ولأنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم بشرٌ انفعل ثمّ كظم غيظه، فالانفعالات يريدها الله لأشياء سامية، فالإسلام لا يريد من المؤمن أن يُصَبَّ في قالب من حديد لا عواطف له، لا، هو سبحانه يريد للمؤمن أنْ ينفعل للأحداث أيضاً، لكن الانفعال المناسب للحدث، الانفعال السامي، الانفعال المثمر، ولا يأتي بالانفعال المدمّر لذلك يقول الحق: ﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً ﴾ ( ) فالمؤمن ليس مطبوعاً على الشدّة ولا على الرحمة، ولكن الموقف هو الذي يصنع عواطف الإنسان، فالغيظ يحتاج إليه المؤمن عندما يهيج دفاعاً عن منهج الله( )، ولقد وصفت السيّدة عائشة النبي صلّى الله عليه وسلم بأنّه كان لا يغضب لنفسه حتّى تنتهك حرمات الله فينتقم لله( )
وقال مقاتل بن حيان في هذه الآية: بلغنا أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال عند ذلك: " إنّ هؤلاء من أمّتي قليل إلا من عصمه الله وقد كانوا كثيرًا في الأمم التي مضت "( ) وجاء في روح المعاني للآلوسي " أنّ المراد أنّ الكاظمين في أمّتي قليل إلا بعصمة الله تعالى لغلبة الغيظ عليهم، وقد كانوا كثيراً في الأمم السالفة لقلة حميتهم، ولذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينهم قليلاً، ولمّا تمرّنت هذه الأمة في الغضب لله تعالى، والتزموا الاجتناب عن المداهنة، صار إنفاذ الغيظ عادتهم، فلا يكظمون إذا ابتلوا إلا بعصمة الله تعالى، فالقليل في الخبر هم الذين يكظمون لقلّة الحمية، وهم الكثيرون في الأمم السالفة."( )
لكلّ هذه المعاني جاء اسم الفاعل "الكاظمين" عاملاً، وما بعده مفعول به؛ لنشعر معه أنّ كَظْم الغيظ ليس مراداً في كلّ الأحوال، وأنّ ثبات كظم الغيظ واستمراريّته ينافي البشريّة التي خلقنا الله عليها، وأنّ منهج الله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدفاع عن دين الله ومحاربة من ينتهك حرماته، يحتاج من المؤمن عدم الكظم مع حسن التدبير.
( مُتّخذ)
*قال تعالى: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ ( )
* وقال سبحانه: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ ( )
أكمل القرآن الكريم في الآيتين الرابعة والعشرين والخامسة والعشرين من سورة النساء بيان المحرّمات من النساء " وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء"؛ لأنّهنّ في عصمة رجال آخرين، محصنات بالزواج منهم، فهن محرّمات على غير أزواجهنّ، ويستثنى من ذلك السبايا اللواتي كنّ يؤخذْن أسيرات في حروب الجهاد الإسلامي، وهنّ متزوجات في دار الكفر، حيث تنقطع علاقاتهنّ بأزواجهنّ الكفار بانقطاع الدار، ويصبحْن غير محصنات.
فإذا انتهى السياق من بيان المحرّمات أخذ في بيان المجال الذي يملك فيه الناس أنْ يلبّوا دوافع فطرتهم في التزاوج، ففيما وراء هذه المحرّمات المذكورة فالنكاح حلال، وللراغبين فيه أنْ يبتغوا النساء بأموالهم لأداء صداقهنّ.
فإذا كانت ظروف المسلم تحول بينه وبين الزواج من حرّة تحصنها الحرّية وتصونها، فقد رخّص له في الزواج من غير الحرّة، إذا هو لم يصبر حتّى يستطيع الزواج من حرّة. ويعيّن الصورة الوحيدة الّتي يرضاها للعلاقة بين الرجال الأحرار وغير الحرائر، وهي ذاتها الصورة التي رضيها من قبلُ في زواج الحرائر، فأوّلاً: يجب أنْ يكن مؤمنات ﴿ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ﴾، وثانياً: يجب أنْ يعطين أجورهن فريضة لهنّ لا لسادتهنّ، فهذا حقهنّ الخالص ﴿ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ وثالثاً: يجب أنْ تكون هذه الأجور في صورة صداق، وأنْ يكون الاستمتاع بهنّ في صورة نكاح لا مخادنة ولا سفاح( ).
والمسافِحة هي المجاهِرة بالزنى أي التي تكري نفسها لذلك، وذات الخدن هي التي تزني سرّاً بواحد، وقد حبست نفسها على الخليل أو الصديق للفجور سرّاً دون الإعلام بذلك( ). وكما شرط الإحصان في النساء، وهي العفة عن الزنى، كذلك شرطها في الرجال كما جاء في آية سورة المائدة، وهو أنْ يكون الرجل محصناً عفيفاً، ولهذا قال: ﴿مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾، وهم الزناة الذين لا يرتدعون عن معصية، ولا يردّون أنفسهم عمن جاءهم، ﴿ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ﴾، أي ذوي العشيقات الذين لا يفعلون إلا معهنّ( )، فهو منفرد ببغية واحدة، قد خادنها وخادنته، واتخذها لنفسه صديقة سرّاً.
تلك السرّيّة وذلك الحبس والاستتار يناسبه إضافة اسم الفاعل﴿ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ﴾، ﴿ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ ﴾ ليشعر معه القارئ بالثبات واستمراريّة المرأة مع المخادن الذي يقيم معها على معصية، وتقيم معه، فذات الخدن تختصّ بواحد لا تزني إلا معه، وكذلك المخادن، بخلاف المسافحات المعلنات اللائي لا يمنعنّ أحداً أرادهن بالفاحشة، وجاء بصيغة الجمع "أخدان" للمقابلة بالانقسام على معنى ألا يكون لواحدة منهن خدن لا على معنى ألا يكون لها أخدان.
والقرآن لم يكتفِ بالصورة الإيجابيّة المثبتة "محصنات"، وهي حال من مفعول "فانكحوهنّ"، و"محصنين" حال من فاعل "آتيتموهنّ" بل أردفها بنفي الصورة الأخرى "غير مسافحات"، و"غير مسافحين" زيادة في التوكيد والإيضاح، و "ولا متخذات أخدان" عطف على "مسافحات"، و "ولا متخذي أخدان" عطف على "مسافحين"، و" لا " لتأكيد ما في "غير" من معنى النفي، وذلك لكي يرسم صورة لطبيعة العلاقة الأولى التي يحبّها ويريدها، علاقة النكاح، وصورة لطبيعة العلاقة الأخرى التي يكرهها وينفيها علاقة المخادنة أو البغاء، وقد كانت هذه وتلك معترفاً بها من المجتمع.
(ظالمي)
قال تعالى: ﴿ لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً{95} دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً{96} إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً{97}﴾ ( )
إنّ موضوع الآيات الأساسي( )هو الهجرة إلى دار الإسلام، والحثّ على انضمام المسلمين المتخلّفين في دار الكفر والحرب إلى الصفّ المسلم المجاهد في سبيل الله بالنفس والمال، ولعلّ هذا هو المقصود بقوله تعالى: ﴿لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً{95}﴾
فالنصّ القرآنيّ كان يواجه حالة خاصّة في المجتمع المسلم من التراخي من بعض عناصره في النهوض بتكاليف الجهاد بالأموال والأنفس، وهو في ذلك يقرّر قاعدة عدم الاستواء بين القاعدين من المؤمنين عن الجهاد بالأموال والأنفس، والآخرين الذين يجاهدون بأموالهم وأنفسهم.
ثمّ يتحدّث القرآن عن هؤلاء القاعدين الذين يظلّون قاعدين في دار الكفر لا يهاجرون، تمسك بهم أموالهم ومصالحهم، أو يمسك بهم ضعفهم عن مواجهة متاعب الهجرة وآلام الطريق، حتّى يحين أجلهم وتأتي الملائكة لتتوفاهم ويعبّر القرآن الكريم عن ذلك بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ﴾ بإضافة اسم الفاعل "ظالمي"، والذي نشعر معه باستمرار وإصرار القاعدين على ظلمهم أنفسهم بترك الهجرة واختيار مجاورة الكفرة إلى أنْ تحين لحظة قبض الأرواح، فيكسبون أنفسهم غضب الله وسخطه، فتكون نهايتهم مخيفة ﴿ أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً{97}﴾.
(محلّي – آمّين)
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ{1} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ{2}﴾.( )
في الآيتين السابقتين ينادي الحق تبارك وتعالى عباده المؤمنين بعنوان الإيمان للإيفاء بالعقود. وتصدير السورة بالإيفاء بالعقود مؤذن بأن سترد بعده أحكام وعقود فيها ضوابط للحياة، حياة المرء مع نفسه وحياته مع غيره من الناس، ومن الأحياء والأشياء عامّة، وأولى هذه العقود التي أشار الله سبحانه وتعالى إليها بعد تحليله لبهيمة الأنعام – إلاّ ما يتلى على المؤمنين تحريمه منها – هو تحريم الصيد في حالة الإحرام، فالإحرام للحجّ أو للعمرة تَجَرّدٌ عن أسباب الحياة العادية وأساليبها المألوفة، وتوجّهٌ إلى الله في بيته الحرام الذي جعله الله مثابة الأمان، ومن ثمّ ينبغي عنده الكفّ عن بسط الأكف إلى حي من الأحياء؛ لذلك عبّر القرآن عن ذلك العقد بقوله: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ ﴾ بإضافة اسم الفاعل الذي يشعر معه القارئ بضرورة الإبقاء والالتزام والاستمراريّة في تنفيذ تلك العقود مع الله سبحانه وتعالى، وذلك بتحريم الاصطياد عملاً واعتقاداً في حالة الإحرام، "فالعقد هو العهد الموثق المشبه بعقد الحبل ونحوه، والمراد بالعقود ما يعمّ جميع ما ألزمه الله تعالى عباده، وعقده عليهم من التكاليف والأحكام الدينيّة، وما يعقدونه فيما بينهم من عقود الأمانات والمعاملات ونحوها مما يجب الوفاء به"( )؛ لذلك يربط القرآن ذلك العقد بالعقد الأكبر، ويذكّر الذين آمنوا بمصدر ذلك الميثاق ﴿ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾، أي لا يصرفكم عن الإيفاء بالعقود أنْ يكون فيما شرعه الله لكم شيء من ثقل عليكم؛ لأنّكم عاقدتم على عدم العصيان، وعلى السمع والطاعة لله، والله يحكم ما يريد لا ما تريدون أنتم.
ثمّ يستأنف نداء الذين آمنوا لينهاهم عن استحلال حرمات الله ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ{2}﴾
وأقرب ما يتّجه إليه الذهن في معنى شعائر الله في هذا المقام أنّها شعائر الحج والعمرة، وما تتضمّنه من محرّمات على المحرم للحجّ أو العمرة. والشهر الحرام يعنى الأشهر الحرم، والهدي هو الذبيحة التي ينحرها الحاجّ أو المعتمر في آخر أيام الحجّ أو العمرة، والقلائد هي الأنعام المقلّدة التي يقلدها أصحابها- أي يضعون في رقبتها قلادة - علامة على نذرها لله، ويطلقونها ترعى حتّى تنحر في موعد النذر ومكانه.
وكذلك حرّم الله قتال آمّين البيت الحرام أو صدّهم عنه بأي وجه، وهم الذين يقصدون البيت الحرام لزيارته يبتغون فضلاً من الله ورضواناً.
و"آمّين" جمع آمّ اسم فاعل عامل، و"البيت" مفعول به. وزيارة بيت الله الحرام للحجّ أو للعمرة إنّما هي لمن استطاع إليه سبيلا، وقاصدوه يبتغون فضلاً من ربّهم في أيام معدودات يقيمون فيها شعائر الحجّ أو العمرة، بعدها يتحلّل المُحرم من إحرامه، وذلك المعنى ناسبه اسم الفاعل العامل "آمّين البيت" ليعطينا معاني الزيارة والقصد، وينأى بنا عن معاني السكن والاستيطان.
(خالق)
*قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ{71} فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ{72} فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ{73} إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ{74}﴾ ( )
*قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ{28} فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ{29} فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ{30} إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ﴾( )
ذكر الله سبحانه في هذه الآيات بدء خلق الإنسان، وأمره الملائكة وإبليس أن يسجدوا له، وسجودهم وإباء إبليس.
والمراد بالبشر في الآيات آدم -عليه السلام- لأنّه أصل النوع الإنساني، وأوّل فرد من أفراده .
والذي يتدبّر القرآن يرى أنّ الله تعالى قد وضّح في آيات متعدّدة أطوار خلق آدم -عليه السلام- فقد بيّن في بعض الآيات أنّه خلقه من تراب كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ{59}﴾ ( )
وبيّن في آيات أخرى أنّه- سبحانه- خلقه من طين كما في قوله تعالى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ{7}﴾ ( )
وقوله تعالى : ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ﴾ ( )
وبيّن سبحانه في سورة الحجر خلقه : ﴿مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ{28}﴾
ويتّضح من ذلك أنّ أوّل ابتداء آدم- عليه السلام- كان تراباً متفرّقَ الأجزاءِ، ثم بُلّ -أي التراب- فصار طيناً، ثمّ ترك حتّى أنتن وأسود، فصار حمأ مسنوناً، ثمّ يبس فصار صلصالاً، وعلى هذه الأحوال والأطوار تتخرّج الآيات الواردة في خلق آدم عليه السلام.( )
ويقول الله تعالى في سورة "المؤمنون": ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ{12} ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ{13} ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ{14}﴾
فهذه الآيات تشير إلى أطوار نشأة الإنسان الأولى من سلالة من طين، أمّا نشأة الفرد الإنساني بعد ذلك، وتكرار أفراده وتكاثرهم فقد جرت سنّة الله أنْ يكون عن طريق نقطة مائيّة تخرج من صلب الرجل، فتستقرّ في رحم امرأة، ثمّ بعد ذلك تتحوّل النطفة إلى العلقة، ومنها إلى المضغة، ثمّ تجيء مرحلة العظام، فمرحلة كسوة العظام باللحم ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ﴾
يتّضح مما سبق أنّ خلق الإنسان من سلالة من طين خاصّ بآدم عليه السلام، وأنّه حدثٌ انقطع، ولم يتكرر بعد تلك النشأة؛ لذلك عبّر القرآن باسم الفاعل العامل: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ﴾ و: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ﴾ لنشعر معه أنّ التنوين مقصودٌ ليعطينا معاني الانقطاع وعدم استمراريّة خلق البشر من سلالة من طين، وأنّ الأمر متعلّق بآدم عليه السلام وحده، وأمّا سلالته فتأخذ طوراً آخر في النشأة كما قلنا سالفاً.
فإذا تحدّث القرآن عن خلق أشياء فيها معاني الاستمراريّة جاء باسم الفاعل مضافاً قال تعالى: ﴿ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ{102}﴾ ( ) و قال تعالى: ﴿قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ{16}﴾ ( ) و قال تعالى: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ{62}﴾ ( ) وقال تعالى: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ{62}﴾ ( )
(تارك – ضائق )
قال تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ{12}﴾ ( )
قال الفخر الرازي رحمه الله: "روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ رؤساء مكّة قالوا يا محمّد: اجعل لنا جبال مكة ذهباً إنْ كنت رسولاً، وقال آخرون: ائتنا بالملائكة يشهدون بنبوتك، فقال: لا أقدر على ذلك، فنزلت هذه الآية، وقال ابن عباس في المراد بقوله: ﴿ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ﴾: قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: ائتنا بكتاب ليس فيه شتم آلهتنا؛ حتّى نتبعك ونؤمن بك."( )
والمعنى كما ذكر المفسّرون:" فلعلّك يا محمّد تارك بعض ما يوحى إليك من الآيات الدالة على حقيقة نبوتك ، المنادية بكونها من عند الله تعالى لمن له أُذن واعية وقلب رشيد، ولعلّك يضيق صدرك بتلاوته عليهم وتبليغه إياهم أثناء المحاجّة والدعوة إلى الإيمان، بسبب معارضتهم الشديدة لك، وإصرارهم على رفض ما جئتهم به من التوحيد والوعد والوعيد، وبسبب قولهم: هلاّ أعطي مالاً كثيراً كما يعطى الملوك والعظماء، ليكون ذلك أمارة على أنّ ربّه يشدّ أزره ولا يدعه فقيراً بين الناس ، وهلاّ جاء معه ملك يؤيّده ويشهد له بالنبوة ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ولا تترك تبليغهم شيئاً مما أوحي إليك، ولا يضيق صدرك بما يقولون."( )
ولفظ "لعلّ" - كما يقول الآلوسي- للترجّي، وهو يقتضي التوقّع، ولا يلزم من توقّع الشيء وقوعه، ولا ترجّح وقوعه، لجواز أنْ يوجد ما يمنع منه، فلا يشكل بأنّ توقّع ترك التبليغ منه- صلّى الله عليه وسلّم- مما لا يليق بمقام النبوة؛ لأنّ المانع منه هنا ثبوت عصمته- صلى الله عليه وسلم- عن كتم شيء أُمر بتبليغه...... والمقصود بهذا الأسلوب تحريضه - صلّى الله عليه وسلّم -، وتهييج داعيته لأداء الرسالة.( )
ولقد عبّر القرآن عن المُتوقَّع من النفس البشريّة من ترْك التبليغ وضيق الصدر إزاء هذا الجهل من الكافرين بصيغة اسم الفاعل المنوّن "تاركٌ"، "ضائقٌ"؛ ليدلّل على أنّ ما أصاب الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- أمرٌ عارضٌ غير ثابت، لا استمراريّة فيه، ولا دلالة فيهما على تمكّن الوصف منه- صلّى الله عليه وسلّم- فتنوين اسم الفاعل يعني أنّ الموصوف به لن يظلّ محتفظاً بهذه الصفة لتكون لازمة له، ولكنّها تعبّر عن مرحلة من المراحل من فرط ما قابله الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- من إنكار، وما طالبوا به من أشياء تخرج عن نطاق إنسانيته، لذلك ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله : ﴿ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ ﴾ فواجب الرسول صلى الله عليه وسلم كلّه أنْ ينذرهم ﴿ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ فهو الموكل بهم، يصرفهم كيف يشاء وفق سنته، ويحاسبهم بعد ذلك على ما يكسبون، ولست أنت موكلاً بكفرهم أو إيمانهم إنّما أنت نذير
فإذا ما تعلق المعنى بأمرٍ فيه ثبات، واستقرار، واستمراريّة، عدل الأسلوب القرآني عن التنوين إلى الإضافة قال تعالى : ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ{50} يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ{51} وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ{52} قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ{53} إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ{54}﴾ ( )
تتناول الآيات السابقة قصّة هود- عليه السلام- مع قومه وكانوا يعبدون الأصنام، فأرسله الله إليهم لهدايتهم، ووصفه سبحانه بأنّه "أخاهم"، وناداهم:"يا قوم" ثلاث مرّات زيادة في التلطّف معهم، استجلاباً لقلوبهم، وترضية لنفوسهم، وأمرهم بعبادة الله وحده، وأنّه لا يريد منهم جزاءً ولا شكوراً في مقابل دعوته إياهم إلى الحقّ، ثمّ أرشدهم إلى ما يؤدّي إلى زيادة غناهم وقوتهم، وحذَّرهم من سوء العاقبة، لكن قوم هود -عليه السلام- قابلوا كلّ ذلك بالتطاول عليه والسخرية منه، فقالوا: ﴿يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ﴾، أي بحجّة تدلّ على صدقك، فأوضحوا لكلّ ذي لبّ أنّهم مكابرون، كما كان العرب يقولون للنبي -صلّى الله عليه وسلّم- بعد أنْ أتاهم من الآيات على يده ما يفوق الحصر: ﴿لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ﴾( )، وأجابوا عن دعوته إياهم إلى رفض الشركاء بقولهم: ﴿وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ﴾، ثمّ أكّدوا إصرارهم على كفرهم بقولهم: ﴿وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ فآيسوه في كلتا المسألتين ثمّ أضافوا إلى إصرارهم هذا استخفافاً به وبما يدعو إليه فقالوا: ﴿إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ﴾
وهكذا نراهم سلكوا في عنادهم سبيل التدرّج والتسلسل، فنفوا مجيئه ببينة ثمّ نفوا تركهم لآلهتهم لمجرد قوله لهم ( اتركوها) دون أنْ يقنعهم بحجّة تقتضي تركهم لها، ثمّ نفوا تصديقهم له ؛ لأنّه لا حجّة لديه تثبت نبوته ، ثمّ بعد هذا الهذيان كلّه قالوا فيه ما قالوه من السباب مما يدلّ على توغلهم في الطغيان، وبلوغهم النهاية في العناد، والكفر، والجحود.( )
لذلك جاء الأسلوب اللّغوي موافقاً لتلك المعاني فأضاف اسم الفاعل ﴿وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ﴾؛ لنشعر معه بإصرارهم، وعنادهم، وكفرهم بما جاء به الرسول الكريم، يقول الآلوسي:" قد بالغوا في الإباء عن الإجابة، فأنكروا الدليل على نبوته عليه السلام، ثمّ قالوا مؤكّدين لذلك:﴿وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ﴾، ثمّ كرروا ما دل عليه الكلام السابق من عدم إيمانهم بالجملة الاسميّة مع زيادة الباء وتقديم المسند إليه، دلالة على أنّهم لا يرجى منهم ذلك بوجه من الوجوه، وفي ذلك من الدلالة على الإقناطـ ما فيه."( )
ويقول الزمخشري: " وقد دلت ردودهم المتقدّمة على أنّ القوم كانوا جفاة غلاظ الأكباد لا يبالون بالبَهْت، ولا يلتفتون إلى النّصح، ولا تلين شكيمتهم للرّشد."( )
ذائقة
قال تعالى : ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ{34} كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ{35}﴾ ))
قال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية:" فأمّا قوله تعالى : ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ﴾ ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: قال مقاتل: إنّ أناساً كانوا يقولون: إنّ محمّداً -صلّى الله عليه وسلّم- لا يموت، فنزلت هذه الآية، وثانيها: كانوا يقدّرون أنّه سيموت فيشمتون بموته، فنفى الله تعالى عنه الشماتة بهذا، أي قضى الله تعالى أنْ لا يخلِّد في الدنيا بشراً، فلا أنت ولا هم إلا عرضة للموت، أفإن متّ أنت أيبقى هؤلاء؟ لا، وثالثها: يحتمل أنّه لما ظهر أنّه -عليه السلام- خاتم الأنبياء جاز أنّ يقدّر مقدّر أنّه لا يموت، إذ لو مات لتغير شرعه فنبه الله تعالى على أنّ حاله كحال غيره من الأنبياء عليهم السلام في الموت." ( ) فـ "كلّ نفس ذائقة الموت" هذا هو الناموس الذي يحكم الحياة، وهذه السّنّة التي ليس لها استثناء.
فالآية تقرير وتثبيت لمضمون قوله تعالى: ﴿وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد﴾ ( ) فكلّ نفس أوجدها الله تعالى في هذه الحياة ستذوق مرارة نزول الموت بها، ومفارقة روحها لجسدها.
لهذه المعاني جاء اسم الفاعل " ذائقة " مضافاً لما بعده، ليؤكّد ويقرّر ثبات تلك الحقيقة، حقيقة الموت، فهو نهاية كلّ حي، وعاقبة المطاف للرحلة القصيرة على الأرض، بالرغم من أنّ المعنى لما يستقبل، أي: كلّ نفس ستذوق الموت، وهذا كان يقتضي تنوين اسم الفاعل كما قال النحاة، إلا أنّ القرآن الكريم وأسلوبه اللّغوي الدقيق أراد أنْ يفرّغ اللفظ من زمن محدد، ليجعل الموت حقيقة ثابتة دائمة لكلّ نفس.
الخاتمة
تناولت هذه الدراسة اسم الفاعل بين التنوين والإضافة في القرآن الكريم، ووضح فيها أنّ النحاة يعمِلون اسم الفاعل فيما بعده إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال، فإذا خرج الزمن إلى الماضي جعل اسم الفاعل بلا تنوين، مضافاً، لا يعمل في رأي جمهور النحاة، وبمراجعة اسم الفاعل داخل السياق القرآني وضح اضطراب قواعد النحاة حيث أضيف اسم الفاعل إلى معموله مع دلالته على الاستقبال كقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾( )و﴿رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾( ) و﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ )) وقد ذكر سيبويه وغيره أنّ العرب تفعل ذلك استخفافاً دون أنْ يتغيّر المعنى ، وقد جاء اسم الفاعل منوّنا مع دلالته على الماضي، كقوله تعالى في سورة الكهف: ﴿وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ﴾ ( )
وبقراءة تلك الآيات وغيرها وضح أنّ القرآن الكريم عمد إلى الإضافة في تلك الآيات وما شابهها ، وإلى التنوين في الآيات التي اشتملت على اسم الفاعل منوّناً، وكان لذلك دلالات مرتبطة بالسياق حيث جاءت الإضافة في مواضع تحتاج إلى ثبات واستمراريّة واستقرار ويقين ، وجاء التنوين في مواضع تشير إلى انقطاع الحدث وعدم تكراره وافتقاده إلى الثبات والاستمراريّة، ومن نماذج ذلك:
*قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ{71} فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ{72} فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ{73} إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ{74}﴾ ( )
*وقال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ﴾ ( )
قد ذكر الله سبحانه في هذه الآيات بدء خلق الإنسان، آدم -عليه السلام- من سلالة من طين، وهو أمرٌ خاصّ بآدم عليه السلام، فهو حدثٌ انقطع، ولم يتكرر بعد تلك النشأة؛ لذلك عبّر القرآن باسم الفاعل العامل: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ﴾ و:﴿ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ﴾ لنشعر معه أنّ التنوين مقصود ليعطينا معاني الانقطاع وعدم استمراريّة خلق البشر من سلالة من طين، وأنّ الأمر متعلّق بآدم عليه السلام وحده، وأمّا سلالته فتأخذ طوراً آخر في النشأة.
فإذا تحدّث القرآن عن خلق أشياء فيها معاني الاستمراريّة جاء باسم الفاعل مضافاً قال تعالى: ﴿ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ{102}﴾ ( ) وقال تعالى: ﴿قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ{16}﴾ ( )
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلّت وإليه أنيب
المصادر والمراجع
- الإتقان في علوم القرآن : السيوطي ،مصطفى البابي، القاهرة، ط3، 1370هـ.
- إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم( تفسير أبي السعود):وضع حواشيه: عبد اللطيف عبد الرحمن، دار الكتب العلميّة، بيروت، ط1، 1419هـ ، 1999م.
- الأصول: دراسة أبستمولوجية للفكر العربي عند العرب، د. تمّام حسان، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب ، 1982م.
- إعراب القرآن : أبو جعفر النحاس، تحقيق: زهير غازي زاهد، عالم الكتب والنهضة العربيّة، بيروت، ط2، 1985.
- الإنصاف في مسائل الخلاف: أبو البركات الأنباري، تحقيق: محمّد محي الدين عبد الحميد، المكتبة العصريّة، بيروت، 1414هـ، 1993م.
- البحر المحيط: أبو حيان، دار الفكر، ط2، 1403هـ، 1983م.
- البرهان في علوم القرآن: الزركشي، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلميّة، بيروت،1408هـ، 1988م.
- التحرير والتنوير لابن عاشور،د.ق، دار سحنون للنشر، تونس، د.ت.
- تفسير ابن كثير:صُحّح بإشراف الشيخ خليل الميس، دار القلم، بيروت،ط2،د.ت.
- تفسير الجلالين: السيوطي، دار إحياء الكتب العربيّة، عيسى البابي الحلبي، القاهرة، د.ت.
- تفسير الرازي: فخر الدين الرازي، د.ق، دار الفكر، بيروت، ط3، 1405هـ، 1985م.
- تفسير الشعراوي: طبعة دار أخبار اليوم، د.ت.
- التفسير الوسيط للقرآن الكريم: تأليف لجنة من العلماء بإشراف مجمع البحوث الإسلاميّة بالأزهر، ط1، 1400هـ - 1980م.
- الجامع لأحكام القرآن( تفسير القرطبي): القرطبي، دار الكتب العلميّة، ط1، 1408هـ.
- حجّة القراءات: ابن زنجلة، تحقيق: سعيد الأفغاني، مؤسّسة الرسالة،ط5، 1418هـ، 1997م.
- روح المعاني: الآلوسي، تحقيق: أبو عبد الرحمن فؤاد بن سراج عبد الغفار، المكتبة التوفيقيّة، القاهرة،د.ت.
- الروض الأُنف والمشرع الرّوى في تفسير ما اشتمل عليه حديث السيرة واحتوى لابن هشام: أبو القاسم عبد الرحمن بن أبي الحسن الخثعمي، دار الفكر، بيروت، 1409هـ، 1989م.
- الزمن واللغة: د. مالك المطلبي، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، 1986م.
- شرح التصريح على التوضيح: خالد الأزهري، الحلبي، القاهرة،د.ت.
- شرح السيرافي لكتاب سيبويه: أبو سعيد السيرافي، الجزء الرابع، تحقيق: د. محمد هاشم عبد الدايم، دار الكتب المصرية، 1998م.
- شرح اللمع: ابن بَرْهان العكبري، تحقيق: د. فائز فارس، السلسلة التراثية(11) الكويت، ط1، 1404هـ، 1984م.
- شرح المفصل: ابن يعيش، تحقيق: د. إميل يعقوب، دار الكتب العلميّة بيروت، 2001م.
- صحيح البخاري: مطبعة البابي الحلبي، القاهرة، 1377هـ.
- الفعل زمانه وأبنيته: د.إبراهيم السامرائي، مؤسّسة الرسالة،بيروت، ط4، 1406هـ، 1986م.
- في ظلال القرآن: سيّد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط17، 1410هـ، 1990م.
- القصّة في القرآن: محمّد قطب، دار قباء، القاهرة، 2001م.
- قطر الندى وبل الصدى: ابن هشام، الهيئة العامّة لشئون المطابع الأميريّة، 1416هـ، 1995م.
- الكتاب: سيبويه، تحقيق: عبد السلام هارون، الهيئة المصريّة للكتاب،1977م.
- كتاب السبعة في القراءات: ابن مجاهد، تحقيق: د. شوقي ضيف، دار المعارف، ط3، د.ت.
- كتاب المقتصد في شرح الإيضاح: الجرجاني، تحقيق: كاظم بحر المرجان، دار الرشيد، العراق،1982م.
- الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل: الزمخشري، شرح وضبط: يوسف الحمادي، مكتبة مصر، الفجالة،د.ت.
- لسان العرب: ابن منظور، د.ق، دار صادر، بيروت، 2000م.
- اللغة العربيّة معناها ومبناها: د. تمّام حسان، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، 1979م.
- مختصر سيرة ابن هشام : اختصرها وعلق عليها السادة العلماء أعضاء لجنة السيرة النبوية بالمجلس الأعلى للشئون الإسلاميّة، المجلس الأعلى للشئون الإسلاميّة، القاهرة ، ط2، 1418هـ، 1997م.
- معاني القرآن وإعرابه: الزجاج، تحقيق: د. عبد الجليل عبده شلبي، عالم الكتاب، بيروت، ط1، 1408هـ، 1988م.
- النحو الوافي: عباس حسن، دار المعارف ، القاهرة،د.ت.
- همع الهوامع في شرح جمع الجوامع: السيوطي، تحقيق: أحمد شمس الدين، دار الكتب العلميّة،بيروت،ط1، 1418هـ، 1988م
دحماني بختة