نظرية النظم:
النظم لغةً: هو التأليف، وضم شيء إلى شيء آخر، يقال: نظمت اللؤلؤ أي: جمعته في السلك، والتنظيم مثله. ومنه: نظمت الشعر. والنظام ـ بكسر النون ـ: الخيط الذي ينظم به اللؤلؤ...( ).
وبهذا يكون المعنى اللغوي المشترك هو ضم الشيء إلى الشيء وتنسيقه على نسق واحد كحبات اللؤلؤ المنتظمة في سلك، وهو ما ذهب إليه عبد القاهر الجرجاني في كتابه (دلائل الإعجاز)، فالنظم عنده هو: تعليق الكلم بعضها ببعض وجعل بعضها بسبب بعض( ).
وقد كان لقضية إعجاز القرآن أثر كبير في بلورة فكرة (النظم)، وإنَّ ما وصلنا من كلام يتصل بإعجاز القرآن يرجع إلى القرن الثالث الهجري، بعد ازدهار حركة الترجمة والاتصال بالثقافات الأجنبية، ولاسيما اليونانية، فضلا عن ظهور بعض الفرق الكلامية، كالمعتزلة، إذ ذهب إبراهيم النظام (231هـ) ـ من بينهم ـ إلى أنَّ القرآن معجز بالصرفة، أي أنّ الله ـ عز وجل ـ صرف العرب عن معارضة القرآن، مع قدرتهم عليها، فكان هذا الصرف خارقا للعادة( ). وقد يكون معنى (الصرفة) هو أنَّ للبشر إمكانيات محدودة، ليس لأحد منهم أن يتجاوزها، ومن ثمَّ لا يستطيعون أن يأتوا بمثل القرآن، على أنَّ لله تعالى إمكانيات مطلقة لا تتوفر لبني البشر. وقد ألف في قضية (إعجاز القرآن) ـ قبل عبد القاهرـ كثير من العلماء، لعلَّ أشهرهم: الرماني (386هـ) في ((النكت في إعجاز القرآن))، والخطّابي (388هـ) في ((بيان إعجاز القرآن))، والباقلاني (403هـ) في ((إعجاز القرآن))، ثمَّ توالت المؤلفات في هذا الباب.
وفي هذه الكتب والرسائل ـ وغيرها من المؤلفات ـ التي تكلمت على إعجاز القرآن حديث عن (النظم)، بيد أنَّ هذا الحديث لم يوضح لنا فكرة (النظم) أو الغرض منها، مثلما فعل عبد القاهر فيما بعد، وإنَّما هو ومضات في الطريق سار عليها البلاغيون، فضلا عن أنه ظلّ حديثا يدور ـ غالبا ـ في فلك التنظير، من دون أن يتجاوز ذلك إلى التطبيق، فأبو الحسن علي بن عيسى الرمّاني يرى أنَّ حُسن البيان في الكلام على مراتب، وأعلاها مرتبة ما جمع أسباب الحسن في العبارة من تعديل التنظيم حتى يحسن في السمع ويسهل على اللسان وتتقبله النفس تقبـّل البرد، وحتى يأتي على مقدار الحاجة فيما هو حقه من المرتبة( ) ويرى الخطّابي أنَّ القرآن ((إنما صار معجزا لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف مضمـّنا أصح المعاني))( )، ثم يتحدث عن القرآن قائلا: ((ولا ترى نظما أحسن تأليفا وأشدّ تلاؤما وتشاكلا من نظمه))( ). والنظم ـ عند الخطابي ـ ليس سهلا ميسورا، وإنّما يحتاج إلى ثقافة ومهارة، إذ يقول
( وأما رسوم النظم فالحاجة إلى الثقافة والحذف فيها أكثر لأنّها لجام الألفاظ وزمام المعاني وبه تنتظم أجزاء الكلام ويلتئم بعضه ببعض فتقوم له صورة في النفس يتشكل بها البيان))( ).
أما الباقلاني فيرى أنّ كتاب الله معجز بالنظم ـ أيضا ـ لأنَّ نظمه خارج عن وجوه النظم المعتاد في كلام العرب، إذ يقول: ((فأما شاو نظم القرآن فليس له مثال يحتذى عليه ولا إمام يقتدى به ولا يصح وقوع مثله اتفاقا كما يتفق للشاعر البيت النادر والكلمة الشاردة والمعنى الفذ الغريب والشيء القليل العجيب))( ). ويقول أيضا
( وقد تأملنا نظم القرآن، فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه التي قدمنا ذكرها، على حدٍّ واحد، في حسن النظم وبديع التأليف والصرف))( ). وقال أيضا
( ليس الإعجاز في نفس الحروف وإنما هو في نظمها وإحكام رصفها))( ).
هذا ما كان من أمر نظرية النظم قبل القرن الخامس الهجري، أو لنقل قبل عبد القاهر الجرجاني، فلم نجد فكرة واضحة عنها إلا في كلام القاضي عبد الجبار (415هـ) الذي كان أكثر وضوحا، إذ رأى أنَّ الفصاحة والبلاغة تقومان على ضمّ الكلمات وتقارنها، فقال
( اعلم أنَّ الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلام، وإنّما تظهر في الكلام بالضم على طريقة مخصوصة، ولا بدَّ مع الضم من أن يكون لكل كلمة صفة، وقد يجوز في هذه الصفة أن تكون بالمواضعة التي تتناول الضم، وقد تكون بالإعراب الذي له مدخل فيه، وقد تكون بالموقع، وليس لهذه الأقسام الثلاثة رابع، لأنّـه إما أن تعتبر فيه الكلمة، أو حركاتها، أو موقعها. ولا بدَّ من هذا الاعتبار في كلِّ كلمة. ثم لا بدَّ من اعتبار مثله في الكلمات، إذا انضم بعضها إلى بعض، لأنَّها قد يكون لها عند الانضمام صفة، وكذلك لكيفية إعرابها وحركاتها وموقعها...))( ).
نظرية النظم عند عبد القاهر:
كان عبد القاهر الجرجاني قد اطلع على آراء من سبقه في هذا الشأن ففسر فكرة الإعجاز تفسيرا يقوم على (النظم)، وربط الإعجاز بالنظم، إذ رأى أنَّ الكتاب العزيز معجز في نظمه، أو توخي معاني النحو التي أطلقها عبد القاهر على موضوعات: التقديم والتأخير، والذكر والحذف، والقصر، والفصل والوصل، والتعريف والتنكير...
والنظم ـ عند عبد القاهرـ هو
( تعليق الكلم بعضها ببعض، وجعل بعضها بسبب من ببعض...))( )، أو هو توخي معاني النحو وأحكامه ووجوهه فيما بين معاني الكلم، أي أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها))( ). ثمَّ يقرّر عبد القاهر أنَّ اللفظة المفردة لا قيمة لها في ذاتها، لا في جرْسها ولا دلالتها مزيّة أو فضل، وإنّما تكون لها مزيّة حينما تنتظم مع جارتها في جمل أو عبارات، ومن ثمَّ يتلاءم معناها مع معاني الألفاظ التي تنتظم معها، أي أنَّ الألفاظ لا تتفاضل إلا إذا اندرجت في سلك التعبير، وانضم بعضها إلى بعض، وأخذت مكانها الطبيعي الذي تقتضيه الصورة وانسجمت مع ما قبلها وما بعدها لأداء المعنى الذي يريده المتكلم، وبهذا تلتقي بلاغة الكلام وفصاحته مع فكرة (النظم) التي أتعب عبد القاهر نفسه في شرحها والتدليل عليها( ).
ويعدُّ عبد القاهر أولَّ عالمٍ أخرج النحو من نطاق شكليته وجفافه، وسما به فوق الخلافات والتأويلات حول البناء والإعراب، إذ أخضع النحو لفكرة (النظم)، فقال
( معلوم أن ليس النظم سوى تعليق الكلم بعضها ببعض، وجعل بعضها بسبب من بعض)). وقال أيضا
( واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو...))( )،
وقد علمنا بأنَّ النظم ليس سوى
حكم من النحو نمضي في توخيه( )
أي ليست العمدة في معرفة قواعد النحو وحدها، ولكن فيما تؤدي إليه هذه القواعد والأصول، وقد يكون أحدنا لا يعرف التسميات الدقيقة لموضوعات النحو، ولكنّه يعرف الفروق بينها ويحسّ بمعانيها حين يسمعها، شأنه في ذلك شأن البدوي الذي عاش بعيدا عن النحو ومصطلحاته، أو قبل أن يعرف علم النحو، غير أنّه كان يفهم ما يسمع ويميّز بين أسلوب وآخر...
ويقرّر عبد القاهر ـ أيضا ـ أنَّ معاني النحو في القرآن الكريم قد بلغت درجة من الوضوح والظهور والانكشاف لم يبلغها أيّ نصٍّ آخر، وهو ـ أي عبد القاهرـ يستشهد بأمثلة من الشعر العربي، ومن ثمَّ يوازن بينها وبين النظم القرآني، لكي يصل إلى سرِّ الإعجاز القرآني المتمثل في (نظمه)، أو في طريقة تأليفه... والألفاظ عند عبد القاهر تقع مرتبة على المعاني المرتبة في النفس، لأنّك ترتب المعاني في نفسك أولا، ثم تحذو على ترتيب الألفاظ في نطقك، لأنّـه ((لا يُتصوّر أن تعرف للفظ موضعا من غير أن تعرف معناه، ولا أن تتوخى في الألفاظ من حيث هي ألفاظ ترتيبا ونظما، وإنَّك تتوخى الترتيب في المعاني وتعمل الفكر هناك، فإذا تمّ لك ذلك أتبعتها الألفاظ وقفوت بها آثارها، وإنَّك إذا فرغت من ترتيب المعاني في نفسك لم تحتج إلى أن تستأنف فكرا في ترتيب الألفاظ، بل تجدها تترتب لك بحكم أنّها خدم للمعاني وتابعة لها ولاحقة بها، وأنَّ العلم بمواقع المعاني في النفس علم بمواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق))( ). وهذا يعني أنَّ الأديب حينما يكتب لا يفكر بالألفاظ ولا يطلبها وإنَّما يطلب المعنى، أما الألفاظ فتبع له، أي للمعنى، تأتي عند التفكير به وترتب بحسب ترتيبه في النفس.
وهناك من يرى أنَّ عبد القاهر ـ هنا ـ يصدر عن عقيدة الأشاعرة في الكلام النفسي القائم بالذات ـ بوصفه متكلما أشعريا ـ حين يقرّر أنَّ الكلمات تترتب بحسب ترتيب المعاني في النفس، إذ يقول الدكتور جابر عصفور
( إنَّ نظرية النظم تعتمد على المبدأ الأشعري الذي يفصل بين الدلالة والمدلول، ويسلم بأسبقية المعاني القائمة في النفس على الألفاظ الدالة في النطق))( ).
ويقول الدكتور شكري محمد عيّاد
( أما الجرجاني فقد كانت نظرية الكلام النفسي هي عمدته في قضية اللفظ والمعنى))( ).
وتكلم عبد القاهر ـ أيضا ـ على ما يسمّى بـ(معنى المعنى)، أو ما يسمّى اليوم بـ(The meaning of meaning)، إذ يقول
( أولا ترى أنّك إذا قلت: هو كثير رماد القدر، أو قلت: طويل النجاد، أو قلت في المرأة: نؤوم الضحى، فإنّك في جميع ذلك لا تفيد غرضك الذي تعني من مجرد اللفظ ولكن يدلّ اللفظ على معناه الذي يوجبه ظاهره ثم يعقل السامع من ذلك المعنى على سبيل الاستدلال معنى ثانيا هو غرضك كمعرفتك من كثير رماد القدر أنَّه مضياف، ومن طويل النجاد أنّه طويل القامة، ومن نؤوم الضحى في المرأة أنّها مترفة مخدومة لها من يكفيها أمرها...))، أي أنَّ في هذه الجمل معنيين: المعنى الأولي الذي تستدل عليه من ظاهر اللفظ، والمعنى الثانوي الذي تستدل عليه بعقلك، وهو ما يسمّى بـ(معنى المعنى). ثم يلخص لنا عبد القاهر هذه الفكرة بقوله: ((وإذ قد عرفت هذه الجملة فهاهنا عبارة مختصرة وهي أن تقول: المعنى ومعنى المعنى، تعني بالمعنى: المفهوم من ظاهر اللفظ والذي تصل إليه بغير واسطة، وبمعنى المعنى: أن تعقل من اللفظ معنى ثمَّ يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر كالذي فسرت لك)) ( ). من هنا نرى أنَّ المعاني الإضافية عند عبد القاهر هي أساس جمال الكلام، وإليها ترجع الفضيلة. وهذه الفكرة لم يلتفت إليها أحد من النقاد العرب السابقين، وتناولها بالبحث النقاد الغربيون وسموها بـ(معنى المعنى) أيضا، أو (The meaning of meaning).
وإذا كان هناك من أشار ـ قبل عبد القاهرـ إلى أنَّ القرآن معجز في نظمه وحسن تأليفه، فإنَّ أحدا لم يستطع أن يكشف لنا عن وجه هذا الإعجاز مثلما كشفه عبد القاهر، لذا عدَّ عبد القاهر رائدا في هذا المجال، بعد أن شغلته فكرة (الإعجاز) وقرن بين التنظير والتطبيق، فحلل النصوص، وأظهر ما فيها من روعة وجمال أو تكلـّف وإسفاف. وقد أعانته نظرية النظم وإدراكه لما في اللغة من قدرات على أن يبدع في التحليل وأن يكون من المعتقدات النقاد والبلاغيين العرب، حتى عدَّ واضع أسس المنهج التحليلي في الدراسات النقدية( ).