من طرف بختة دحماني
أوستين والجرجاني ...
صُوَر المعاني بين أوستين والجرجاني
.
اللغة هي المملكة التي يتخاصم على امتلاك أبوابها الباحث اللسانيّ وعالِم الأنثروبولوجيا والفيلسوف والمنطقيّ والبلاغيّ والفقيه اللغويّ والنحويّ وغبرهم، ولكنها تتأبّى عليهم جميعا فلا يتيسّر للفذّ منهم إلاّ المسك ببعض مفاتيحها وتظلّ سائر أبوبها مرتجة حتى يلجها مَن اقتبس مِن وهجها وعنفوانها نارا تضيء عتمات الفكر. فليس كاللغة مُخبِر عن الفكر البشريّ وإن التوت سبل التعالق بين اللغة والفكر واعتاصت مسالك التواصل بينهما ولكن الرباط بينهما "مقدّس" . فتتراوح اللغة بين إن تكون محض "كشف حساب" لما يقع في الفكر من عمليات ذهنية، بما هي مرآة صادقة تعكس ما يقع فيه من اشتغالات فكرية، وبين إن تكون أداة عاجزة عن التعبير عمّا يفيض به الفكر من شواغل واهتمامات فهي تمسخ الفكر وتمرره عبر مصفاتها "الجاهلة" التي تمرّر المدجّن المُقوْلب وترفض الأصيل المختلف.
فهذه التحديدات المصطنعة المتهافتة للغة عاجزة عن إن تحيط بكنهها في المطلق لذلك لا فكاك من مقاربة اللغة مقاربات منهجية واعية، إذ على اللسانيّ أن يحدّد مفهومه للغة دون أن يطلب من الفيلسوف أو عالِم الأنثروبولوجيا مثلا أن ينقادا لتصوّره هو لها، فهي ملك مشاع للعلوم الإنسانية خاصّةً، فهي كالقارّة المجهولة يعمّرها من العلوم ما استقام له فيها منهج صارم واضح المعالم يبني معها علاقة بيّنة محدّدة.
تبقى المقاربة الفلسفية ناشزا لأنّها لا تنصاع إلاّ لقوانين العقل وتأبى أن تنضبط انضباط العلوم فتكون مستويات التناول الفلسفيّ للغة متباعدة وربما متناقضة: فالأنساق الفلسفية منذ أفلاطون لم تنفكّ تبني علاقات وتهدم أخرى مع اللغة.
غير أنّ ما نشير إليه هو أنّ المقاربات المختلفة للغة منها العامّة التي تتعلّق بماهية اللغة ووظيفتها لا تهمّنا في هذا السياق، بل نُعنى هنا بمقاربات جزئية تتعلق بمباحث في اللغة تتعاورها البلاغة والمنطق والفلسفة. فالأمر يتعلّق بتحليل التشبيه باعتباره وسيلة لغوية تعبّر من زاوية البلاغة عن معنى زائد عن ذلك التقرير. وسنبيّن أنّ الزيادة هنا ليست لها قيمة خارج المنظومة الثقافية بَلْهَ البلاغية.
و اخترنا أن نعتمد مرجعيتيْن أثيرتين إحداهما عربية قديمة ولكنها كثيرا ما تعود لجدّة آرائها وطرافتها ونقصد عبد القاهر الجرجانيّ، والأخرى غربية إليها – مع غيرها – يعود فضل إنشاء التداولية [pragmatique] التي شكّلت منعطفا حاسما في الدراسات اللسانية كما مثلت مسلكا حيويا بالنسبة إلى المباحث الدلالية، ونقصد بهذه المرجعية جون لانغشو أوستين John Langshaw Austin.
فكيف تناول الرجلان التشبيه كل من زاوية نظره؟.
وهل من ترابط بين طبيعة الاجراءين الفلسفي والبلاغي للعبارة التشبيهية؟ وهل من قوانين جامعة تشكل الحبل السري بين اللغة (التعبير) والفكر (التنظير)؟
وقبل ذلك كله نسأل: كيف قارب أوستين التشبيه فلسفيا بطريقة تطبيقية؟
يرى أوستين أن "التركيب (يشبه س) يحتاج مع ذلك إلى معالجة خاصة [ رغم العلاقات الدلالية الرابطة بين الجمل ((يشبه س)) و ((له نفس مظهر س)) و ((كان س، كان فعل تام))] ذلك أن دوره يتمثل في أنه يفيد الانطباع العام الذي تم عن طريق شيء ما, ورغم أن هذا التركيب يقترب كثيرا من التركيب ((يظهر أنه)) ("هذا يشبه، ويظهر أنه، بحث جاد")، فإنه كثيرا ما يرد أنه لا يفعل ذلك. أي أن الانطباع العام يمكن أن يؤخذ باعتباره أمارة، وكثيرا ما لا يكون ذلك. فالجملة "الأيام الثلاثة الموالية تشبه كابوسا طويلا" لا تعني أنه يظهر أنها كابوس حقيقي ولا تعني كذلك أن أميل إلى التفكير أنها كانت (كان فعل تام) كذلك. فكل ما تدل عليه العبارة هو أنها تعني أمرا ما، هو أن هذه الأيام الثلاثة تشبه كابوسا. وفي سياق مماثل، يندر أن نفاضل بين "يظهر أنه" و "كان التامة" .
فأوستين تناول التشبيه من حيث طاقته التخييلية لا الإحالية، فهو أداة لا تفيد التطابق الواقعي بين المشبه والمشبه به كما لا تدعو إلى تمثل ذلك التطابق أو الإقرار به، فالعقد البلاغي بين مستعملي أسلوب التشبيه الذي يقوله والذي يتقبله، ينأى عن إحداث شبهة أن يكون القول حقيقيا، بل كل من الباثّ والمتقبل شاعران بوظيفة التشبيه التقريبية فاعتماد هذا المشبه به ("كابوس طويل"، في جملة أوستين) بالذات يوحي بما قصد إليه المتكلم من إثبات الانزعاج وانعدام الراحة مما هو مشترك بين المشبه والمشبه به والعلم بهذه الدلالة المقصودة هو مشترك – أو يفترض أن يكون كذلك في السياقات العادية – بين المتكلم والمتقبل.
والحجة التي تكمن خلف عدم القول بالتطابق بين المشبه به، فضلا عن ذلك العقد البلاغي بين الباثّ والمتقبل وعن اندراجهما في سنة ثقافية تحكم عليهما بعدم التسوية بين عنصري التشبيه، تتمثل في اختلاف انتماء المشبه والمشبه به فالأول ينتمي إلى الظروف الزمانية (ثلاثة أيام) والثاني ينتمي إلى الوقائع النفسية (كابوس)، فماهية كل منهما للأخرى لذلك لا يمكن الجمع بينهما على سبيل التطابق أو التماهي.
كما أن أداة التشبيه (تشبيه) تسير في المسار نفسه من حيث إثبات التقريب والتمثيل ونفي المطابقة والواقعية العينية.
فهذا التحليل الذي عمدنا إليه، وان احتج لرأي أوستين، فإن السياق الذي خاض فيه أوستين أمر التفريق بين تلك الأقوال الثلاثة ("يشبه س" و "له نفس مظهر س" و "كان س" وكان تام) لم يكن يعير المقاربة البلاغية أي أهمية بل هو مبحث فلسفي لغوي ورد في سياق الفصل الرابع "حقل المظهر الدلالي" (ص 55 وما بعدها)، يتبين فيه أوستين أن أفعال من قبيل (يشبه، يظهر أنه، أظن أنه) ليست متماثلة وان استعمالها آير Ayer وأغلب الفلاسفة الذين يتنقلون بين تلك العبارات بحرية والحال أن أوستين يفرق بينها ويعرض "حشدا من السياقات والتراكيب ليبرهن على ذلك .
فأوستين لا يعني في هذا المجال سوى بتدقيق "الفروق التي غالبا ما يهملها الفلاسفة .
فنظرته إلى التشبيه لم تكن مطولة ولا لتمييز ذات التشبيه بل لعزل فعل التشبيه عن سائر الأفعال المجاورة في المعنى، فالمقاربة البلاغية مستبعدة عن الخطاب الأوستيني على كل حال.
ولعل سببا آخر غير مباشر وثانويا يجعل أوستين يعرض عن الاهتمام بالتشبيه بلاغيا، يتمثل في أن الأمثلة التي يعتمدها هي كلها مصنوعة أو محيلة على الواقع العادي للغة، فهو لا يتخذ أمثلة أدبية ولا نماذج فنية من الكلام مختبرا عليه يشتغل، بل إنه قد انصرف عن طبقة الكلام الفني ليعنى أوستين إما بجمل عادية لا مسحة جمالية فيها .
أو باستعمالات فلسفية جافة درج عليها الفلاسفة فأضحت كالمسكوت عنها في خطاباتهم مقلا يعرض أوستين في هامش ص56 لمقارنة عبارات: "حق"، "يجب أن"، "واجب"، "إلزام" أخلاقي) .
وبذلك فاستبعاد المعطى البلاغي ضروري ليستقيم المنحى الذي توخاه أوستين في إثبات مجمل دعاويه حول عدة عبارات وتراكيب وألفاظ بدت له تستحق التدقيق سواء كان مجال الخطابات اليومية العادية أو الخطابات الفلسفية "الراقية".
والحال أن أوستين يحمل بشدة على هذا التفريق الاعتباطي بين رجل الشارع والفيلسوف ويخلص إلى أن "عدم الاتفاق بين الفلاسفة ورجل الشارع [في خصوص موضوع إيهام الأشياء المادية] ليس سوى اختلاف في الدرجة" .
فأوستين يتناول مبحث الإيهام بين قطبين: اللغة والفلسفة صارفا النظر عن الفن (الاستعمال الفنّيّ للغة، فالإيهام في هذه الحالة ذو وظيفة جمالية إنشائية) لذلك نراه يضرب صفحا عن انحراف الكلام صوب المجاز والاستعارة، فهو يقول في معرض تعليقه على استعمال كلمة "مباشرة" في قولنا عن الفلاسفة "إن غالبيتهم غير مستعدة أن تقرّ بمبدأ أنّ الأشياء كريشات الحبر أو السجائر هي محسوسة مباشرة ".
ما يلي: لنا هنا في الواقع الحالة النموذجية لكلمة لها بعد استعمال مخصوص، كلمة توسع معناها شيئا فشيئا دون احتياط ولا تعريف ولا حد، حتى صار في البداية [ذا دلالة] استعارية مبهمة حتى فقد في النهاية دلالته".
وينتهي أوستين إلى القول: "لا يمكن أن نسيء استعمال اللغة العادية دون أن ندفع الحساب".
ويشير في الهامش إلى خطورة هذه المسألة وهو يسوق مثال كلمة "علامة" يقول "فكروا في الصعوبات الناشئة عن التوسّع اللاواعي لكلمة علامة"، توسع يمكن أن يِؤدي- في الظاهر- إلى نتيجة أنه لما يكون الجبن تحت ناظرينا، فإننا نرى علامات الجبن .
فكأننا نلمس في أوستين غيرة الفيلولوجي على اللغة . ولكنها غيرة حكيمة لم تؤد به إلى التجديف في نهر تصحيح الأغلاط اللغوية الشائعة عند الفلاسفة في استعمالاتهم التعبيرية، فهذا يسقط العمل في شأن لغوي شكلي صرف يراعي القواعد والقوانين اللغوية فقط، ولكنه ترقى صعدا في تناول مسألة الإيهام مساويا بين الإيهام اللغوي الناجم عن سوء استعمال اللغة (عند اعتماد مفرداتها بطريقة غير دقيقة) والإيهام البصري الناتج عن الخدع البصرية كما في رؤيتنا عصا مغموسة في الماء إلى النصف، فالنصف المغمور نراه كأنه مطوي ولكنه طي غير الذي يكون عليه الحال وقع الطي خارج سطح الماء؛ فكأن للماء منطقه الذي يجعلنا نقر بالإيهام الذي نراه فيها ولكننا لا نطلب لها تفسيرا بل تأويلا "فالأحلام هي الأحلام" .
ولكي لا نسقط فيما خشي أوستين منه وهو التطابق، فإن الفرق الذي نراه بين التفسير والتأويل كما أشار إلى ذلك أبو هلال العسكري إذ يقول:
"الفرق بين التفسير والتأويل هو الإخبار عن أفراد آحاد الجملة والتأويل الإخبار بمعنى الكلام" كما يورد تعاريف أخرى منها "التفسير أفراد ما انتظمه ظاهر التنزيل والتأويل الإخبار بغرض التكلم بكلام وقيل التأويل استخراج معنى الكلام لا على ظاهره بل على وجه يحتمل مجازا أو حقيقة" .
ومحصل الأمر عند أوستين أن الإيهام واقع في اللغة عند سوء استخدامها ولا يبرئ الفلاسفة من سوء الاستخدام هذا فبين ألفاظا تستوي عندهم- أو عند بعضهم على وجه التحقيق- والحال أنها غير متماثلة. كما أن الإيهام يقع بالنسبة إلى المدركات الحسية فحلل أوستين في هذا السياق أمثلة العصا التي جزء منها مغمور الماء فإذا هو كأنه مطوي، كما حلل صور المرآة وكذا فعل مع الشراب...
والذي يهمنا من تناول أوستين لهذه الوقائع اللغوية والنفسية والعينية والحسية، هو الشق اللغوي منها.
فالتناول الأوستيني لتلك العبارات المتجاورة عنده – هذا ما نفهمه ضمنيا – والمتماثلة عند غيره من قبيل "يشبه س" و "له نفس مظهر س" و "كان س" كان تام ورد في سياق البرهنة على ما سماه "حجة الإيهام" ولكننا نقتطعه من سياقه ذلك لنفحص وجه الإفادة اللساني من هذا الإلمام الأوستيني بهذه المسائل. فأوستين يقر وجود سمات مشتركة بين تلك التعابير الثلاثة ولولا ذلك لما تمت المقارنة بينها أصلا ولكن وجه الإشكال يمكن في أن المرجع غائب في تمييز هذه الوحدات الكلامية بعضها عن بعض رغم تعالق بعض مثلا فاشتراك الماء والبنزين، مثلا في سمة الشفافية لا يؤدي بنا إلى القول بتماثلهما فملاحظة هذا المظهر المشترك هو تقرير بصري لا يمكن أن يصل بنا إلى الخلط أو الالتباس بينهما.
ولكن ذلك "مستقل عن الإضافية الخاصة بطريقة التعبير فالكلمات نفسها لا تستتبع شيئا، لا في هذا المعنى ولا في ذاك" .
والذي أوقع الالتباس بين تلك التعابير الثلاثة ("يشبه س" و "له نفس مظهر س" و "كان س" و ؛ كان تام) هو أنها لا تحمل شحنة لا قولية هي ضرورية للتمييز بينها، فهذه العبارات تقع على خط تعبيري واحد، نستشعر أنها غير متطابقة لكن لا يمكننا الوقوع على دقائق الفويرقات بينها؛ ولو كانت متراتبة كما هو الحال مع جمل التشبيه عند عبد القادر الجرجاني لكان حدس الوقوع على الفروق أقوى .
إذ أن الجرجاني يتكلم مستحضرا البلاغة، بل هو داخل سياقها المعرفي في حين يقف أوستين –راغبا في ذلك لا شك – في عراء التأمل الفلسفي المجرد دون توسل بإواليات التحليل البلاغي.
فتلك العبارات ثلاثتها تقع من السلم اللغوي على درجة واحدة توحد بينها ولكن مواضع "قدمي" كل عبارة مختلفة عن الأخرى، فهي ذات شحنات معنوية ذات خانات متقايسة وإن ما يفرق بينها أنها لا يمكن أن تكون متطابقة، ذلك أننا نصادر على أن بينها صلات معنوية وثيقة لذلك حتى تظل المصادرة يقينية علينا إن نقر أنها مختلفة، فلكي يكون الاتصال اتصالا بين شيئين يجب أن يكون الشيئان مفترقين وإلاّ لما عددنا ذلك اتصالا؛ إلا على سبيل التجوز والاتساع وهذا سبيل ألغى أوستين النظر فيه لأنه يهتم باللغة العادية.
ولما كان عبد القاهر الجرجاني في حل من هذا القيد المعرفي الذي اشترطه أوستين على نفسه، ولما كان يتحدث من داخل البلاغة، فإنه أمكنه أن يعقد العلاقات التراتبية بين أمثلة التشبيه التي درسها فهو يقول: "واعلم أن ليس شيء أبين وأوضح وأحرى أن يكشف الشبهة عن متأمله في صحة ما قلناه من التشبيه فإنك تقول: زيد كالأسد، أو شبيه بالأسد. فيكون تشبيها أيضا. إلا أنك ترى بينه وبين الأول بونا بعيدا لأنك ترى له صورة خاصة وتجدك قد فخمت المعنى وزدت فيه بأن أفدت أنه من الشجاعة وشدة البطش أنّ قلبه لا يخامره الذعر ولا يدخله الروْع، بحيث يتوهّم أنّه الأسد بعينه. ثم تقول لئن لقيته ليلقينّك مِنْه الأسد، فتجده قد أفاد هذه المبالغة ولكن في صورة أحسن وصفة أخصّ وذلك أنّك تجعله في "كأن" يتوهم أنّه أسد وتجعله ها هنا يرى منه الأسد على القطع، فيخرج الأمر على حد التوهّم إلى حد اليقين .
المتكلم في نص الجرجاني لا يروم بث حقيقة علمية ولكنه يريد الإقناع بوهم فكان كلامه كلما كان إلى الحقيقة أقرب كان أبعد عن الإقناع لأنه لا يملك حجة عقلية، فكلما تصاعد من الحقيقة إلى المجاز ومن الصدق إلى الكذب ومن التوسط إلى المبالغة، تكاثرت أسهم الإقناع والإفحام .
فكون الشخص إنسانا وأسدا (بمعنى السَّبُع) غير مطابق لحالة الأشياء لذلك يعمد القائل إلى المغالطة باعتماد آليات التشبيه والاستعارة لجعله هو إيّاه، فاشتغال اللغة على نحو استعاريّ ينفي عن الكلمات دلالتها التصريحية ويُكسبها دلالات حافَّة سياقية فالأسد يصير غيرَ السَّبُع بل هو الإنسان بلغ من الشجاعة ذروتها ومن البأس أقصاه. فهذا التوسّع في المعنى تحكمه ضوابط لغوية وتداولية لتتعين الدلالة من ورائه، والسياق هو الذي يستبقي الدلالة الملائمة ويستبعد تلك التي لا تناسب المقام. لكن ما هي معايير التراتبية في تصنيف التشبيهات والاستعارات ولماذا كانت هذه أبلغ من تلك؟
لما كان التشبيه البليغ (وهو الذي حذف منه أداة التشبيه ووجه الشبه) هو أفضل أنواع التشبيه، فإنّ الاستعارة هي الأخرى أضل من جميع التشبيهات لأنها تقوم على حذف المشبه (=المستعار له)، فالقاعدة العامة أن البلاغة هي الإيجاز دون إخلال، فكانت الاستعارة وهي إلى عدم ذكر أداة التشبيه ووجه الشبه فيها، قد استعنت عن ذكر المشبه، فهي أكثر المجازات اللغوية اقتصادا وأعلاها درجة في سلم البلاغة؛ فهي أوغل في المجاز و أنأى عن الحقيقة.
ثم إن بلاغة التشبيه البليغ أمكن من بلاغة التشبيه التام في استغنائه عن التصريح بالتلميح، فهو أوجز لفظا وأغزر معنى، وبلاغة الاستعارة من جنس ذلك وإن كانت أرقى درجة، وفضل هذه الدرجة يتمثل في تجاوز الإسناد الصريح (زيد أسد) إلى إسناد مضمر (جاء أسد) ففي التشبيه البليغ يحتاج المتقبل إلى إثبات من القائل بأن زيدا أسد، في حين يسلم المتقبل، في الاستعارة، بأن زيدا أسد بل هو يعتبر ذلك من محصول الحاصل لذلك فالترجيح قاطع في الاستعارة بات وهو بحاجة إلى تزكية القائل .
و لكن ما الذي يضمن ألا يذهب في ظن المتقبل أن الأسد سبع؟
ههنا لا يمكن الحديث عن البلاغة دون أن يحصل حد أدنى من الثقافة أو الكفاءة التداولية إذ شاع في السياق البلاغي العربي تشبيه الشجاع بالأسد وجمالَ العيون بعيون المها والقدَّ بالبان واللمعانَ بالدينار والسواد بالليل... وغير ذلك مما يعد من الموروث المتفق عليه بحيث لا ينكره إلا مكابر ولا يجحده إلا جاهل. وهذه القيم الجمالية التي يعبر عنها على هذه الشاكلة في اللسان العربي تجد لها تعبيرات مختلفة في سائر الألسنة. وهذه التعبيرات كل في لسانه هي رصيد مشترك – ضمني – بين متكلمي ذلك اللسان؛ يضمن تواصله واستمراره وجود المدونة الأدبية التي تحمل اللغة الصافية المعيارية التي تجسد تلك النماذج الكلية التي يستعيدها الشعراء وكتاب النثر الفني أو يطورونها وتتحول تلك المستنسخات الشكلية تبعا للذوق الأدبي العام ولكيفية تلقي مستعملي تلك اللغة لها ولدرجة استيعابهم إياها.
فالوسائل البلاغية تشتغل وفق تراتبية تنتظمها والذي جعلها على تلك الشاكلة هو القصد الذي تعمد إلى إحداثه في المتقبل، فكلما كان استحصال المعنى أوفر وإثباته أيقن، كانت الوسيلة البلاغية أرفع مرتبة، فالوسائل البلاغية (نقصد هنا التشابيه والاستعارات على وجه التدقيق) تقاس بدرجة التأثير الذي تحدثه في نفس المتقبل وهو تأثير غير نفسي زئبقي لا ينصاع لمعيار، بل هو ينضبط بقوانين اللغة ففضل الاستعارة على سائر التشابيه بين من حيث الحذف والإيجاز والاقتصاد وكذلك من حيث التمكن من الإسناد مع تغييب أحد عنصريه. فالنحو محكم في البلاغة ينطق عن تساوقها معه وإن اختصّ بالتعبير وامتازت هي بالتصوير فإنّ الدلالة تجمع بينها على صعيد واحد وفي سلك ناظم فريد.
فإذا كان اشتغال الجرجاني على اللغة جاء من النحو والبلاغة والمنطق، فإن أوستين اشتغل على اللغة منطقا وفلسفة مستبعدا غير ذلك.
فمقاربة أوستين واقعة على منطق اللغة بمنأى عن منطق الأحلام (وهو مجال من مجالات علم النفس التحليلي) ومنطق البلاغة (وهو من اختصاص البلاغيين) فاقتصر تحليله اللغوي على أمثلة عادية واقعية تنتمي للواقع المعيش . (وقد خصص أوستين فصلا كاملا هو الفصل السابع لتحليل كلمة "واقعي" ص 85 وما بعدها) معتبرا إن ما هو من قبيل التعبيرات الحلمية أو الأدبية الفنية خارج المدونة التي يشتغل عليها.
في حين مدونة الجرجاني الأصلية هي النصوص الفنية (الشعر والقرآن) وما اعتماده على أمثلة عادية ألا تبسيط الأمور ومن باب التوضيح والنزعة التعليمية لذلك يردف تلك الأمثلة السهلة المصنوعة للتسهيل والتقريب بشواهد شعرية فما على القارئ إلا تطبيق ما أوصله إليه الجرجاني من المثال التوضيحي (زيد أسد وزيد الأسد وجاء الأسد)، على الشاهد الشعري الذي يقترحه الجرجاني ليطبق عليه القارئ ما علمه إياه نظريا.
وقد ظل الجرجاني وفيا لمدونته هذه المعيارية الفنية وظل أوستين وفيا هو الآخر لمدونته العادية فافترق منهج التناول عندهما فضلا عن تكوين الرجلين وغير ذلك مما لا نود استقصاءه من الفوارق فهي جهة ولك وجه الطرافة أن المقاربتين في رأيي متكاملتان، فيمكن تطبيق آراء الجرجاني على النص الفني وتطبيق آراء أوستين على النص غير الفني وبذلك يمسحان معا كل النصوص، وبالتالي فإن الإبقاء على الحد الفاصل بين الجنس الفنيّ من القول وغير الفنيّ منه، مفيد من هذه الزاوية وبذلك تتكامل البلاغة والمنطق والفلسفة في الاهتمام بالمحور الأس الذي تشترك هذه العلوم الثلاثة في الإعتناء بمختلف إشكالياته وهو محور: اللغة/ الفكر .
مع الإشارة إلى أن البلاغة والمنطق عند الجرجاني هما أرسطيتان في حين يمتح أوستين من المنطق الحديث ومن الفلسفة التحليلية وأتباع هذه الفلسفة يحتفون باللغة احتفاءً "جعل بحوثهم تبدو أحيانا كأنها فلسفة لغوية" .
هذا فضلا عن أنّ أوستين هو صاحب كتاب "كيف نصنع بالكلمات أشياء؟" ذي الأهمية الكبيرة فهو يقع في بدايات الدراسة التداولية، و يؤسّس لها.