الحكاية الثانية :
الدراجة الهوائية
---------------
أتذكره وقد اشترى لي دراجة هوائية خضراء اللون لأستخدمها في الذهاب الى والعودة من المدرسة , وكنت في الصف الاول المتوسط ، مكافأة لنجاحي المتفوق في نيل شهادة الابتدائية , وكانت مفاجأة عظيمة لي , و بقت نشوة الفوز باقتنائها لأسابيع عدة , وخاصة عندما حسدني بعض اقراني في الحي عليها وتطلعوا لركوبها وان سمحت لهم بعد رجاء و توسل , فان بعضهم يقودها بجنون فوق أرضية السبل غير المعبدة الزاخرة بالحفر و المطبات وبقع المياه الآسنة المتسربة من داخل بيوت الحي ، مما جعلني أحجم عن أعارتها , و قد ضايقني أحد الفتيان الاكبر عمرا مني يوما اذ اختطف دراجتي من بين يدي وركبها وجعل يقودها بحماقة تشف عن رغبة انتقام ممزوجة بالحسد و صار بعد أعوام في حاشية مسؤول كبير أزرت به الايام ولا ادري مصير الفتى الحسود الشرير ، ولولا تدخل أحد اخوتي لأتلفها و شوه اطاراتها ، كنت أهتم بها و اقوم بتنظيفها ولو لم أضف اليها من ادوات الزينة و البهرجة شيئا الا جرسا ضروريا للتنبيه ، ومن احدى حكاياتي مع الدراجات وهي دراجة أخي الآخر الذي حدثتكم عنه توا , وكنت أتدرب على قيادتها قبل نحو سنة من شراء دراجة خاصة بي ، لأني في البداية لم أكن حسن قيادتها والحفاظ على توازنها , وعندما كنت مستمتعا بقيادتها في شارع قريب من دارنا خرجت فتاة فجأة من باب بيتهم وبيدها سطل ماء مستعمل لسكبه في الشارع فارتبكت و انحشر الاطار الامامي بين ساقي الفتاة المسكينة فسقطنا جميعا أرضا ومع شعور بالخجل والخوف لذت فرارا مع دراجتي بعد ان انحرف مقود العجلة فقمت بتعديله بين رجلي بسرعة وانا اتلقى سيل من الشتائم من الفتاة و وصف بالعمى وكان أحد اخوتها على ما يبدو قد لمحني فارا من مكان الواقعة , وكان اكبر سنا مني وفي نفس المدرسة في السادس الابتدائي ولكن في شعبة اخرى ورسب عدة سنوات فيها وكانت علامات البلوغ و شارباه الناميان قد بدت واضحة في هيئته , وفي صباح اليوم التالي حاول الانتقام مني رغم اعتذاري ، لكنه حاول ضربي وقبل ان يمد يده فاجأتني يد المعلم المشرف على ساحة المدرسة وهو يمسك بيده فعنفه بشدة وهدده بالضرب وتهشيم رأسه وهو يهز عصاه في الهواء ان اعاد الكرة معي , وربما تعاطفا معي لكوني تلميذ شاطر , فصرفه بحدة بصوت عال بعث الصمت في ساحة المدرسة خلال ما تبقى من فرصة الاستراحة ، واستفهم المعلم مني عن سبب الشجار فأخبرته خجلا بالأمر ، فصرفني بوجه يتصنع الحزم و الانضباط ، ومن قصص الدراجة ان أهلي كلفوني أن أشتري طماطم من سوق الخضار حيث كانت تعرض البضاعة على حافتي شارع السوق وكنت قد ركنت الدراجة على حافة الرصيف ، فلم أرى الا والدراجة ترفس بعيدا مع أصوات ارتطامها بالأرض , لأنها ضايقت أحد الباعة الذي يعرض بصاعته قريبا منها وصارت مكان بضاعته من المحرمات , وكان رجلا في العقد الخامس أو أكثر بينما أنا فتى في الثالثة عشر ، فرفعت صوتي محتجا , ولما اقبلت لرفع الدراجة و المغادرة , ظن الناس أني أتيت الى الرجل مقاتلا مصارعا فطوقتني الأيدي الحاجزة وانطلقت عبارات التهدئة منهم و جلب أحدهم الدراجة لي وربت على كتفي فغادرت السوق منزعجا ولاعنا باعة السوق و فضاضتهم .
ومن الحكايات الطريفة أن والدتي رحمها الله قد كلفتني بشراء علبة من الحليب المجفف وكانت تعتاد على استخدام ماركة معينة لا أتذكرها في أعداد اللبن الرائب في المنزل , اذا لم يتوفر حليب طازج يُشترى من أحد البيوت القريبة ذات الأصول القروية أذ لا زال ساكنوه يربون الأبقار في بيوتهم في المدينة , وذهبت متثاقلا راكبا دراجتي بعد ان قل حماسي و استمتاعي بركوبها الى دكان بقالة قريب , فلم أجد الا علبة حليب علامة ( كوست ) فرزمتها على الدراجة خلفي وعدت بها الى البيت , ولكن والدتي امتعضت جدا لأنها لم تكن معتادة على استعمال هذه العلامة التجارية و أمرتني بإعادتها الى البقال , ولكني رفضت ذلك , لشعوري بالحرج من البقال , والقيت العلبة بعنف على ارضية المطبخ , واستمعت الى سيل من الشتائم الخفيفة ولكني تقبلتها وانا أقول لها جربوها أولا ثم أحكموا , ولكون اللبن الرائب يعد المادة الأساسية وخاصة في الفطور الصباحي , لذا فأن والدتي اضطرت لاستعمال ما جلبت , وفي صباح اليوم التالي كنت أنتظر متوجسا النتيجة , فكان تعليق والدي ولا أظنه على دراية بالأمر بأن اللبن الرائب أطيب وأفضل من كل يوم , وكنت فرحا بالنتيجة وأنا أنظر من طرف خفي الى وجه أمي الذي كنا نراقبه ونحن نبحث عن علامات رضا أو غضب دون أن تنطق بأي كلام , وكان والدي يميل الى الهدوء والنصيحة التي يؤجلها غالبا بعد ان يطالب المتخاصمين من الأخوة بلزوم السكينة و الصمت و غالبا ما يأتي بحكاية أو مثل من خزانة تجربته في الحياة , أما والدتي ذلك الصباح فقد ساعدتني في العثور على حذائي , وهذا يعني وبلا أي كلام أنها علامة رضا و مسامحة لي , وبعد عدة أيام طلبت مني مبتسمة أن أشتري علبة أخرى من نفس النوعية , وكنت أشعر بالانتصار و الزهو وأنا ألبي هذه المهمة , وهكذا صارت علبة حليب ( كوست ) ضيفا في مطبخ العائلة , وأعتقد أن لي الحق في مطالبة الشركة المنتجة بأجور دعاية مجانية و أظن ان انتاجها لا زال مستمرا .
اما الدراجة فقد تركتها بعد دخولي الكلية في دار والدي , و ركنت في مستودع البيت مع كثير من الاشياء قليلة الاستخدام او غير الصالحة له مع حطام أشياء وحاجيات كثيرة , وكان اخي الاكبر قد استقل بدار منفردة بعد بضع سنين من زواجه و اصبحت دار الاب ضيقة لتسع كل ابناء الجيل الثاني ومنهم اولاد أخي الأكبر وكان من ضمنهم تؤام من الذكور , و عند بلوغ احدهما مبلغ الصبيان وكان متميزا اكثر من توأمه في الدراسة وأخذ يستخدم دراجتي المتروكة بعد أعادة تأهيلها ولم يكن يحسن قيادتها لأنها بحجم لا يتلاءم وسنه وكان يتدرب على استخدامها في شارع شق حديثا , وفي يوم من الايام تلقيت وانا في بغداد خبرا مفجعا اذ دُهس ابن أخي هذا من قبل سيارة مسرعة كانت تقل معلمات أحد المدارس و توفي في الحال وقد هرب السائق لا يلوي على شيء ولكن تم التعرف عليه و هو من سكنة احدى القرى القريبة , و اودع السجن بضع أيام و من ثم تم التنازل عن الدعوى بتدخل الأعراف العشائرية أما الدراجة فلم أعرف مصيرها وبالتأكيد أنها قد حطمت و رميت بعيدا عن الأنظار بحيث لا تذكر بهذه النائبة الأليمة .