جابت عرصة منزلها لوقت ليس بقصير طولا وعرضا، انتهى بها المطاف إلى الجلوس تحت كرمة مسنة، اتكأت على جدعها الواهن، غممت بأبيات شعرية للسياب، حفظتها كرمانا له، وإن كانت تتشائم من مصير هذا الشاعر المأساوية.
غدا ستسافر إلى مدينة الرباط لتقضي عطلة الصيف ، حشرت منذ الساعات الأولى من الصباح امتعتها وبعض الروايات في حقيبة السفر ...
حاولت أن تخمن مكان وجوده الآن فداهمتها صورته: "جالس كعادته أيام الآحاد في مقبرة قريته الملعونة، تحت ظلال شجرة الزيتون اليتيمة ،يرتل شعر السياب على الموتى..."
تحيرها نظراته التي تجمع بين الطيبة والحقد، يلتقي فيها الخير بالشر، لا فاصل لها بين المقدس والمدنس، ترى البشاعة جمالا
والجمال بشاعة.. يتقن لغة نباشي القبور، كلماته رب يحييها ويميتها، قال لها يوما:
ـ" دنيزاد أنت صفحة بيضاء سأخط على سطورها بقلم شهريار العبث الأحمر توبتي النصوح، أنا أهواك فأصنعي من رفاة قلبي دمية يلهوا بها صغار العشاق..."
حثت الخطوات إلى غرفتها، دفنت نفسها في أحداث رواية "حفلة تنكرية للموتى"، تساءلت:
- "غداة أكان حالك مع غسان هكذا؟"
تحبه، تحترمه، تستأنس به، ترتاح له، كلها كلمات تشي بحاجتها له في الوقت الراهن، ولكن هل تحبه؟ سؤال لا ترى له أهمية ما دامت وجازفت وصارحته بمشاعر لا تدري كنها أو طبيعتها، المهم أن هروبها كان موفقا من أفعوان الوحدة...
رست في مرفئه، مرف مجهول معروف في الآن نفسه، مرفأ يعج بالحريم والصبايا، حكمته واتخذت من نسائه جوار لها...
محبوبها أو بالأحرى مرفؤها موبوء بمرض عضال، يرى من نهاية بطل رواية " الوباء" نهاية له، احرق إسماعيل الرواية نفسه لينهي مراسم ذبوله، خذله الرب خذلته مريم، خذله بوذا فوجد في الانتحار ملاذا...
قالت له يوما:
ـ "توفيق أحس في بعض الأحيان برغبة في البكاء، وكأني طفلة ضاعت في زحمة الحياة، أنادي... لكن ما من مجيب، أخاف حقا أخاف، لكني لا أدري مصدر هذا الإحساس المبهم ..."
أجابها:
"ـ شعور يلازم كل البشر، تتفاوت حدته بينهم، ضاع بنو آدم حين طرد أبوهم آدم وزوجه من الجنة..."
ثقلت جفونها، غبت في عالم وجدت نفسها فيه مدثرة بالبياض أمام بوابة ضريح ولي مجهول، ردد لسانها رغما عنها:
ـ" شايللاه أسيدي قدر..."
من يكون قدر هذا الذي انتزع تقديس لسانها؟
لمحت ظل رجل واقف أمام شجرة وافرة الظلال، نادته:
"سيدي أين أنا؟"
رد عليها :
"ـ أنت يا أنستي كما يحلو له أن يناديك في حضرة توفيق الميت،
هنا محج الموتى الأحياء...."
ألقى في وجهها كوبا وصاح متضرعا:
"ـ املئيه بدمك لأروي عطش السيد، سيدي قدر، قدر العذاب، قدر المحبة المبتورة..."
صرخت :
"ـ كفى بالله عليك كفى..."
هربت، انشقت الأرض من بين قدميها، بتر رأس الرجل، زادت دقات قلبها...
نهضت مفزوعة، والعرق يتصبب من كل أنحاء جسدها ثم قالت بلسان لازال اللهاث غالبا عليه:
"ـ أف كـــــــــــــــان مجرد كابوس مزعــــــــــــج"