[rtl]ما كان يطوف بخَلدي أن أكون يوما ما أجيل النظر في مبدإ تناسخ الأرواح أو تجاذب العقول عبر الدهور . أو مبدأ الحلول عند الصوفية ، ذلك أن زميلا لي حديث العهد بصحبتي ، ربطت بننا زمالة العمل بالمؤسسة التي أعمل بها ، كنت أحس به قريبا مني بحكم تقارب طريقة التفكير والتأويل ووحدة الهدف وطريقة العمل وإن اختلفنا في نوع المادة التي يدرسها كل واحد منا فهو يدرس مادة الفلسفة وأنا أدرس مادة التربية الإسلامية بيني وبين صاحبي موازنة ابن رشد " الشرع لا يناقض العقل والعقل لا يناقض الشرع والواحد منهما لا ينفي الآخر " . [/rtl]
[rtl] ليس هذا الذي أثار عجبي ، وإنما التشابه الذي يكاد يكون متطابقا كل التطابق بينه وبين واصل بن عطاء شيخ المعتزلة وإمامها الناطق بلسانها ، فكلاهما بحسب ما خبرته من الأول وعلمته عن الثاني ذوا صفات متقاربة جدا فكأنما حلت روح أحدهما في الآخر ، لا أقول حلت روح الأول ـ زمنيا ـ في الثاني الذي يعيش حاليا ، وإلا سيُسمعني صاحبي من الحجج والبراهين ما لا أستطيع رده والذود عنه ، من عدمية تناسق الزمن أو أن الأرواح تعيش في اللازمان ، وأن لكل زمان رجاله ، وثقافة اليوم ليست هي ثقافة الأمس وهلم جرا ..[/rtl]
[rtl] على كل حال إذا رأيتُ صديقي تذكرت واصلا وإن قرأت عن واصل تبدى لي صديقي شاخصا أمامي فكأنما روحه هي التي سكنت جسد واصل ثم عادت في زمننا تسكن جسمه الفيزيقي هذا أو أنه هو عاش في القرن الرابع باسم واصل ويعيش بين ظهرانينا باسم نور الدين ! أيمكن أن يصدق في هذا الباب قوله تعالى: " يخلقكم خلقا من بعد خلق " [/rtl]
[rtl] التشابه بين الرجلين يتمثل في أن واصلا كان ألثغا وصاحبي مثله ألثغ ، يعني أنه ينطق حرف الراء شبيهة في مخرجها بحرف الغين . واصل بن عطاء كان مفوها لا يعجزه اللفظ في تبيان ما يريد قوله والإفصاح عنه وقد يلقي الكلمة لمدة ساعتين لا يعيى بها ولا يخطئ ولا يكرر المفاهيم ، وصاحبي مفوه مثله حتى أنه قد يقنعك باللامعقول فيظهر لك معقولا ، ويتحدث لمدة طويلة دون كلل أو ملل ودون أن ترى في خطابه تدنيا أو إسفافا بقدر ما يزداد شموخا وعلوا متناسقا متماسكا ، وهو بقدر انسيابه في حديثه وجزالته بقدر قوته وسلاطة لسانه ، إن سلطه على أحد فكأنما هو " ذو الفقار " سيف علي كرم الله وجهه ، عندما يضرب به أعداء الله ، أو سيف إقليدس عند غيْرنا من بني الأشقر، إن تحدث فعليك الإصغاء إلى أن ينهي كلمته التي تتناسل وتتوالد في متوالية حسابية منطقية غير متناهية ، فإن أنت قاطعته بعد نفاد صبرك ورغبتك في التعجيل بالرد أو الاستطراد أو التعقيب ،فسيمطرك بوابل من النصائح في مجال أدب الحوار والتربية الخلقية وأدبيات الجدال والمناظرة و... وهذا يصبح كذلك خطاب غير منتهي ! ما يتشابه فيه صديقي هذا وصديقنا التاريخي واصل بن عطاء هو الأسلوب السلس المبني على المنطق والتفكير الفلسفي المبني على الحجة تدمغ الحجة والدليل يسوق الدليل ، والإستنباط بعد إجالة النظر والعلل وما إلى ذلك .[/rtl]
[rtl] ما يمكن قوله من كل هذا أننا قد نجد في مجتمعنا الحديث نسخا مطابقة لإنسان عاش في القديم ، منذ قرون خلت ، في مجال من المجالات، أو في طبع من الطباع أو في صفات من الصفات والتاريخ يعيد نفسه بواسطة أشخاصه الذين يعيشون بين ثناياه.ولهذا نقول مثلا: فرعون العصر للظالم المتجبر، ونقول : قيس وليلى لاثنين متحابين ، ونقول : وافق شن طبقة ، ونقول ، ونقول... وفي كل قول نستدعي شخصية تاريخية ما ، عاشت في زمن ما أو أمة من الأمم البائدة أحيت طبائعها أمم لا حقة ، لذلك فتاريخ الأمم لا يفنى بقدر ما يتجدد في صور ظاهرة جلية تارة ومضمرة مستترة تارة أخرى، ومنه تمتح الشعوب وعن طريقه تتجدد دماؤها وتحيا ، كالشجرة كلما ضربت بجذورها في أعماق الأرض كانت حية خضراء مزهرة تؤتي أكلها كل حين ،وكلما انبثت من على وجه الأرض وتسطحت سارع إليها الشحوب واليبس ما لها من قرار . [/rtl]