكن لم يظهر تقسيم بيرس بالوضوح التداولي الذي ذكره موريس.
2- تعريف تبناه أوستينAustin و تلميذه سيرلSearle
و يجعل حقل فلسفة اللغة العادية نواة لتأسيس التداولية، و يحدد مصدرها انطلاقا من إشكالية أفعال الكلام التي طورت آليات معالجة اللغة: الحجاج، أنواع الخطاب.(1)
و تجمعت عند رواد هذا التعريف مقولة مفادها أن " فهم الإنسان لذاته و لعالمه يرتكز في المقام الأول على اللغة فهي التي تعبر على هذا الفهم"
ثم لعب الفيلسوف لودفيغ فيتغنشتاينL.Wittgnstein - الذي تأثر بالفلسفة التحليلية – دوار هاما في إسقاط الفلسفة التحليلية على اللغة.. و لكن تراثه لم يكتسب العناية الحقيقية إلا بعدما تبناه فلاسفة مدرسة أوكسفورد، و لا سيما جون أوستين و جون سيرل، ثم تبعهما بول غرايس P. Grice الذي بذل جهدًا جبارًا في تطوير الدرس التداولي خاصة عند حديثه عن مبادئ المحادثة.(2)
ب- تعريفات ترتبط بحقل موضوع التداولية ووظيفتها:
و قد اشتمل مصطلح التداولية في هذا المضمار تعريفات تعتبره:
- مجموعة بحوث منطقية و لسانية في دراسة استعمال اللغة و مطابقة التعبيرات الرمزية للسياق الوصفي الفعلي و العلاقات بين المتخاطبين.
- دراسة استعمال اللغة في الخطاب و الآثار المترتبة عن ذلك
- دراسة اللغة بوصفها ظاهرة تواصلية، اجتماعية، خطابية، حجاجية.
و من الواضح أن هذه التعريفات جميعها ترتبط بفكرة الاستعمال التي ربما ترددت بشكل أو بآخر، فالتداولية هي دراسة اللغة التي تركز الانتباه على المستعملين، و سياق الاستعمال اللغوي، بدلاً من التركيز على المرجع، أو الحقيقة، أو قواعد النحو.
فالتداولية تدرس استعمال اللغة في السياق،و توقف شتى مظاهر التأويل اللغوي على السياق، فالجملة الواحدة يمكن أن تعبر عن معانٍ مختلفة من سياق إلى آخر.و تداول اللغة عمليا هو استخدامها في شتى السياقات و المواقف الواقعية، و علاقة ذلك بمن يستخدمها بغض النظر عن نظم الألفاظ و دلالاتها.
و من الأسئلة المثيرة التي من شأنها أن ترسم حدود التداولية و تشرح وظيفتها في تناول الخطاب الأدبي الراهن من جهة، و دراسة اللغة أساسًا من جهة ثانية:
- ماذا نصنع حين نتكلم؟ و ماذا نقول بالضبط؟ و مع من نتكلم؟
و لماذا نتكلم؟.........الخ (1)
فالتداولية إذن ملتقى أطراف عدة نحو العلوم الاجتماعية و الفلسفية و اللغوية و التربوية و النقدية و المعرفية، و هو ما يجسد الطابع الشمولي الذي تنزع إليه.
ج- تعريفات ترتبط بحقل التواصل و الأداء:
التداولية تخصص لساني يدرس كيفية استخدام الناس للأدلة اللغوية في صلب أحاديثهم
و خطاباتهم، كما يعنى من جهة أخرى بكيفية تأويلهم لتلك الأحاديث و الخطابات.(2)
أو هي لسانية الحوار و الملكة التبليغية..(3) لأنها تسعى إلى معرفة مقاصد المتكلم،
و أغراض كلامه فالمعنى لا يستقى من البنية و حدها، و هي الجانب اللغوي منه، بل من الجانب السياقي أيضا، كأن يذكر المتكلم أمرًا، و هو يعني أمرًا آخر نحو قول أحدهم لمن يدخل عليه المكتب و يترك الباب مفتوحًا: ألا ترى أن الجو بارد؟ و قصده في ذلك: اغلق الباب. و على السامع أن يدرك ذلك القصد لنجاح التواصل و إحداث التفاعل.
و هكذا قد جعل بعضهم التداولية تشرح وضعية التواصل، و سياقه، و تفتح أبواب دراسة المسكوت عنه و الجانب الضمني من الحديث.(4)
و أول الاتجاهات التي تصادفنا في هذا المضمار هو كون التداولية تعدُ امتدادًا للسانيات التلفظ و لمفهوم الدلالة باللغة و الدلالة الوليدية..(1)
حيث ميّز الدارسون بين دلالتين: دلالة ترتبط باللغة حسب المقترح السويسري، و دلالة ترتبط بلسانيات الكلام حسب المقترح الأوستيني،الذي يمثل أحد مفاهيم التداولية.
و قد عرّفها دومنيك مانغونوDominique Maingueneau بكونها أي التداولية مكون من مكونات اللغة إلى جانب المكون الدلالي، و المكون التركيبي، فهي كمكون تداولي تعالج وصف معنى الملفوظات في سياقها، فالملفوظ نفسه ( الوالد ليس هنا) مثلا يؤول حسب السياقات، كملفوظ تهكمي، أو كدعوة لاحترام النظام، أو كنتيجة لمحاججة....الخ (2)
و في ختام عرضنا لمدونة تعريفات التداولية، لاحظنا اتفاقها على أن اللغة اجتماعية يمارسها أناس يعيشون في المجتمع، وفق قواعد الخطاب المتفق عليها، و كذا ارتباطها بظروف النشأة، والخلفية الفكرية....ذلك أن التداولية- في الغالب- لم تعرف بماهيتها، بل بإجراءاتها و تفسيراتها للخطاب، كأن نقول في تعريفها:
التداولية تقوم على التفكير اللغوي، و ما يتعلق بفعالية الخطاب في الواقع المعيش.
و موضوع التداولية هو في الحقيقة مثير للكثير من الجدل نظرًا لطبيعته أولاً من حيث التناول، ثم من حيث جهازه المفاهيمي و الإجرائي إذ أنه لحد الآن لم يجمع أجزاء علميته.
و ترجع التداولية في أصولها إلى مزيج من التوجهات و المناهج اللسانية و الفلسفية التي كان رائدها( غوتلوب فريجة، (Gottlobe Frege و ( بول غرايس،P.Grice )
و ( شارلز موريس،Ch. Morris ).. و فلسفة التواصل أو نظرية الفعل التواصلي لـ
( أ. ماس.A. Masse ) التي أسهمت في نظرية الفعل الكلامي لـ ( أوستين.Austin )،
و القوة الإنجازية لذلك الفعل ـ( سيرل.Searle )، و قد تفرعت اهتماماتها في ما يلي:
1- الأفعال الكلامية(د. مسعود صحراوي) 1*
ركز على أفعال الكلام Actes de parole عند الأصوليين فقسمها إلى:
- فعل القولActe de dire أوActe locutoire
- القوة المتضمنة في القول Force illocutoire
- الفعل الناتج عن القولActe perlocutoire
2- الوظائف التداولية( فان ديك Van dick) 2*
رصد الوظائف اللغوية التداولية ضمن نمودج لساني أسماه نظرية النحو الوظيفي و قد نقله إلى العربية الباحث المغربي أحمد المتوكل.(1)
3- متضمنات القول(ك. ك. أوركيوني) 3*
يتكون كلامنا العادي من جانب تصريحي يعرف من المظهر الحرفي للملفوظات، و جانب آخر ضمني يفهم استنتاجًا من ذلك.. فقولنا مثلا " أقلع فلان عند التدخين" نستنتج منه ضمنا أن " فلان كان يدخن"
4- الحجاج (أو صوالد ديكروا.oswald Ducrot)
حمل المخاطب على الاعتراف بمتضمنات القول و الاهتمامات في هذا الصدد كثيرة جدًا لا يسع المجال لذكرها كلها، و إنما ذكرنا ما هو شائع منها فقط...
ــــــــــــــــــ
*1 الدكتور مسعود صحراوي، أستاد علم اللغة بجامعة الأغواط( الجزائر)، من مؤلفاته" التداولية عند العلماء العرب"، دراسة تداولية لظاهرة الأفعال الكلامية في التراث اللساني العربي.
*2 فان ديك Van dick لساني هولندي يكتب بالإنجليزية و الفرنسية، وضع معالم نظرية نحو النص، من أعماله: نحو النص و البنية السردية،و السياق التداولي...ألخ.
1
*3 ك.ك أوركيوني باحثة لسانية ابتدأ مشوارها العلمي من دراستها في دار المعلمين العليا، فتحصلت على دكتوراه في اللسانيات، و شعلت منصب أستاذة بجامعة ليون الفرنسية من كتبها :
L'implicite, les interactions verbales, la connotation … |
|