حتى العاطفة على غير مذكور
الدكتور / عباس علي السوسوة
يهدف هذا البحث إلى دراسة هذه الظاهرة الشائعة في العربية الفصحى المعاصرة، ويحاول أن يتتبع جذورها في النصوص المكتوبة، في العربية المشتركة، منذ أن وجدت حتى الآن.
بداية لا بد من الإشارة إلى أن حتى في عربية عصر الاحتجاج (حتى عام 150هـ)، تأتي ( ) ابتدائية وجارة، وناصبة للفعل المضارع، وعاطفة، وهي تفيد الغاية، كما تحمل ظلالاً دلالية من الجمع، أو التعظيم، أو التحقير، أو القوة، أو الضعف أو التعليل، بحسب السياق الذي ترد فيه.
وقد شاع بين المتأدبين أن أحد النحاة القدماء قال: (أموت وفي نفسي شيء من حتى). وهذا القول منسوب لأبي زكريا الفراء (207هـ)، في مصدر متأخر، بتغيير طفيف هو: (أموت وفي قلبي من حتى) ( ). ولم نجد القول في كتب الفراء التي نشرت، ولا في المصادر القديمة التي ترجمت له. وعلى كل حال إذا كان صاحب القول – أيّاً كان- يريد بذلك معاني حتى، فذلك لا يسلّم له، إذ هو أمر ينطبق على كثير من الأدوات التي سماها القدماء حروف المعاني، كالباء مثلاً.
المهم أن العطف بحتى في عربية عصر الاحتجاج قليل. وآية ذلك أن القرآن الكريم قد خلا من حتى العاطفة. ذكر ذلك السيوطي( )، وعضيمة( ).
وللعطف بحتى شرطان( ): الأول: أن يكون الثاني جزءاً من الأول أو ما يتنزل منزلة البعض منه، مثل:
قام القومُ حتى زيدٌ
أكلت السمكة حتى رأسَها
أسرع القومُ حتى حميرُهم
والثاني: أن ما بعد حتى لا بد أن يكون عظيماً، أو حقيراً، أو قوياً، أو ضعيفاً، بعكس ما قبلها. مثل:
مات الناسُ حتى الأنبياءُ
نهض الحجاجُ حتى المشاةُ
ضعف الناسُ حتى السلطانُ
على أن العطف بحتى في عربيتنا المعاصرة ليس قليلاً، ودونك الصحف والمجلات والكتب لتنظر في أمثلتها الكثيرة. وقد تفرع عن هذا العطف عطفُ حتى على غير مذكور سابق في الجملة مثل:
لم يستطيعوا حتى شراءَ ملابس لأولادهم.
لم تعد تحقق حتى النجاحَ المادي.
لا تقدم منها ولا حتى سبحةً هديةً.
وهذا النوع الأخير كثير في العربية الفصحى المعاصرة لكنه منعدم في عربية عصر الاحتجاج لذلك كان طبيعياً أن لا يتعرض النحاة له، سواء كانوا متقدمين أم متأخرين. فأما المتقدمون فمعلوم أنهم لا يصفون ظاهرة لم يجدوها أمامهم. وأما المتأخرون فلم يصفوا مادة لغوية جديدة، بل قصروا جهدهم على تنظيم أحكام النحاة القدماء، وتهذيب مصطلحاتهم. ونحن إنما تعلمنا قواعد الفصحى التي وقفت عند حدود عام 150هـ، فترتب على ذلك أن بعض الباحثين إذا وقف على ظاهرة نحوية في الفصحى الحديثة لم يجد لها ذكراً عند القدماء، عدّ ذلك من قبيل تأثير الترجمة عن اللغات الأوربية الحديثة في العربية المعاصرة، بطريق مباشر أو غير مباشر. فكأن العربية لا تتطور ذاتياً –بالمعنى العلمي المحايد للتطور- بل هي بحاجة إلى مصدر أجنبي حتى تتغير. ومما نحن بصدده بشأن هذه الظاهرة أن باحثاً رائداً في دراسة الفصحى المعاصرة وقف على جمل مثل (لم يقبلوا حتى الصمت) فعلق عليها بقوله (وقد شاع استخدام (حتى) على النحو السابق بتأثير اللغات الأجنبية، فهي تقابل في المثال السابق كلمة even في الإنجليزية)( ).
ونحن مع تسليمنا بوجود تشابه بين اللغات المختلفة سواء كانت من أرومة واحدة أو مختلفة –لا نرد هذا التشابه بالذات إلى التأثر بالإنكليزية، بل نقول: إن ظاهرة العطف بحتى على غير مذكور موجودة في الفصحى شعراً ونثراً منذ القرن الثالث الهجري على الأقل. والنص الذي يلغي الاجتهاد سيكون هو الحكم.
ونبدأ في متابعة هذه الظاهرة في العربية الفصحى المشتركة بعد عصر الاحتجاج باللغة، فنجدها عند الشاعر الأندلسي يحيى بن الحكم الغزال (ت255هـ) قال:
((أرى أهل اليسار إذا توفّوا
أبوا إلاّ مباهاةً وفخراً
بنوا تلك المقابر بالصخور
على الفقراء حتى في القبور)) ( )
ففي البيت الثاني نرى أن البنية العميقة له: أبوا إلا مباهاة وفخراً على الفقراء في كل شيء حتى في القبور. ويصح أن تكون: أبوا إلاّ مباهاة وفخراً على الفقراء في كل شيء ومنها القبور.
ثم نجد الظاهرة عند عريب بن سعد القرطبي (ت بعد 331هـ: ((وقيل لصاحب الدار: اكتب جميع ما ذهب منك، فكتب حتى المكنسة والمقدحة)) ( ). والبنية العميقة للجملة الأخيرة: فكتب كل شيء حتى المكنسة والمقدحة.
وسنكتفي من الآن بعرض الشواهد المختلفة على ظاهرة العطف بحتى على غير مذكور في الجملة في بنيتها السطحية، لكنها مفهومة من البنية العميقة عند قارئ هذه الشواهد.
فنجد هذه الظاهرة في شعر أبي الطيب المتنبي (ت354هـ)، ومنها:
((فجاز له حتى على الشمس حكمه
وبان له حتى على البدر ميسم))( )
ويقول الشارح: ((ظهر اسمه على كل شيء حتى على البدر))
وقد أحسن الشارح في بيان هذه الظاهرة لكنه نسي أيضاً أن بنية الشطر الأول العميقة تعني: فجاز له حكمه على كل شيء حتى على الشمس.
ومن شعر المتنبي أيضاً:
((كتمتُ حبك حتى عنك تكرمةٌ
ثم استوى فيك إسراري وإعلاني))( )
ويشرح ابن سيده البيت بما يوضح العطف غير المذكور، فيقول: ((أي كتمت حبي عن الأنام حتى عنك، وإنما كان كتمانه تكرمة لك، ثم غلبني فاستوى سري وجهري، أي اظهرتُ منه مثل ما كتمت))
كذلك نجد هذه الظاهرة في شعر محمود بن حسين الشهير بكشاجم (ت360هـ):
((لقد بخلتْ حتى بطيف مسلّمٍ
أخاف على طيفي إذا جاء طارقاً
عليَّ، وقالت رحمةً لنحيبي:
وسادَكَ أن يلقاه طيفُ رقيبي)) ( )
ثم نجدها عند المحسِّن التنوخي (ت384هـ): ((ولكن الطباع خسّت حتى في الحسد)) ( )
ونجد هذه الظاهرة عند ابن سينا (ت428هـ) في مواضع متفرقة من القانون، ومنها حديثه عن الطفل: ((فإذا كانت بنيته غير متناسقة كان رديئاً حتى في فهمه وعقله)) ( )
وفي حديثه عن خواص نبات الإذخِر: ((دهنه ينفع من الحكة حتى في البهائم))( )
وفي حديثه عن ضرورة معرفة الطبيب المباشرة: ((فلا يحكم جزماً حتى في النبض أيضاً))( )
ونجد الظاهرة عند العميدي في حديثه عن المتنبي (ت443هـ): ((ولولا أنه كان يجحد فضل من تقدمه من الشعراء وينكر حتى أسماءهم في محافل الرؤساء… لكان الناس يُغضون عن معايبه))( )
ثم نجدها في شعر أحمد بن يوسف المنازي (ت437هـ) مادحاً وواصفاً دوحةً:
((نفى حتى الذبابَ الخُضرَ منها
ذبابٌ من حسامكَ ذو اخضرار))( )
بعد ذلك نجد الظاهرة عند أبي العلاء المعري (ت449هـ) يشرح بيتاً للمتنبي:
((ما زلتُ أطلب العفافَ حتى في حال الخلوة مع الرقيب))( ) كذلك نجدها في لزومياته:
وقد كذبوا حتى على الشمس أنها
تهان إذا حان الشروقُ وتُضربُ( )
ونجدها عند ابن رشيق (ت456هـ): ((كانت العرب لا تتكسب بالشعر، فلما جاء الأعشى جعل الشعر متجراً. وقصد حتى ملك العجم)).( )
ونجدها عند عبدالقاهر الجرجاني (ت474هـ): ((…..ولذلك تجد الشيء يلتبس منه حتى على أهل المعرفة))( )
ونجدها عند نصرالله بن قلاقس الإسكندري (ت567هـ):
((والخط حتى في الحروف مؤثرٌ
يختص بالترقيق والتفخيم))( )
ثم نجد الظاهرة في شعر أحمد بن عيسى الهاشمي (ت593هـ):
((لم أكتحل في صباح يومٍ
إلاّ لحزني، وذاك أنّي
أهريقَ فيه دمُ الحسينِ
سوّدتُ حتى بياضَ عيني))( )
وفي أول القرن الهجري السابع نجدها عند كمال الدين الفارسي:
((وذلك غير مضر حتى في الحسبانات))( )
ثم نجدها في تاريخ ابن الأثير (ت630هـ)؛ ومنها:
((فأخذهم البربر وذبحوهم حتى النساء والصبيان))( )
((وقتلوا منهم خلقاً كثيراً حتى عند الضريح))( )
((وقدّمه حتى على نفسه))( )
ثم نجدها عند الوزير ابن شداد (ت632هـ): ((وكان للمسلمين لصوص يدخلون إلى خيام العدو فيسرقون منهم حتى الرجال))( )
ثم نجدها في شعر البهاء زهير (ت656هـ)؛ ومنها:
((واستهلك البيعُ حتى
((سجدت له حتى العيونُ مهابةً
((ومن أجله أضحى المقطم شامخاً
طراحتي ولحافي))( )
أو ما تراها حين يُقبلُ تُطرِقُ))( )
ينافسُ حتى طورَ سينا في القدر))( )
ونجد عند الشاعر ابن باتكين أحد المتوفين في أول القرن الثامن، يهجو القاضي ابن بنت الأعزّ، ساخراً من اسمه:
((لاتعجبوا كثرة إسقاطه
فإنه أسقط حتى أباه))( )
ونجد هذه الظاهرة في شعر أحمد بن أبي عَزَفَةَ (ت 708هـ):
((وحملتُ من حُبّيكَ ما لو حُمِّلَتْ
من حيف دهر بالحوادث مُقدِمٍ
شمُّ الجبال أخفِّها لم تحملِ
حتى على غيل الهزبر المُشبل))( )
ونجدها كذلك عند ابن الطقطقى (ت709هـ)، ومنها: ((وقد كان الملوك يبالغون في إقامة الهيبة والناموس، حتى بارتباط الأسود والفيلة والنمور))( )
وفي موضع آخر يقول: ((وخفي ذلك حتى على الصاحب علاء الدين))( )
ثم نجدها في شعر محمد بن دانيال الكحّال (ت710هـ) يصف برذونه المتعب:
((يجفل حتى من الشعير فما
يذوق قضماً إلاّ مع الغلس))( )
كذلك نجدها في شعر صفي الدين الحلي (ت750هـ):
((وأعرضتُ عن طيب الهناء لأنني
نقمت الرضا حتى على ضاحك المزن))( )
كذلك نجدها في المؤلفات المختلفة للأديب المؤرخ صلاح الدين الصفدي (ت764هـ)، فمن ذلك ما جاء في حديثه عن تقديم السمع على البصر في القرآن الكريم: ((قدّم السمع على البصر حتى في قوله تعالى (صمّ بكم عميٌ)، فقدم متعلَّق السمع على متعلق العين))( )
وفي كتابه الوافي تكرر، ومن ذلك: ((رأيت له عدة تصانيف حتى في الأطعمة))( )
و ((وله أشياء من مراعاة الإعراب في لفظه حتى مع النساء))( ).
كذلك وردت عند ابن خلدون (ت808هـ: ((وفرضت المغارم حتى على الحُجّاج))( )
وتكررت هذه الظاهرة عند الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت852هـ). ومنها:
((وكان يؤثر على نفسه حتى بقميصه))( )
((فوجدوا الماء جليداً حتى في القرب والزمزميات))( )
بعد ذلك نجدها في تاريخ ابن تغري بردي (ت874هـ)، ومنها ((وأخذوا حتى رخام بيته)) ( )
ومنها: ((ولعبت مماليك السلطان بالرمح بين مخاصمة، ولعّب حتى المعلمين))( )
ثم نجدها عند الشاعر محمد بن عبدالكريم البسطي (ت ح 890هـ):
((فأذهلَ الناس حتى عن مراشدها
واستقبلتني به الأشجانُ والغير))( )
ثم نجد الظاهرة عند النهروالي (ت990هـ) الذي أرخ للفتح العثماني لليمن. ففي حديثه عن والي جدة يمدحه قائلاً: ((…. أو أشار إلى الليل البهيم لانجاب، مع عفاف حتى عن الطيف))( )
وفي حديث عن أحد المقاومين للترك يقول: ((واستولى (قطران الكلب)، على (ذراع الكلب)، وقطع الطريق إلى الترك من اليمين واليسار والقلب، ومنع حتى الطائر أن يطير))( )
وهي موجودة عند المقّري (ت1041هـ) ومن ذلك:
((ورعى الله من بان، وشاق حتى الرند والبان))( )
((وصار ملوك الطوائف يتباهون في أحوال المُلك حتى في الألقاب))( )
وهي موجودة عند الجبرتي (ت1237هـ) مؤرخ الحملة الفرنسية وأول أيام محمد علي باشا في مصر، ومنها: ((وإذ همّ بالخير أو عمل به أدخل الله البركة على أهل مملكته حتى في التجارات والزراعات))( )
ونجد الظاهرة في أقوم المسالك الذي ألفه خير الدين التونسي عام 1867م: ((كما أشرت إلى ما كانت عليه أمة الإسلام المشهود لها حتى من مؤرخي أوربا الأعيان بسابقية التقدم في مضماري العرفان والعمران))( )
ثم نجد حتى العاطفة على غير مذكور عند الكواكبي (ت1902م): ((كادت تجعل الغربيين أدرى منّا حتى في مباني ديننا))( )
ثم نجد الظاهرة عند الشيخ محمد عبده (ت1905م) في حديثه عن البيت: ((يعيش فيه كل منهما وقلبه ملآن بعيوب الآخر، وتبدو فيه المناقشات والمخاصمات في كل آن بسبب وبغير سبب، في الصباح وفي المساء حتى في الفراش))( )
وهذه الظاهرة موجودة عند عباس محمود العقاد في أكثر من مؤلَّف، ومن ذلك:
((مثلهم في ذلك مثل السوائم والأوابد في حريتها، فإنها لا تفعل ما تريد علوّا عن ربقة الأوهام ونبوّاً عن أحكام التقاليد، بل لخلوها من قابلية التقيّد حتى بالأوهام الباطلة))( )
((…فإن من أصحاب المظاهر والأبهة من يترفع عن البكاء ويتكلف الجَلَد والسكون حتى في الفجائع الفادحة))( )
((بل هو لم يكن ممثلاً حتى للثورة العرابية التي كان زعيماً من زعمائها))( )
ثم نجد الظاهرة عند أمين الريحاني في الكتاب الذي تحدّث فيه عن حكام الجزيرة العربية (صدر أول مرة عام 1924م)؛ ومنها: ((ان البساطة لتدنو في القصر من التقشف، فتبدو في السجاد العادي، وكراسي الخيزران، والدواوين المغطاة بقماش من القطن، والجدران العارية حتى من الآيات))( )
ثم نجدها عند توفيق الحكيم: ((فأنا لم أحاول عقد صلات حتى مع من كان يجب أن أتصل بهم من أدباء وفنانين))( )
ثم نجدها عند المؤرخ الأدبي الكبير شوقي ضيف: ((وهذا كله هزل ودعابة ودليل على أن المصريين لم ينسوا حتى في عصور الظلام ما طُبعوا عليه من التندر والفكاهة))( )
ثم نجدها عند الفقيه اللغوي صبحي الصالح: ((إنّ لك أن تقدّر جسامة الخطأ الذي وقع فيه بروكلمان حين أطلق القول بأن اللغات السامية تخلو من الصياغة التركيبية، شاملاً بحكمه هذا حتى العربية))( )
ونجدها عند المؤرخ الأدبي محمد زغلول سلاّم في أكثر من كتاب، ومنها:
((ولم يسلم حتى الشعراء، من استخدام المصطلح))( )
((واشتهر بروحه المرحة وسخريته الضاحكة حتى في مجالس السلاطين))( )
ونجدها عند القصصي يحيى حقي: ((ستبقى نظراته منكسرة حتى أمام جيرانه))( )
ونجدها عند الناقد محمد أحمد العزب: ((…يتضح لنا أن التقيد بالخليل أو ترسّم حدوده غير وارد حتى عند الأقدمين))( )
كذلك نجدها عند الناقد ذي الرؤية الاجتماعية عبدالمحسن طه بدر (ت1990م)؛ ومنها:
((يلخص لنا صورة عن علاقاته الإنسانية حتى مع الأدباء))( )
((تكون مجرد تصورات مثالية لم تحفر عميقاً حتى في نفوس أصحابها))( )
ثم نجدها عند الباحث قحطان التميمي: ((ولعل من المبالغة الطريفة الخفيفة هذه الأبيات التي هجا بها الحمدوني أحدهم بالبخل، مصوراً إيّاه من خلال مشهد تمثيلي بعيداً في أنانيته، عاقاً، منبت الصلة حتى بأبيه وإخوته))( )
ثم نجدها عند الفقيه الداعية محمد جواد مغنيّة: ((فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون)). أي: فإن لم يقولوا حتى هذه البديهة، وأبوا إلاّ الشرك والعناد، فأعرض عنهم، وقل لهم أنت ومن آمن بك: اشهدوا بأنا مسلمون))( )
ونجدها أيضاً عند الناقد محمد فتوح أحمد: ((ألا يعني هذا أن ظواهر التقابل والازدواج تفرض نفسها حتى على أدق مكونات البنية الشعرية))( )
ثم نجدها عند المفكر خالص جلبي ((إن الشعور الداخلي يصب نفسه حتى إلى تعبيرات الوجه وحركات اليدين))( )
ثم نجدها عند الطبيب والروائي نجيب الكيلاني: ((إن الحرية الحقيقة حبر على ورق حتى في أوربا وأمريكا))( )
ثم نجدها عند اللغوي سمير ستيتية: ((يقولون بها الشعر، ويخطبون، وينافر بعضهم بعضاً، ويستعملونها ليتفاهموا بها حتى في أحاديثهم))( )
ثم نجدها عند الاجتماعيين: إبراهيم بدران وسلوى الخماش، ومن ذلك:
((فهي إذا غضبت أو أصابها ظلم حتى من أقرب الناس إليها، تنهال عليه إما جهاراً وإما خفية بالدعوات))( )
((ويساهم الزجّالون والمؤلفون والمطربون والإذاعات العربية عامة في تأكيد دور الحسد حتى في المسائل العاطفية)( )
ونجدها عند الرسام محيي الدين اللّباد: ((وفي تلك المفاصل التاريخية العظيمة يولد الرجال والفنانون العظام حتى من الحرف الصغيرة))( )
ثم نجدها عند الناقد الأدبي الكبير شكري عياد: ((ولكن الشاعر العبقري يصنع الجمال حتى من القبح))( )
كذلك نجدها عند تلميذه الناقد عبدالحكيم راضي: ((هل ذلك هو سلوك الرجل الذي يرفض شعر الإسلاميين حتى في مجال الاحتجاج اللغوي))( )
ثم نجدها عند القانوني حسن الزين: ((…عندما ظهرت تصرفات الوالي الجديد وما حملت من مخالفات مسّت حتى جوهر العقيدة، بما عبّرت عنه من فسق وفجور))( )
ونختتم جملة هذه الشواهد على هذه الظاهرة الشائعة في كل صحيفة ومجلة وكتاب بما جاء عند المفكر محمد عمارة: ((…بل هم مأمورون بتعميم العدل حتى على الأعداء ومن يكرهون))( )
وهكذا رأينا ظاهرة العطف بحتى قليلة في عصر الاحتجاج باللغة، ولم نعثر في كتابات هذا العصر على شاهد للعطف على غير مذكور، ثم لاحظنا بعد عصر الاحتجاج أن هذه الظاهرة بدأت تبرز شيئاً فشيئاً عند كثير من المؤلفين في شتى فنون التأليف في كل القرون السابقة على قرننا، وهي الآن ليست بالظاهرة القليلة الورود، بل هي شائعة لا يكاد ينجو من استخدامها أحد.
لذلك نظرت لجنة الأصول التابعة لمجمع اللغة العربية بالقاهرة في دورة المؤتمر الثالثة والأربعين (7/3/1977)، في تعبيرات مثل:
أ. الهزيمة تهدد إسرائيل، يعترف بذلك حتى المتعاطفون معها.
ب. مجلس الأمن ينعقد وينفضّ دون أن يُعرض عليه حتى مشروع قرار.
ج. لم يقرأ حتى الصحف.
د. لم ينجح في أن يكون حتى عضواً في مجلس القرية.
هـ. تركَ الخلافُ أثره حتى على العلاقات الثقافية بين البلدين.
ورأت اللجنة أن حتى في الأمثلة السابقة عاطفة والمعطوف عليه محذوف من المقام( ).
ولسنا في حاجة للقول بأن هذه الظاهرة عريقة في العربية، كما هو واضح من الشواهد الكثيرة التي أوردناها، وبذلك يسقط القول باستيراد هذه الظاهرة من اللغة الإنكليزية عن طريق الترجمة. والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.