قصة قصيرة :
كتيبـــــــــــــــــــة العــــــــــــــــــــــوران
في زمن محمد علي باشا والي مصر عن السلطان العثماني والذي قضى على نفوذ المماليك فيها وكانت مذبحة القلعة مثالا لذلك ، واصبح حاكمها المطلق ولم يكن السلطان الا رمزا واهيا وشاحبا وبعيدا ولا يذكر الا في خطب الجمعة و بعض المناسبات ، كانت دورية من جنده تجوب الدروب والمسالك بين الحقول في احدى قرى مصر يصحبهم عمدة البلد واثنان من الحراس (الغفر) ، بحثا عن الهاربين من التجنيد الالزامي الذي فرضه حاكم مصر الجديد الالباني الاصل ليغذي فتوحاته وحروبه الخارجية بالعنصر البشري لمساعدة السلطان العثماني في قمع التمردات المشتعلة في نجد و الحجاز و في بلاد اليونان ويشعر الباشا بالنشوة ليقوم بهذا الواجب حيث ان السلطان بحاجة له و لقوته المتنامية لضبط عرى الامبراطورية المهددة بالتفكك فوصفت بالرجل المريض الذي ينتظره اساطين أوربا ليلفظ انفاسه الاخيرة او ليساعدوه هم في ذلك ليقتسموا ميراثه ، و هذا ما يصب في النهاية لمصلحة طموحات الباشا التوسعية .
كان حسنين يختبأ بين اعواد القصب ويتنقل هنا وهناك لحين مغادرة الدورية والتي قد يمتد مكوثها في دار ( دوار ) العمدة و حسب رغبة مأمور الدورية ان طابت له لحوم البط والاوز والخرفان التي تقدم له ولجنوده ، و ربما يتوسط العمدة لتأجيل احد ما من الخدمة لقاء بدل نقدي او هدية كما تسمى احيانا ولكن اسم المؤجل سيظهر في اول القائمة في العام القادم ولا يمكن التأجيل مرة اخرى ما لم يكون المكلف مصابا بمرض عضال , او حدثت له عاهة شنيعة , حيث يعرض للفحص الطبي من قبل اطباء فرنسيين والذين استعان الباشا بهم وبنظرائهم من الصنوف الاخرى ليشكلوا جيشا حديثا مناظرا للجيوش الاوربية ، وقد استطاع والد حسنين تأجيل ابنه لعام واحد اذ باع بقرته الوحيدة والتي ربما تكون اهم فرد في العائلة فهي التي تثير الارض وتسقي الحرث و ذللت لتحمل الاثقال وتدر الحليب و لتلد اجيالا تعسة من البقر كحال مالكيها ، وقد تهيأ العمدة قبل موسم السوق واخبرهم بموعد احضار ابنهم وحذرهم بأن الاب سيسجن ما لم يسلم الابن نفسه للعمدة ، هذا ما حدث لابي حسنين مغاوري ، بينما كان حسنين ابنه يختبأ ولعدة ايام بين الشجيرات والقصب و طيات الارض و يتسمع الاخبار عن الدورية , وفي ليلة تحت شجرة جميز وهو جالس يمد بصره الى نجم لامع احس فجأة بكف كبيرة ثقيلة كجبل وخشنة كالصخر تهبط على كتفه ، انها يد مخيمر كبير الخارجين عن القانون في المنطقة او ما يدعونهم ب ( المطاريد) ، التفت حسنين خائفا ومرتجفا الى مصدرها الذي قال له - مالك مرعوب يا ولد يا حسنين خلي حسن ( تندرا باسم حسنين الذي هو مثنى حسن ) يروح للجندية وخلي حسن الاخر هنا مع أمك ثم استرسل بضحكة انتهت بسعال ، وتبين لحسنين ان مكلمه هو مخيمر الذي تربطه صلة قربى بأمه ، مخيمر الذي لا يغفل عن المراقبة ويعرف كل شاردة و واردة من مصادر معلوماته او بالاستنتاج الفطن ثم أخبر حسنين ان لا خيار له اما ان يسلم نفسه ويصبح جنديا في جيش الباشا وهو وحظه ان نجا من القتل في الحروب التي لها اول وليس لها اخر, او الموت من جراء الاوبئة و الآفات ، اما الخيار الآخر فهو الانضمام الى جماعته ، وفكر حسنين ان الانضمام الى جماعة مخيمر معناه القيام بأعمال منافية للدين والعرف و لا تخلو من خطورة وتشمل اعمال سلب ونهب و اختطاف و اتاوات وربما اعمال قتل ، ظن مخيمر انه قادر على التلاعب بهذا الشاب الغر بما يملكه من تجربة وخبث ، وبعد نقاش اعتصم حسنين ببراءة فطرية سليمة وتربية دينية كافية للتفريق بين الخير و الشر في مجتمع القرية الصغير ، واخيرا قال له مخيمر ان رفض ما عرضه عليه فلا طريق امامه الا طريقة العم شلتوت ( الذي يسكن في بلدة مجاورة ) فلما سأله وما طريقة العم شلتوت وقد عرف قبلا ان شلتوتا هذا كان يقوم بالمداواة بالكي او اجراء جراحات ويدعي الطب و هناك الكثير مما يتناقله الناس عن علاقته بالجان والسحر والقيام بأعمال مريبة فأوجس حسنين خيفة في نفسه ، فاخبره مخيمر وانه لسبب قرابة أمه ينصحه بطريقة شلتوت فهو الوحيد الذي يخلصه من الجندية واخبره انه سيجري له عاهة تجعل اطباء الباشا يسرحوه من الخدمة فورا واخيرا استسلم حسنين الذي قضى ليله في غار في احد المرتفعات القريبة مع صحبة من رفاق مخيمر الذين انقسموا بين حراس في الخارج ومحششين في الداخل وسمع الكثير من حكاياتهم و غرائبهم وطرفهم والكثير من المبالغات حول شجاعتهم بل والاكاذيب ايضا لكن احدا لم يقترب من حسنين اجلالا لكبيرهم ، وربت مخيمر على رأس حسنين بلطف وقال له انه سيرتب الامر مع شلتوت وسيدفع الاتعاب وربما يتنازل شلتوت عنها طواعية مهابة له , فقد سبق ان حماه من مشاكل عدة ، وفي الليلة التالية كان حسنين يمشي منكسرا ومستسلما خلف مخيمر ، ولما وصلا استقبلهم شلتوت بحفاوة واشار مخيمر له ليبدأ عمله ، اشربه شلتوت عدة اقداح من شراب منفر لم يذقه من قبل في حياته واحس بالدوخة والنعاس ثم غاب عن الوعي . استيقظ حسنين بعد وقت لا يعلم مدته وهو غارق بين آلام مبرحة تلمع كالبرق في الجهة اليمنى من رأسه ، و هلوسات وحمى وغثيان شديد و نوبات تقئ تمزق أحشائه ، وكان يحس بيد تعبث بعصابة من النسيج حول رأسه ، و ماء او شراب او طعام يلقى في جوفه على فترات لا يحس لها طعما غير طعم العلقم ، و لم يكن يرى شيئا بسبب عصبة عينيه ، وكان يسمع احيانا صوت قريبه مخيمر الذي كان يتردد ليطمئن عليه ، ولكن لم يرد عليه بكلمة بل بهمهمات غير مفهومة تعبر عن اضطراب وصراع بين مشاعر واحاسيس شتى ، وبعد ان تحسنت حالته بعد أيام ، اقتاده مخيمر في احد الليالي المظلمة الى قرب دوار العمدة فاهتاجت بعض الكلاب بالنباح فاطلق مخيمر عيارا من بندقيته لإبعادها و لإشعار من في دوار العمدة بان هناك حدث عليهم ان يتحروا شأنه ثم غادر المكان بثقة ، وبعد دقائق خرج حراس الدوار وعندما لمحوا شبحا يتقدم استخبروا شأنه و عرفهم حسنين بنفسه وهو يرتجف ، وتقدم احدهم منه حاملا مشعلا ، قائلا هذا انت يا بن البغل دوختنا بالبحث عنك ، لماذا تركت اباك المسكين يُحجز مكانك ، ثم اقتادوه الى غرفة الحجز الشبيهة بالحظيرة واخبروا العمدة بالأمر والذي اشار عليهم بالمتعارف عليه في هذه الامور .
وفي الصباح اقتاده حارسان مكبلا معصوب احدى العينين الى الكفر (البلدة الاكبر) حيث توجد نقطة شرطة نظامية والذين استلموه بسيل من الشتائم الوقحة ، واطلقوا والده العجوز الذي تبادل بعض الكلمات المقتضبة مع ابنه وفهم ما جرى له و كأنه يلومه بحزن عميق على ما فعل بنفسه عملا بنصيحة مخيمر, وبحنو ايضا بان من نظرات عينيه الدامعتين ، ثم اقتيد حسنين في اليوم التالي وضُم الى قافلة التجنيد .
وفي الطريق التحق بالقافلة حراس آخرون و مكلفون كثيرون , اغلبهم من المكرهين والقليل من الراغبين , و الذين سيقوا من القرى المتناثرة حول نهر النيل الذي تختزن ذاكرته تاريخا من الحروب ومشاهد الصراع و طوابير الجنود الذين يساقون ولا يرجع منه الا ذو حظ عظيم ، بعض المساقين يبدو سالما وبعضهم لديه عرج او عوق او عمى بل حتى بعض المجانين والبلهاء الذين تحولوا الى مادة للإضحاك والسخرية طول الطريق بل ان واحدا منهم بدا متصنعا و يأتي بحركات وتعليقات ما زادته الا الحصول على بعض الضربات من اسواط اخرسته لما تبقى من المسير، كان المكلفون يساقون مشاة والكثير منهم حفاة كأنهم في رحلة الى الجحيم ويحيط بهم على جانبي الطريق حراس يتقلدون اسلحتهم بينما يمتطي الضباط و معاونيهم الخيول ، واغلب الوقت يسود الصمت ولا يسمع غير وقع سنابك الخيل و أصوات الاقدام على الارض ، وترتفع فوقهم غمامة من الغبار كأنهم في يوم حشر ، وقد همس بعض المكلفين لحسنين بانه اوفرهم حظا حيث ان عينه اليمنى مقلوعة ولهذا فانه لا يصلح للخدمة كعسكري حسب شروط اللياقة الصحية المعمول بها , والتي استمدت من الجيش الفرنسي الذي يشرف عليه مدربون فرنسيون لتدريب جيش الباشا على الاسلحة وفنون القتال الحديثة ومنها خطط نابليون الذي سبق وان جاء على رأس حملة لغزو مصر للتضيق على بريطانيا العظمى وتحت دعاوى نشر الحضارة والتنوير في العالم .
اخيرا وصلت قافلة المكلفين الى المعسكر المملوكي ذي الاسوار الحجرية بالمئات والالاف من شتى اصقاع مصر و حشروا في عدد من القاعات وتلقوا القليل من الشراب والطعام وأُخبروا ان الفحص الطبي سيكون صباح الغد ، قضى حسنين ليلته وهو يتقلب على الارض التي خلت من الفرش عدا بعض الخرق البالية وفي كل مرة يلامس جسمه يدا او رجلا او رأس او جسد انسان آخر وسط روائح مقرفة تمتزج بعفونة المكان ، مع عضات ولسعات لحشرات بين طائرة و زاحفة , لكنه كان يحلم مبتسما بالعودة الى قريته بعين واحدة سليمة ليزرع حقل ابيه ويربي بقرة بدل التي بيعت و يتزوج بهية ابنة خالته التي خطبت له وليخلف صبيان وبنات , واخيرا راح في سبات عميق لم ينهيه فجرا الا صيحات ضباط الصف في المعسكر و أبواق صدحت لإيقاظهم ثم صفوا في طابور طويل من الاجساد المتعبة و المعروقة في جلابيب مهترئة رثة تطرزها بقع العرق والغبار و تحت شمس لاهبة .
وبعد عدة ساعات أتى دور حسنين للفحص الطبي , تطلع الطبيب اليه بنظرات فاحصة من قمة رأسه لأخمص قدميه , وأمره بكشف جسمه واللف يمينا وشمالا ، ويبدو الطبيب مصريا و ليس فرنسيا كما كان يقال واخيرا قال بلسان عربي فصيح لعسكري يمسك سجلا : أكتب - قرار لجنة الفحص في تاريخه حسنين مغاوري حسنين فاقد العين اليمنى (وهنا تهلل وجه حسنين فرحا وكاد يرقص طربا , ما هي الا لحظات و يحصل على صك الإعفاء من الجندية !! ) و أكمل الطبيب تقريره - يصلح للخدمة العسكرية المسلحة ( وانتابت حسنين موجة من الذهول الطاغي المطبق ) ولكونه فاقد العين اليمنى ( لا يصلح لسلاح البنادق ) نقترح ( وبعد مداولة مع ضابط يجلس الى جانبه ) و تنفيذا لأمر مولانا المعظم محمد علي باشا الكبير المرقم كذا في كذا و الخاص بتشكيل كتيبة خاصة بالعوران في الجيش المصري يلحق بالكتيبة المذكورة بعد فترة التدريب الاساسي ، انتهى القرار
________________________
كتبها : عبد الحكيم توفيق آل سنبل