صور الصمت
في دوائر جابر محمد جابر المربعة
محمود كريم الموسوي
يقول خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله : (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو يصمت ) ، ويقول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام : ( بكثرة الصمت تكون الهيبة ) ويقول الحكماء (إذا أردت أن تنجو من شر لسانك فاصمت ) -
والصمت هو ليس السكوت ، فالسكوت يأتي بعد كلام لأسباب شتى ، منها الخوف من الاسترسال في الكلام ، أما الصمت فهو الإمساك عن الحديث وهو أبلغ من السكوت وله تسميات عدة ، فالصمت أمام حديث الأكبر سنا يعد احتراما ، والصمت أمام كلمات جارحة من الآخر يعتبر قوة ، والصمت عندما يتجاهلك من عرف قدرك صار ألما ، والتألم بمفردك من جرح صاحب لك صار الصمت قهرا ، وعندما لا تحتمل الألم سمي حنقا ، وإذا كتمت معاناتك قيل فيه حزنا ـ أما إذا استطعت أن تظهر ابتسامة وتكتم ما بداخلك فهو صمتا داخليا ، فقيل (إذا لم تكن لسرك كتوما فلا تلم في كشفه نديما ) 0
أما الصمت لدى الشاعر جابر محمد جابر فهو عالم صعب خاص به لا يفهمه إلاّ من تعمق في قصائد دوائره المربعة ، وغاص في دلالاتها الشعرية ، وتصويراتها الإبداعية ، فقد اعلن عن صمت لم نألف ثنائياته من قبل أو لم نطلع عليها ، فأوجد للصمت ضجيجا في قصيدة (إبهام الظلام) ص 18 وهو يقول :
كنت أنقر على الطاولة
بإيقاع مرتجف
لم تطأه أقدام الغربة
ولم يبعثره 00
ضجيج الصمت
فجأة
تركت الشارع
فقلق الغربة واضطراب النفس لشاعر إيقاعاته مرتجفة ، خلقت له تصورا مؤثرا في صمته انه يبعث ضجيجا جعله يترك المكان هاربا من المجهول 0
وفي قصيدة (أسئلة الوجود) ص 20، يرى الشاعر إن لصمته قناديل مضيئة وهي رمزية جميلة لمكانة الصمت الذي يعد أقوى لغة في العالم ، ولكن جابر على ما يبدو قد جزع الصمت فأراد أن يطفئء تلك القناديل بالكلام فيقول :
كنا نحاول أن نحتمي
بلحاف الكلمات
ونطفئ قناديل الصمت
وفي قصيدة (اعتذار متأخر ) ص 24 ، جعل صمته راعدا ، له لغته التي رسم من خلالها حياته المؤلمة فصب معاناته في قصيدته الشعرية التي أراد لكل بيت فيها أن يحمل معان عدة فيثقلها بهمومه ويقول :
قبل أن تهطل المسافات
أعاد رسم الجحيم
بلغة الصمت الراعد
كان يريد أن يكافئ قصيدته
وزع عليها الألوان
وإذا كان الكلام الغامض غير الواضح يوصف بأنه كلام ملتبس ، فان جابر قد البس صمت أصدقائه الذين سيستقبلهم في مأتم أحزانه تلك الصفة لأنهم أصابتهم الحيرة فالتبس صمتهم فيقول في قصيدة ( الصمت الملتبس ) ص 30 :
من فرط السهر
على خيباتي
وعليه 00
سأسقي أصدقائي
قهوة مرة بيضاء
وسأنصب سرادق عزائي
وأفرش سجاد فاخر 000
لاستقبال من تجمدت دموعهم
ومن تملكهم 00
صمت ملتبس
ومن ثنائيات صمت الشاعر جابر غير المألوفة هي ثنائية ( محراث الصمت ) في قصيدة (آني تسكنني نخلة) ص 36 ، فجعل معول القبر عبارة عن محراث لوأد صمته في معاناة الغربة القاتلة ، ولعمري انه اخذ معنى مفردة (محراث) بأنها العصا التي تحرك النار بها لتجديد اتقادها ، وليست آلة الحرث ، لأنها لو كانت في المعنى الثاني لتناقضت مع فصل الموت ، فالحراثة تعني الحياة والمستقبل وليس الموت ، فيقول :
رقصت أشجار حواسي
على أنغام ذابلة
وقبل أن أغلق
تابوت العمر
تسلل الغريب
بمحراث الصمت
معلنا بدء 00
فصل الموت
وفي قصيدة (حافلة الرغبة ) ص 46 ، ينقلنا الشاعر إلى صورة أخرى من صوره الشعرية الجميلة حينما يعلن عن خلعه للصمت بسبب مكالمة هاتفية وكأن صمته ثوبا خلعه ليلبس مكانه الكلام والحديث الحزين فيقول :
ذات مطر
جاء صوت على الهاتف
خلع صمتي
ولبس
صوتي وكلماتي المحترقة
وفي قصيدة (دوائر مربعة) ص 51 ، التي جعل عنوانها عنوانا رئيسا للمجموعة ، يقطع جابر صمته من يقظته ليتمكن من البوح بأسراره للآخرين برغم انه يرى فيهم إنهم غير مؤهلين لمعرفة أسراره فرمز لهم بالأبواب ، وهو بمفردة (يقظته) قد اخبرنا بأن صمته ما زال مستمرا معه فيقول :
الصمت
فطم يقظته ،
وسار على الأبواب
غير الجاهزة للبوح
وعلى ما يبدو إن الشاعر لم يخرج من صمته ، إذ يحادث شفته السفلى التي ترفض الحركة لإخراج الكلمات فيقول في مقطع آخر من القصيدة :
العتبة تنتظر00!
أيتها الشفة السفلى
لم لا تنزلين
لتفتحي كتاب الحنين
وبذلك فالشاعر يريد أن يخرج من صمته للبوح بحنينه وهو في الغربة ، إلى الوطن ، إلى الأهل ، إلى الزوجة والأطفال ، إلى الأقارب والجيران ، إلى الأصدقاء ، إلى حارته وشوارع مدينته 0
وفي قصيدة (سأعلن عن موتي قريبا) ص60 ، يصور غربته بالموت ويتذكر دجلة الخير وهو جالس في مقهى شعبي في حي السيدة زينب فيقول :
ناديت على " دجلة "
فأجابني صمته بأدب
عندها00
اكتفيت بالتلويح
بيدي العاريتين
وأسناني الخضراء
وأرى إن صمت جابر في غربته قد أضاف له هما وحزنا لهموم وأحزان الغربة ، وعلى ما يظهر انه لم يجد في تلك الغربة من يحمل معه ما ينوء به من معاناة وآلام ، فيتخيل ان لصمته أشواكا مرعبة ، فيقول في قصيدة ( قرد الزمن ) ص 68 :
تركت الطفولة
نائمة بلا سرير
وعند محراب متاهتي
أرعبتني كثيرا،
أشواك الصمت
والبس جابر صمته الكفن عندما وجد إن ذكرياته ستتعرض للتلاشي والاندثار ، لمراجعته لها مع نفسه لا مع غيره في حوار يستذكر ما يمكن أن يفلت منها بصمته فيقول في قصيدة ( كنت وكانت ) ص80 :
ياللعار000!
ماله ذلك الماضي يذوب
أمامي في مستنقع الزمن
لقد تركت خيالي
يسبح بصمت مكفن 00
وبعد أن بث من أحزانه ما نشكل به صور مأساة الغربة التي يعيشها الشاعر ، أقر ان للصمت بلاغة فيقول في قصيدة (لدي فائض من كريات الحزن ) ص 85 :
لا حتفظ00
بجمالية الحزن الهادئ
وبلاغة الصمت
وفصاحة التهكم
لأن لدي 00
فائض من كريات الحزن
وهو يذلك حوّل أحزانه إلى كريات تسري في دمه وصمته إلى صمت داخلي معتمدا الحكمة التي تقول : ( الصمت أبلغ من الكلام )
وفي قصيدة (ما قاله سيبه ويه ) ص 86 ، يرفض إعارة صمته لآخرين ، أما في قصيدة (هو 00 وأنا والنهر ) ص 91 فجعل الشاعر جابر للصمت منفضة فيقول :
لم أبرر
تبذيري ثروة الحلم
فوضعت منفضة الصمت
على أعقاب 00
جمل ناقصة ،
ارسل الى الأستاذ حسب الله يحيى صباح يوم السبت 21 / 12 / 2013م
نشر في التآخي ( 6744) الخميس 26 / 12 / 2013م مع قطع المقدمة وتغيير العنوان
نشر في مركز النور الاحد 5 / 1 / 2014م