هل من الممكن أن نكون مجتمعا حشريا ؟
يعلم الإنسان اليوم بواسطة البحوث العلمية أن الأنثى هي التي تتربع على عرش خلية النحل تسمى اليعسوب ، وأن جميع أفراد الخلية ذكورا وإناثا يقومون بخدمتها وتأمين حاجاتها الغذائية والأمنية .ويعلم الإنسان كذلك أن الأنثى هي التي تحكم قرية النمل والجميع يقومون بخدمتها وخدمة القرية. فإذا كان الأمر كذلك وعلى غرار مجتمع الحشرات، ما المانع من أن تتولى المرأة وهي أنثى أن تتولى شؤون المجتمع البشري ،وأن يكون الجميع في خدمتها ورهن إشارتها اقتداء باليعسوب على سبيل المثال لا الحصر.
عندما نستجلي الأمر ونضع نصب أعيننا القاعدة الفقهية " لا مجال للمقارنة مع وجود الفارق" يظهر أن المجتمع البشري يختلف كل الاختلاف عن المجتمع الحشري ويباينه كل التباين ، ذلك أن مجتمع الحشرات إن صح التعبير فطري بالأساس فتوزيع الأدوار بين أعضائه يتم بشكل فطري وتلقائي لا تملك الملكة فيه أمرا ولا نهيا بل هي نفسها تخضع للفطرة من حيث وضعها للبيوض في وقت معين وبعدد معين ولا تملك في ذلك خيارا في القلة أو الكثرة أو تغيير زمن البيض كما ليس في مستطاعها وضع خطط أو استراتيجيات تخص الخلية،والباقون من الأفراد ما عليهم إلا أن يقوموا بالخدمات اللازمة من تعهد لليرقات وجلب الماء والغذاء والدفاع عن الخلية وضمان الرعاية الصحية لأفرادها وليس لهم من سبيل للإحتجاج أو المطالبة بتخفيض عدد ساعات العمل أو المطالبة بالزيادة في الأجر،والضمان الاجتماعي ،افتراضا .
أما المجتمع البشري فهو مجتمع السياسة والثقافة والأعراف والتقاليد والأخلاق وتضارب المصالح ، مجتمع السلم والحرب مجتمع الأمن والجريمة المنظمة وغير المنظمة مجتمع التطور والتغير ، مجتمع التاريخ والحوادث والتطلعات ، مجتمع العقائد والنظم والفلسفات والهرطقات والأزمات الإقتصادية والدورات الأيكلوجية ، مجتمع الوحدة والانفصال .... وبالتالي فهو لا يسير على الفطرة المحضة كما هو عليه الحال في المجتمع الحشري ، لذلك لزم أن يتولى أمور المجتمع البشري من هو مؤهل لهذه الوظيفة ، يستوفي شروط الولاية والإمامة والقيادة الحكيمة . والإسلام أسند هذه المهمة للرجل باعتباره هو المؤهل لتحمل مسؤولياتها، وهي مسؤولية تكليف وليس تشريف ، والصحابة رضي الله عنهم والعقلاء من رجال الأمة وعوا حقيقة هذه المسؤولية فمنهم من تهرب منها والذين ألزموها ارتعبوا من عبئها الثقيل ، حتى إن بعضهم انزوى في داره يبكي حظه العاثر ، ويتمنى لو لم تلده أمه حتى لا يتحمل هذه المسؤولية .
فلماذا الرجل ؟
عند استقرائنا للتاريخ يتبدى لنا أن المجتمعات التي نجحت في مسارها النهضوى والحضاري ، وتحولت إلى امبراطوريات كاسحة أو تلك التي شهدت تغيرات عميقة قلبت الموازين ورجحت كفتها بين الأمم بعدما كانت مرجوحة ، قادها رجال أكفاء عظماء ويأتي في مقدمتهم الرسل والأنبياء عليهم أزكى السلام .
قد يقول قائل لو أعطيت المرأة نفس الفرص التي حظي بها الرجل لقامت بمثل ما قام به وأكثر ؛ في نظري الذي يقول بمثل هذا قد أغفل حقيقة جوهرية نلخصها في السؤال التالي ، ما الذي منع المرأة من أن تأخذ فرصتها ، لماذا لم تأخذ بزمام المبادرة أول الأمر في بداية المسار الإنساني على هذه البسيطة ،عندما نزلت هي وآدم عليه السلام إلى الأرض ، لماذا تركت الرجل هو البادئ بالأخذ بها ، لماذا تركته يسوسها بدل أن تسوسه ، وأن يكون سيدها بدل أن تكون سيدته ! ألم تكن الفرصة متكافئة بين الإثنين وحظها منها مثل حظه ، ألم ينزلا في الوقت نفسه بدون محاباة لأحد الطرفين على الآخر ، أو تسهيلات أعطيت لهذا الطرف وحرمها الطرف الآخر ـ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ـ فلماذا برع الرجل إذا ، ولماذا كان هو الآخذ بزمام المبادرة ، واستطاع أن يحتل المرتبة الأولى وهي تحتل المرتبة الثانية من بعده قانعة بها ، وأسلمت له المقاليد ورضيت به إماما ورضيت لنفسها تابعا ، لا شك أن أُمَّنا حواء اكتشفت أن هذا الرجل يمتلك من المؤهلات والمهارات والقدرات ما لا تمتلكه وإن امتلكته فدون ما يمتلكه . طبعا هي الأخرى تمتلك قدرات خاصة بها تتناسب وطبيعتها كأنثى ولا يستطيع الرجل أن يبزَّها فيها .
لقد جربت المجتمعات الإنسانية قيادة المرأة ، لكن تلك التي تشبهت بالرجل وفكرت بنفس الطريقة التي يفكر بها ولبست لباسه ومشت مشيته وتكلمت بنفس كلامه ، فهي قد تنازلت عن أنوثتها وتقمصت الرجل فيها ، فهي امرأة رجل أو إن شئنا القول امرأة مسترجلة أي أن فيها من الذكورية أكثر مما فيها من الأنوثة .
كنت انتظر الشعوب الحاضرة التي مرت بتجربة حكم المرأة كرئيسة للوزراء عن طريق الانتخاب أن تعاود التجربة مرة أخرى ، لكن لم يقع وربما سيطول انتظاري. لكنها( الشعوب ) أعادت انتخاب الرجل مرات ومرات ، وإني لأتساءل أين هو مكمن الداء هل في الجنوسة كونها أنثى وكونه ذكر وأنها امرأة وهو رجل وهذا إن حصل يعتبر في حد ذاته امتيازا يحسب له ، أم أن هناك سر آخر تعيه الشعوب لكن لا تكاد تفصح عنه . ثم أليس عدد النساء في المجتمعات يعادل نصف مجموع الساكنة إن لم يكن يجاوزه فلماذ لا ينتخب النساءُ النساءَ أثناء إجراء الانتخابات فلو فعلن ذلك لأفرزت صناديق الاقتراع عددا من النساء يعادلن عدد الرجال أو يفوقهن عددا ، وبحسب ما نرى نجد الرجل هو الفائز دائما وهو صاحب حصة الأسد ، وإن فازت المرأة يكون الأمر في حكم الشذ من قبيل بيضة الديك،ولا يعود الشعب المنتخب لها لمثلها ! والمثال على ذلك على سبيل الاستئناس لا الحصر ، شعب الهند والفلبين والباكستان وتركيا وبريطانيا ، قد يقول البعض بأن مرغريت تاتشر انتخبت في بريطانيا لولايتين متتابعتين ، نعم كان لها ذلك لكن تحت ضغط إعلامي مكثف وكاسح ووصفت بالمرأة الحديدية نعم الحديدية لأنها أقدمت على أمور لايقبل عليها إلا من كان له قلب من حديد كرفع الدعم الحكومي عن حليب الأطفال ، فهي الوحيدة من بين كل الرؤساء الرجال الذين سبقوها استطاعت أن تجيع أطفال ابريطانيا ، وهي التي دمرت نقابات عمال مناجم الصلب الذين أضربوا عن العمل عسى أن ترفع الحكومة من أجورهم فإذا بها توصد أمامهم جميع أبواب الحوار وصمت آذانها عن الحناجر المبحوحة من الاحتجاج والذين التجأوا آخر الأمر إلى الاضراب عن الطعام كوسيلة للضغط ولتليين هذا القلب لكن دون جدوى حتى صار المضربون يموتون في الشارع ـ مات منهم تسعة ـ لقد قصمت ظهر النقابات التي تحمي العمال من تعسفات أرباب العمل وتسهم في تحسين وضعية العامل المادية ، كما روجت لحملتها الانتخابية بالهجوم على جزر الفولكلاند التي هي في الأصل ملك لدولة من دول العالم الثالث وهي جزر مستعمرة لابريطانيا وليست ملكا لها ، وفوتت عدة شركات مملوكة للدولة لشركات خاصة بأثمان زهيدة ، وهي التي أرست لما يسمى بحرب النجوم مع الرئيس الأمريكي ريغان! أليست امرأة من حديد ؟ طبعا !!
لماذا لا تصوت المرأة للمرأة ، أمَا لو فعلت لحكم جلَّ دول العالم النساءُ ، ولكان أعضاء مجلس الأمن كلهم من النساء ولكان ثلثا مقاعد الجمعية العامة للأمم المتحد يشغلها نساء ، فلماذا تحرم المرأة نفسها هذا الامتياز ؟
لما ألقي على ملكة سبأ كتاب من سليمان عليه السلام قالت تشتشير:" يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون " فكان ردهم ، أنهم أولوا قوة وبأس شديد وفوضوا لها كامل الصلاحية في أن تأمر بما تشاء . فكيف بملكة أحاطت نفسها بمجموعة من الرجال المفروض أنهم صفوة المجتمع ذووا حصافة في رأي وخبرة سياسية وقدرة على المناورة وشجاعة في إبداء الرأى أن اكتفوا بقولهم " نحن أولوا قوة وبأس " فلم يبدي ولو واحد منهم رأيا ذا اعتبار! أين الذكاء وقوة العقل ونفاذ البصيرة؟ إنهم رجال أشباح اختارتهم ليصْفوا لها المقام ويكون رأيها دائما هو الرأي لأن لا رأي عندهم ،لكن لما جد الجد وجدَتهم لايفيدونها في شيء ، فهم مجموعة من النفعيين المغرورين الذين يتظاهرون بالقوة والقوة براء منهم ، انظر بالمقابل إلى بطانة سليمان عليه السلام ومستشاريه ، كيف تفاوتت قدراتهم المادية والفكرية ولهم من العزيمة والإرادة ما يثلج الصدر، قال عفريت من الجن " أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك " وقال رجل ممن عنده علم الكتاب " أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك " يعني عرش ملكة سبأ .وكان عرشها كبيرا فخما وثقيلا . أي رجال هؤلاء اختارهم سليمان عليه السلام ليقوموا معه بتسيير شؤون الدولة ، وأي رجال اختارتهم بلقيس . كان رأيها أن ترسل لسليمان هدية وناظرة بم يرجع المرسلون ، وفي الواقع كان حريا بها أن ترسل الجواسيس والعيون وتلتقي بالتجار الذين زاروا مملكة سليمان وتستقصي الأخبار لتعرف عن المملكة كل شاردة وواردة من حيث العدة والعدد والنظام السياسي والاقتصادي ونوعية الأسلحة التي يمتلكونها ودرجة التعبئة وطبيعة الرجل الذي يحكمهم ،وعلى ضوء هذه المعطيات تختار الطريقة الأنسب للتعامل مع صاحب الكتاب . يذكرني هذا بالحاكم الذي أرسل العيون لمعرفة طبيعة قائد المسلمين الذين يقصد بلاده لتبليغ الرسالة في إطار الجهاد الإسلامي، فلما أخبرته العيون بأنه يتغذى على كسرة خبز وقطعة ملح ، قال : " لا طاقة لنا بهؤلاء "
اختارت بلقيس طريقة سمجة في عالم السياسة تدل على انعدام الخبرة وقلة الدراية ، مما جعل سيدنا سليمان عليه السلام يرفض هديتها ويردها عليها ساخرا، وإمعانا في كشف سخافة تفكيرها المادي نقل عرشها إليه عنوانا على قدرته امتلاك مملكتها ، وليشعرها بمدى تخلفها الحضاري صنع صرحا ممردا من قوارير من يره يظنه لجة (ماء) وهو في حقيقته مجرد زجاج صقيل ، فلما جاءته الملكة وقال لها ادخلي الصرح إذا بها ترفع إليها ثيابها وتكشف عن ساقيها كتلك البدوية التي تود عبور واد من الأودية ،ونحن نعلم كيف يكون لباس الملكة وكم ترسله منجرا في الأرض تختال به في مشيتها اختيال الطاووس ،علمت الملكة مدى التخلف الذي تعيشه في بلدها وكان أمرا محرجا لها ولبطانتها ، وعلمت بأنها عديمة الحيلة أمام هذا الرجل الذي يفوقها دهاء وذكاء ورجاحة عقل وخبرة في هزم الخصم نفسيا قبل هزمه عسكريا ، فكان لزاما عليها أن تذعن وتسلم له القياد.
يضرب الله المثل للناس بالنملة التي رأت سيدنا سليمان وجنوده ليتبينوا انشغالات الأنثى الأولية قالت:" يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون " الشاهد عندنا قولها " ادخلوا مساكنكم " ما أحسبها إلا أُمًّا تُطل من شرفة بيتها تنادي على صغارها أن يدخلوا الدار حتى لا يتعرضون للأذى ، وذلك لعمري أجمل ما تقوم به الأنثى لحماية صغارها ، وتلك وظيفة سامية هي أساس حفظ النوع وبها سادت اليعسوب. فلو افترضنا أن المنادي ذكرا لقال : " يا أيها النمل خذوا مواقعكم واحذروا ولا تجازفوا" فالقائد من الرجال ليس هو القائدة من النساء إلا إذا كانت القائدة تتقمص الرجل في ذاتها وسلوكها كما أسلفنا .كان من الطبعي أن تقول : " ادخلوا مساكنكم " وهذا لا يعيبها بقدر ما يرفع من مكانتها .
إن أي بناء يحتاج أول ما يحتاجه هو بنية تحتية صلبة وقوية ، وبناء مجتمع البشري يحتاج إلى هذه البنية كذلك والتي في تصوري هي المرأة التي إن صلحت صلح البناء الفوقي وتسامق وارتفع وإن هي فسدت سقط البناء كله ، فمدار قوة المجتمعات وصلابتها وصلاحها أو ضعفها وتهافتها وبتعبير اليوم هشاشتها هو المرأة ، لذلك بدل أن نعد المرأة لحكم المجتمع من فوق نعدها لخلق هذا المجتمع من تحت أي من الأساس فتكون هي الأصل ويرجع الفضل كله لها بدون أن ينازعها فيه منازع. لأن كل رجل هو نتاج امرأة ، فإذا نشأ الرجال في أحضان نساء عرفن كيف ينشِّئنهم ويربينهم أحسن تربية ويوجهنهم أحسن توجيه ، نحصل على أجيال سليمة جسما وعقلا ومستقيمة خُلقا وقوية مبدأ وعقيدة وغيرة ، وبالتالي يكنّ قد أنتجن مجتمعا صالحا أساسه بنية تحتية سليمة لا يُخاف عليه من الهزات التي تعصف بالمجتمعات وما أكثرها اليوم ، وهذا ما قصده شوقي عندما قال :
الأم مدرسة إن أنت أعددتها ..... أعددت شعبا طيب الأعراق .
على كل حال ينبغي الحفاظ على بنيات المجتمع ، ولكل ميدان بطل .
وأخيرا؛ قل لي كيف هو حال المرأة في مجتمع ما ، أقول لك كيف هو.
حسن ستيتو