2- المعاني المتولدة عن معاني الطلب الأصلية.
تخرج معاني الطلب الأصلية الخمسة، حين يمتنع مقاميا إجراؤها على الأصل، إلى معان أخرى كالإنكار والتوبيخ والزجر والتهديد وغيرها كما سبق أن أشرنا إلى ذلك.
ويحصل، في حالة عدم المطابقة المقامية، أن يتم الانتقال من معنى إلى معنى داخل معاني الطلب الأصلية نفسها، إذ يمكن أن يتولد مقامياً، من الاستفهام التمني، وعن التمني الاستفهام مثلاً.
أما عملية الانتقال ذاتها فإنها تتم بحسب السكاكي بالطريقة الآتية: في حالة إجراء معاني الطلب الخمسة على أصلها، أي في مقامات مطابقة لشروط إجرائها على الأصل، يتعذر الانتقال وتحمل الجملة المعنى الذي تدل عليه صيغتها بدون زيادة في حالة إجراء المعاني الخمسة في مقامات غير مطابقة لشروط إجرائها على الأصل، يحصل الانتقال، ويتم في مرحلتين متلازمتين اثنتين.
المرحلة الأولى:
يؤدي عدم المطابقة المقامية إلى خرق أحد شروط إجراء المعنى الأصلي فيمتنع إجراءه.
المرحلة الثانية:
يتولد عن خرق شرط المعنى الأصلي وبالتالي امتناع إجرائه معنى آخر يناسب المقام.
3- مثال: الاستفهام ومولداته.
يستخلص من نسق شروط إجراء معاني الطلب الاصلية أن شروط إجراء الاستفهام على أصله تكمن فيما يلي: "طلب حصول" – " في الذهن" لغير حاصل " ممكن الحصول" – "يهم المستفهم" و" يعنيه شأنه"
أما إذا استوفيت هذه الشروط كلها في إنجاز جملة استفهامية ما، أجري الاستفهام على اصله، وكان استفهاماً حقيقياً.
أما إذا أنجزت الجملة الاستفهامية في مقام غير مطابق فإن معناها الأصلي يخرج إلى معنى آخر حسب الآلية السالفة الذكر:
- خرق شرط من شروط الإجراء على الاصل فامتنع إجراء المعنى الأصلي.
- تولد معنى آخر يناسب المقام.
وهذه بعض الأمثلة التي يوردها السكاكي ليصف من خلالها ظاهرة انتقال الاستفهام إلى معان أخر.
المثال الأول:
"إذا قلت : " هل لي من شفيع" في مقام لا يتسع إمكان التصديق بوجود الشفيع، امتنع إجراء الاستفهام على أصله وولد بمعونة قرائن الأحوال معنى التمني".
المثال الثاني
"إذا قلت لمن تراه يؤذي الأب : أتفعل هذا؟
امتنع توجه الاستفهام إلى فعل الأذى لعلمك بحاله
وتوجه إلى ما لا تعلم ما يلابسه من نحو: أتستحسن
وولد الإنكار والزجر".
المثال الثالث:
"إذا قلت لمن بعثت إلى مهمة وأنت تراه عندك أما ذهبت بعد.
امتنع الذهاب عن توجه الاستفهام إليه لأنه معلوم الحال.
واستدعى شيئا مجهول الحال مما يلابس الذهاب مثل: أما تيسر لك الذهاب.
وتولد منه الاستبطاء والتحضيض."
ج- نحو تقويم لاقتراحات السكاكي:
يتحتم الآن بعد هذا العرض الوجيز لأهم ما يرتكز عليه تحليل السكاكي لظاهرة الاستلزام التخاطبي أن نحاول استخلاص قيمة ما يقترحه بالنسبة إلى الوصف الكافي لهذه الظاهرة.
إن الوصف الكافي لهذه الظاهرة ( ولكل ظاهرة لغوية على الإطلاق) يقتصي، كما هو معلوم، أن يستجيب التحليل المقترح أيا كان قديماً أو حديثاً لمجموعة من الشروط النظرية والتجريبية أجمع على اتخاذها معيارا تقويميا تحدد، انطلاقا منه، درجة كفاية الأوصاف المقترحة.
لن نتعرض في محاولتنا هذه لتقويم مدى استجابة اقتراحات السكاكي لجميع هذه الشروط، الأمر الذي يتطلب بحثا كاملاً، وإنما ستقتصر بالنسبة إلى ظاهرة الاستلزام التخاطبي بالذات على شرط نعتبر إرضاءه من ضروريات كل تحليل يستهدف وصف هذه الظاهرة، ويكمن هذا الشرط في الإجابة عن السؤالين السالفي الذكر، اللذين نعتبرهما صلب الإشكال المطروح:
- كيف تتم عملية الاستلزام في حد ذاتها؟
أي كيف يمكن لجملة ما أن تحمل بالإضافة إلى معناها المباشر المدلول عليه بصيغتها معنى آخر؟
- ما هو بالضبط المعنى المستلزم؟ أو بعبارة أخرى كيف يمكن التنبؤ بماهية المعنى الذي تستلزمه الجملة تخاطبياً؟
1- سبق أن أشرنا إلى أن السكاكي بالنسبة إلى السؤال الأول، يحلل ظاهرة الاستلزام على أساس أنها تتولد عن خرق لأحد شروط إجراء معاني الطلب الخمسة نتيجة إجراء هذه المعاني في مقامات غير مطابقة.
مبدأ الخرق هذا باعتباره أساس عملية الاستلزام، يقارب بين تحليل السكاكي واقتراحات الفلاسفة وبعض اللغويين الذين اهتموا بهذه الظاهرة.
ويظهر هذا التقارب جليا خاصة حين يقارن تحليل السكاكي باقتراحات غرايس المبنية، كما رأينا، على مبدأ خرق إحدى قواعد الحوار.
2- يمكن أن نستخلص حين نوازن بين تحليل السكاكي وتحليل غرايس على مستوى المبدأ العام، مبدأ الخرق، ما يلي:
تمتاز اقتراحات السكاكي:
أولا: بدقتها،
وثانياً: بقدرتها التنبؤية.
تمتاز بالدقة لأن الشروط المؤدي خرقها إلى الانتقال من معنى إلى آخر شروط لا تهم فصيلة معينة من الجمل وهي الجمل الطلبية، بل تهم كل معنى بعينه من معاني الطلب الخمسة وهذه الدرجة من الدقة لا تجدها، فيما نظن، في اقتراحات غرايس التي ركز فيها، رغم ما تطمح إليه من عموم، على قواعد الخطاب المتعلقة بالجمل الخبرية، والتي لا تصلح بالتالي، إلا لوصف الاستلزام الناتج عن خرق قاعدة من قواعد الخطاب الإخباري.
وتمتاز بقدرة معينة على التنبؤ من حيث إنها تمكن انطلاقا من ربط الخرق بامتناع إجراء المعنى الأصلي من الجزم بحصول الاستلزام، أي بحصول الانتقال القطعي من المعنى الأصلي إلى معنى آخر مناسب للمقام، وتمكن بالتالي من تلافي إمكانية إلغاء الاستلزام التي تشكل بالنسبة لغرايس إحدى خصائص الاستلزام والتي يجب اعتبارها من قوادح التقعيد لهذه الظاهرة .
أما بالنسبة إلى السؤال الثاني ، المتعلق بكيفية ضبط المعنى المستلزم، فإن الغاية أن يتمكن من وضع قواعد يكون لها من القدرة على التعميم والتنبؤ ما يجعلها كفيلة بالتحديد المضبوط للمعنى المتنقل إليه .
وقد قام كل من كوردن ولايكوف ثم سورل بمحاولات تستهدف الوصول إلى هذه الغاية. فوضعوا قواعد أو على الأصح تعميمات أشرنا إلى عينة منها حين عرضنا بتركيز لاقتراحات كوردن ولايكوف، ويتميز هذا النوع من التعميمات بالخصائص التالية:
أ- يشكل المعنى المنتقل إليه نفسه نقطة انطلاق التعميم.
ب- تكون حيز التعميم من شروط إجراء المعنى المستلزم، كشروط صدق المتكلم أو المخاطب مثلاً.
ج- ويكمن التعميم:
- إما في إثبات أحد الشروط المتعلقة بالمتكلم (كرغبته مثلاً في أن يقوم المخاطب بما يلتمسه منه)
- أو في الاستفهام عن أحد الشروط المتعلقة بالمخاطب (كاستعداده، أو قدرته، أو رغبته)، وقد طبقت هذه التعميمات لحد الآن على نوع معين من الجمل، الجمل المنتقل معناها إلى معنى الالتماس، والعرض، والوعد.
4- أما السكاكي فإنه بالنسبة إل هذا الشق من الإشكال يكتفي، في الغالب الأعم من الأحوال، يذكر المعاني المتفرعة عن المعاني الطلبية الأصلية ( زجر، إنكار، وعيد، تهديد، استبطاء ...) مع إعطائها أوصافاً عامة مثل "ما يناسب المقام" أو ": ما يتولد بمعونة قرائن الأحوال".
إلا أن اقتراحات السكاكي لا تخلو من إرهاصات تمكن من الاستغناء عن قرائن الأحوال ( أو على الأقل من تقليص دورها) في تحديد المعنى المنتقل إليه، فثمة أمثلة يشير السكاكي أثناء تحليلها إلى أن المعنى المتولد هو المعنى الذي يقابل أحد شروط إجرائه شرط المعنى الأصلي المخروق.
فالمعنى المتولد مثلاً، في الجملة السالفة إيرادها مثالاً": " هل من شفيع" هو التمني، أي المعنى المقتضى إجراؤه شرط "غير ممكن الحصول" الذي يقابل الشرط المخروق " ممكن الحصول" الذي هو من شروط إجراء الاستفهام على أصله.
يمكن، اهتداء بإشارات السكاكي هذه الوصول إلى وضع قواعد انطلاقاً من تعميمات من النوع الآتي:
1) تعميم 1 = تُنتقل الجملة من الدلالة على معناها الاصلي (س) إلى معنى آخر (ص) بالانتقال، خرقا، من أحد شروط إجراء (س) إلى ما يقابله من شروط إجراء (ص). ويمكن اشتقاقا من هذا التعميم الكلي، صوغ تعميمات جزئية تخص الانتقال من معنى إلى معنى معين نورد منها، على سبيل المثال، التعميم الآتي:
2) التعميم2= تُنتقل الجملة الاستفهامية من الدلالة على السؤال إلى الدلالة على التمني بالانتقال، خرقا، من شرط " طلب ممكن الحصول" إلى شرط " طلب غير ممكن الحصول" .
تبدو هذه التعميمات في هذه المرحلة الأولية من الفحص معقولة، إلا أن الأخذ بها في التقعيد لظاهرة الاستلزام التخاطبي، باعتبارها إحدى خصائص اللغات الطبيعية يقتضي:
أولاً: أن يعاد النظر في شروط إجراء المعاني على الأصل خبرية كانت أم طلبية بإضافة شروط أخرى إلى ما اقترحه السكاكي بالنسبة إلى بعض المعاني (معاني الطلب على الخصوص)، ووضع شروط لإجراء بعض المعاني التي لم يدقق السكاكي في قواعد إجرائها (كالزجر، والوعيد، والتهديد، والاستبطاء، وغيرها) حتى يتسنى ضبط عملية الانتقال بين معنى وآخر، يضبط الشرط المنتقل منه إلى الشرط المنتقل إليه.
ثانياً: أن تمحص كفاية هذه التعميمات في وصف الظاهرة لا باعتبارها ظاهرة من ظواهر اللغة العربية فحسب، بل باعتبارها كذلك ظاهرة كلية.
ثالثاً: أن يوازن بينها وبين التعميمات الحديثة التي عرضنا لبعضها باقتضاب، بكيفية أدق، ليتبين إلى أي حد يمكن طرح الأولى بديلاً للثانية.
نظن، فيما يخصنا، رغم أننا لا نستطيع الجزم من الآن، أنه من الممكن اعتماد التعميمات التي تتيحها اقتراحات السكاكي في وصف ظاهرة الاستلزام التخاطبي كإحدى خصائص اللغات الطبيعية، بل من الممكن طرحها بديلاً ممكنا للتحليلات الحديثة المقترحة شريطة أن يعمل على استيفائها الشروط ا لمقتضاة.
ونرجو أن نتمكن من تمحيص هذه الفرضية في إطار مشروع نحن بصدد إنجازه داخل نظرية النحو الوظيفي يستهدف وضع وصف كاف للقوى الإنجازية (حرفية كانت أم مستلزمة) التي تواكب العبارات اللغوية، نحاول فيه اعتماد ما نراه وارداً مما اقترحه المفكرون العرب القدماء.