حديث الأخ الأكبر - حكايات
-----------------------------
مر على وفاة أخي الأكبر رحمه الله نحو عام اثر اصابته بمرض عضال ، وعندما اتذكره فان هناك أمور وأشياء صغيرة تلمع في عتمة تلافيف الذاكرة ولا يفترض ان كنت عشتها أو شهدتها أو عاصرتها كلها ، أمور قد تبدو غير ذات معنى او أهمية كبيرة بالنسبة للآخرين ، ولا تعبر عن كل محتوى علاقتي به كأخ أكبر تقترب مكانته من مكانة الاب .
الحكاية الاولى
----------------
قصص للأطفال :
كانت كتب القراءة في سني دراستي الابتدائية وخاصة السنين الأول والمليئة بالصور مادة لأطلاق العنان لخيالي , إذ لم يسبق ان غادرت عالم القرية وأنا بوعي يجعل تسلسل الاحداث منطقيا و قابلا للتفسير , وإن روي لي ان والدتي صحبتني وأنا صبي صغير قبل دخولي المدرسة معها الى بغداد لكي تتعالج من مرض ربما كان قرحة الاثني عشري أو تهيج القولون الذي لم يكن عنوانا طبيا معترف به آنذاك , وما بقي في ذاكرتي من تلك الزيارة إني كنت أطل من شباك ما على الشارع حيث تمر عربات تجرها الخيل , و زينة تتدلى من عنق الحصان ملونة و مزركشة لكن عينيه محجوبة من الجانبين مما أثار تساؤلي وأجبت لكي لا يلهيه شيء عن متابعة الطريق الذي ترشده اليه ضربات سياط الحوذي , كما أتذكر بأن والدتي قد صحبتني الى قرية قريبة من بلد تدعى ( البوجيلي) , حيث نقل أخي معلما في مدرستها الابتدائية , و أتذكر النهر وهو يجري وأنا أقف على جرف و ألحق بأختي التي هي أكبر مني و لكنها كانت مصابة بمتلازمة الطفل المنغولي وكنت أخاف عليها أن تضيع كما كنت أقول , وأحد ما يسألني عن عدد أخوتي و أخواتي ,انا أعدهم واحدا واحدا ثم أقول أنا , وأتذكر وأنا فوق حمار و شاب يمشي بجبني ويعطيني برتقالا , و أتذكر عمود من خشب يرتفع و علق فيه المصباح ذو الفتيلة المتوهجة بالأبيض ( لوكس ) وهذه الغرفة خصصها لأخي ولنا شيخ القرية الذي كان يزورنا و يطمأن علينا و يسأل هل لنا حاجة أخرى فيلبيها حتى أستقر أخي و أندمج في جو القرية و شارك السكن مع معلمين آخرين ثم عدنا و والدتي بعد عدة أسابيع الى القرية بعد مرورنا بالمدينة التي لنا دار قديم فيها , أما المدينة القريبة فلا اتذكر منها الا الدروب و الأزقة الضيقة الكئيبة وفي وسطها تجري في ساقية مياه قذرة , كانت القرية و بيئتها فضاءا رحبا مفتوحا على الأفق ويجاورها فرع من نهر دجلة حيث الزروع الشاطئية في الصيف تنبت الخضر و البطيخ والرقي و القثاء و أزهار الشمس وليلها ملئ بالنجوم المتلألئة كأنه ثوب أميرة من ليالي ألف ليلة و ليلة , ذكريات كأنها جزر معزولة في الذاكرة
كما ذكرت فإن كتاب القراءة بصوره يحث مخيلتي إ ذ كان البيت يخلو من أي منشور خاص للأطفال الا بعض الكتب القليلة و المجلات التي لا تصلح للصغار , وفي كتاب قراءتي صور عن خالد في الغابة وهو تحيط به الوحوش ثم يصحو فإذا هو حلم , الضفدعة التي نفخت نفسها حتى انفجرت نحاكي بقرة , حكايات أبن آوى وهو ذاهب الى الحج مخادعا الدجاج وهو يدعوهم لمرافقته و سبحة تتدلى من رقبته , الثعلب وهو يتظاهر بالموت ليصطاد الأرنب وصور سفن , و قطار و سيارات جميلة , فما كانت تدخل القرية الا سيارات الحمل سالكة طرق ترابية لنقل الصوف و الحبوب أو الرقي و صناديق الطماطم في الصيف و أما الجرار ( التركتور ) فقد كان مصدر رعب لي وهو يمر قريبا من دارنا وكنت أدعوه (تلك ) وكان يثير صرخاتي و كان هذا الوحش الحديدي سلاحا أهدد به طبيب في المدينة كان يتهيأ لزرقي بمضاد حيوي , كان كل شيء في عالم الطفولة يثير الدهشة و العجب .
أتذكر أخي المتوفي وقد رسم لي بألوان خشبية صورة قلدها من كتاب القراءة الخلدونية لرجل يحصد سنابل القمح بألوانها الذهبية ... في الثالث ابـتدائي جلب لي أخي عدد من قصص الأطفال من المدرسة التي هو معلم فيها بعد أن رأى لهفتي للصور وفصص الأطفال وكان مصدر القصص الشفوي خالتي الأرملة التي كانت تقضي شطرا من ليلها تروي لنا قصص الجنيات و السعلاة و الغول و الشاطر حسن و بطل قصة ما قتل الثعبان ذي الرؤوس السبعة و التي رأينا ما يشبهها لاحقا في التلفزيون الذي لم نمتلكه الا بعد انتقالنا للمدينة و استقرارنا في دارنا الجديد و وصول البث التلفزيوني من محطة تلفزيون كركوك , والقصص التي جلبها لي أخي تتحدث احداها عن صياد سمك لم يحالفه الحظ لأيام طوال وأخير عثر على قمقم في شبكته خرج منه مارد أراد معاقبة الصياد انتقاما من أحد بني البشر أدخله القمم منذ مئات السنين و ظل حبيسا فيه وكيف أستطاع الصياد التحايل عليه و أدخله القمقم مرة أخرى أو عن مصباح علاء الدين السحري أو عن صياد صاد سمكة في بطنها لؤلؤة أشتراها الملك بثمن غال أغنته باقي حياته.. ولا اتذكر ان مدرستي فيها مثل هذه القصص أو انهم خافوا عليها من التلف و الضياع بين أيدي التلاميذ , وبقت تؤدي وظيفة واحدة هي العرض عند زيارة المفتش الذي كان يثير الرعب في المدرسة من مديرها الى تلاميذها , والذي ربما يزور المدرسة مرة واحدة في السنة , كانت كتيبات قصص الأطفال هذه مدار أحلامي تلك الليلة , ولكني عند الصباح لم أجدها لأن اخي أعادها لمكتبة مدرسته , و كان زملائي قد رأوا واحدة من تلك القصص بين يدي وكانت حسرة عظيمة لي لاختفائها , ولكني عوضت ذلك حيث أصبحت زبونا دائما في المكتبة العامة في المدينة حيث استقرت عائلتي فيها بعد بناء دارا حديثة فيها و نقلت في السادس الابتدائي لأحد مدارسها .