خذوا لباسي ولا تلمسوا أموال الشعب
يبدئ عمي الطيب يومه المبارك بفتح أقفال محله الستة باكرا بالتدريج ، وكلما ينزع قفلا يستريح ، منتظرا أي من المارة يعينه على فك السياج الحديدي من الأنياب الحديدية المشركة في الحائط. وأخير يولج المفتاح الأخير في القفل الأخير، وينتظر من يرفع معه الستار الحديدي.
فعمي الطيب في الستين من عمره ، هين رفيع الجسم ، حلو اللسان ، طيب المعشر ، يحب جميع الناس ويحبونه ، تسمعه يتوه من ألآم الروماتيزم و يسبح ، وهو يخرج مكينة الخياطة أمام الدكانة لأن مساحة هذه الأخيرة مترين على مترين ،ينفض مئزره الجلدي المطلي بغراء الأحذية، يعلقه على جيده ويربط حزامه على ظهره عشوائيا ، وينظم مقعده الصغير ومكان جلوس الزوار ، والثلاث رفوف المملوءة نعال ، والطاولة المصنوعة خصيصا لوضع المسامير والكلاليب والمطرقة والمقصات وكل ما يحتاجه الإسكافي في عمله، تكسو جدرانه جرائد قديمة جدا ، وصور للرئيس السابق الهواري بومدين صاحب المقولة المعلقة أعلاه في القصة وتحت سقف عمي الطيب ، والقائل أيضا إننا نطلب منكم إما النصر في المعركة أو الاستشهاد وهذا كان أثناء توديع الطلائع الأولى من الجيش الوطني إلى مصر ، وقال أيضا في مقام أخر نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة . وقال أيضا إن البناء الذي نريده هو بناء دولة قوية بناء دولة عصرية بناء دولة تبقى وتستمر بعد زوال الأشخاص.. هذا الرجل الوطن توجد من صوره على جدران عمي الطيب ما يزيد على الخمسة مائة صورة ، وما إن دل هذا إنما يدل على حب هذا الرجل الطيب هذا الجندي القديم للوطن (( لممو العين )) كما كان يقول ، وللرئيس الراحل الرجل بين قوسين كما كان يسميه (( مسطاش )) ...
يجلس عمي الطيب وهو يضع الرجل الحديدية يبن ركبتيه مبسمل ، يلبس الحذاء للرجل الحديدية ، ويلتقم حفنة المسامير وهو يتمتم ما يحفظ من القرآن الكريم ، ويديه تتحركان آليا واحدة بين فمه والنعل والأخرى تدق كل ما نتأ على وجه النعل .
_ يسلم لأحد الزبائن حذائه قائلا له : يا ولدي إنه حذاء صيني ولا خير في مادة أُعيد تصنيعها ، وهنا يملئ عمي عيسى السوفي الباب يحمل في كل يد شاي ، يمد خطوة واحدة إلى الزاوية مكانه المعهود ، يجلس وهو يضع الشاي أمام صديقه مستفسرا
_ عن الصحة وحال العزوج اليوم ؟
وحال الهواري الطبيب...
تنهد عمي الطيب بحرقة ومرارة وهو يحمل حذاء بني جيد الصنع صغير جميل
_ أ تتذكر هذا الحذاء ؟
_ بالتأكيد كيف لا وأنا مصدر أحذيتك لفرنسة وبلجيكا وإيطاليا ، أي نعم السلعة قليلة ولكنها جد مطلوبة ،اه كانت أيام ، والحق أقول لو كنت في إحدى الدول المذكورة سالفا لكان لك في مهنتك شأن عظيم
ولكن احمد الله يا رجل فهنا أيضا لك زبائنك الذين يفضلون أحذية الطيب على (( بيار كردان )) فأنظر مثلا إلى هذا الحذاء لماذا يبدوا جديدا رغم قدمه مع أنه حذائي الوحيد ولا أستعمل غيره ...؟
أما هذا الحذاء فهو أول نتاج هذه الدكانة ، وهو أول حذاء يدخل به الطبيب إلى المدرسة
لقد تركت شايك يا أخي يبرد مع أنك صاحب مقولة الشاي البارد يرمى أحسن . كانت تنهيدة عمي الطيب هذه المرة طويلة نوعا ما ، وهو يعقب بعد وضع الكأس في مكانه على مرارة الشاي الله الله أتتذكر يوم
30/01/59 أجاب عمي عيسى نعم كانت جراحنا خطيرة ، وأتذكر أيضا كيف تم إخفائنا ،
في ماخور زهرة أين يتواجد كل عساكر الثكنة ، أي في جحر العدو ، نزعت زهرة الرصاصات السبعة من أكتافنا ووركك وجنبي الأيسر، وقامت على علاجنا ليل نهار . ولكن يا الطيب لحد الآن لم تخبرني لماذا قتلت اليهود الثلاثة مع أنه كان من السهل علينا مثلا تفجير ماخور زهرة وستكون ضربة في مقتل
يا سي عيسى لا تنسى أن عملنا في الثورة فك الأسرار والطلاسم ، ضرب المجهول وليس المعلوم
وبكى عمي الطيب قائلا لصديق عمره أتعلم أن إصرار الطبيب على غلق هذه الدكانة يقص قلبي إربا
فأعقب عيسى والله ما تستاهل كل الدنيا تنهيدة منك ولكل زمن ناسه بيع وقول أتهنى الفرطاس من حكان الراس... ... ...
عبد الرزاق الصغير الأوراس الجزائر