أمن اللبس ومراتب الألفاظ في النحو العربي
د. رشيد بلحبيب (*)
1- وظيفة اللغة بين الإفهام والتعمية / حذر اللبس:
لولا حاجة الناس إلى المعاني وإلى التعاون والترافد لما احتاجوا إلى الأسماء (1). ولذلك كانت غاية اللغة القصوى التفاهم :"فنتكلم أو نكتب لبيان أفكارنا وإيصالها إلى فهم السامع أو القارئ ولا بد لنا في هذا من استعمال الجمل، فإنها صور للفكر خطابا وكتابة ذلك لأن الجملة تحتوي على شيئين ألفاظ منسوقة على ترتيب مخصوص ومعان تقابل تلك الألفاظ ويدل عليها بها. (2)
ومما لا ريب فيه أن النظام اللغوي خلق للإفادة أي لتبليغ أغراض المتكلم للمستمع فهو آلة للتبليغ جوهره تابع لما ولي من أمر الإفادة. (3)
ولا غرابة في هذا ما دام شرط الإفادة وعدم اللبس شرطا في كل عملية تواصلية شفاهية أو كتابية. لأن "اللغة تبقى لغة في جميع أحوالها، وإذا استخدمت كتابة فليس مهما أن يتم هذا حسب حروف الألفباء أو حسب طريقة بريل أو حسب نظام مورس وما إلى ذلك" (4) ما دامت تؤدي وظيفتها.
وقد فهم اللغويون العرب هذه الظاهرة فهما صحيحا يقول الجاحظ: " يكفي من حظ البلاغة ألا يؤتى السامع من سوء إفهام الناطق ... ولا يؤتى الناطق من سوء فهم السامع " (5)
فذلك من شروط نجاح أي عملية تواصلية.
إن من أهم أركان العملية التواصلية الإفادة، أي الابتعاد عن اللبس أو ما يسميه تشومسكي " الغموض التركيبي " (6) Structural ambiguity ولهذا صاغ النحويون العرب قواعد من مثل : " الأصل في الكلام أن يوضع للفائدة" ، و" لا يجوز الابتداء بالنكرة لأنها لا تفيد"... ومتى زالت الفائدة أو التبست صار الكلام عبارة عن ركام من الألفاظ.
يقول تمام حسان :"إن اللغة العربية- وكل لغة أخرى في الوجود- تنظر إلى أمن اللبس باعتباره غاية لا يمكن التفريط فيها لأن اللغة الملبسة لا تصلح واسطة للإفهام والفهم وقد خلقت اللغات أساسا للإفهام وإن أعطاها النشاط الإنساني استعمالات أخرى فنية ونفسية (7).
فالمتكلم حين يقصد إفهام المخاطب رسالته اللغوية فإنه يرتبها على منوال لا يدع معه للبس مجالا حتى يدرك مقاصده ذلك الإدراك الذي يتوخاه، فالالتباس ممنوع أبداً لمنافاته القصد من وضع اللغة، " وأما سهولة الفهم فشرط أولي وضروري أيضا بما أنه غاية اللغة ومطلب من مطالبها المقصودة بالذات وهو دليل على ارتقائها وارتقاء أهلها " (8).
اللبس محذور :
هناك قاعدة كبرى في أصول الفقه الإسلامي تجعل " المصلحة" غاية، وتقابلها قاعدة كبرى في أصول النحو تجعل " الفائدة" هي الغاية وتلخص المصلحة في أصول الفقه عبارة " لا ضرر ولا ضرار " وتلخص الفائدة في أصول النحو عبارة صاغها تمام حسان في صورة مشابهة هي " لا خطأ ولا لبس " (9) .وقد وضعها ابن مالك في شطر بيت يقول :
وإنْ بشكلٍ خيفَ لبس يجتنب
لقد عقد السيوطي في الأشباه والنظائر فصلا تحت عنوان" اللبس محذور " تعرض فيه للأساس الذي هيكل نحاة العربية عليه قواعدهم وأسسوا بناء عليه تصوراتهم وتعليلاتهم لمباحث اللغة، فاللبس محذور عندهم، ولا ينبغي إلا أن يكون كذلك، ولهذا بحثوا الأشباه والنظائر التي يمكن أن يقع الخلط واللبس فيها، وتحدثوا عن اللبس في معظم أبواب الصرف والنحو والمعاني وهذه بعض النماذج:
* قال ابن فلاح في المغني:"إنما ضم حرف المضارعة في الرباعي دون غيره خيفة التباس الرباعي بزيادة الهمزة بالثلاثي نحو: ضرب يضرب، وأكرم يكرم، لأن الهمزة في الرباعي تزول مع حرف المضارعة، فلو فتح حرف المضارعة لم يعلم أمضارع الثلاثي هو أم مضارع الرباعي، ثم حمل بقية أبنية الرباعي على ما فيه الهمزة (10) .
* ومن ذلك إذا خيف من النسب إلى صدر المضاف لبس حذف الصدر ونسب إلى العجز فيقال في النسب إلى عبد مناف وعبد أشهل: منافي وأشهلي لأنهم لو قالوا عبدي لالتبس بالنسبة إلى عبد القيس فإنهم قالوا في النسبة إليه عبدي ...(11)
* ومنه عدم لحاق التاء في صفات المؤنث الخاصة بالإناث كحائض وطالق ومرضع وكاعب وناهد وهي كثيرة جدا لأنها لاختصاصها بالمؤنث أمن اللبس فيها بالمذكر فلم تحتج إلى فارق (12) * ومن ذلك يجوز أن يقال في النداء : يا أبت ويا أمت بحذف ياء الإضافة وتعويض التاء عنها، قال ابن يعيش: " ولا تدخل هذه التاء عوضا في ماله مؤنث من لفظه لو قلت : في يا خالي ويا عمي : يا خالة ويا عمة لم يجز لأنه كان يلتبس بالمؤنث، فأما دخول التاء على الأم فلا إشكال لأنها مؤنثة، وأما دخولها على الأب فلمعنى المبالغة (13) .
كما تحدث ابن هشام عن اللبس حديثا مفصلا في تقرير شامل عند بيانه عن اللجهات التي يدخل الاعتراض على المعرب من جهتها، فقد جعل الجهة التاسعة منها: ألا يتأمل عند وجود المشتبهات (14) وعرض هناك لما يحتمل المصدرية والمفعولية، وما يحتمل المصدرية والظرفية والحالية وما يحتمل المصدرية والحال... مما يمكن أن يقع فيه اللبس.
2- أمن اللبس والترخص في الإعراب:
لقد جعل اللغويون العرب العدول عن أصل وضع الجملة بواسطة الحذف أو الإضمار أو الفصل أو تشويش الرتبة بالتقديم والتأخير أو التوسع في الإعراب من باب " الترخص عند أمن اللبس" مع الإشارة إلى أن هذا الترخص يخضع لقيود في مقدمتها حصول الفائدة أو أمن اللبس عند حصول العدول، يقول تمام حسان:"ويتضح خضوع العدول لأمن اللبس في وجوب أن يكون هناك دليل على المحذوف وضرورة التفسيرعند الإضمار وما يفرض من شروط على الفصل بين المتلازمين وعلى التقديم والتأخير وهلم جرا. (15)
ومن أشكال العدول عن أصل من الأصول، العدول عن الإعراب.
إن من أصول العربية الدلالة بالحركات على المعاني فإذا استهدينا بهذا الأصل وجب أن نرى في هذه العلامات الإعرابية إشارة إلى معان يقصد إليها فتجعل تلك الحركات دوال عليها وما كان للعرب أن يلتزموا هذه الحركات ويحرصوا عليها ذلك الحرص كله، وهي لا تعمل في تصوير المعنى شيئا، بل لقد كانت حارسا لأمن اللبس في النظام والسياق معا. (16)
يقول السيوطي : " إنما وضع - الإعراب- في الأسماء ليزيل اللبس الحاصل فيها باعتبار المعاني المختلف عليها، ولذلك استغنى عنه : الأفعال والحروف والمضمرات والإشارات والموصولات لأنها دالة على معانيها بصيغها المختلفة فلم تحتج إليه، ولما كان الفعل المضارع قد تعتوره معان مختلفة كالاسم دخل فيه الإعراب ليزيل اللبس عند اعتوارها، ومنه رفع الفاعل ونصب المفعول فإن ذلك لخوف اللبس منهما لو استويا في الرفع أو في النصب، ثم قال: " ومن ثم وضع للبس ما يزيله إذا خيف واستغني عن لحاق نحوه إذا أمن " (17) .
إن العرب مجمعون على رفع الفاعل ونصب المفعول به إذا ذكر الفاعل إلا أنه قد جاء الفاعل منصوبا والمفعول مرفوعاً إذا أمن اللبس يقول ابن مالك :
ورفع مفعول به لا يلتبس ونصب فاعل أجز ولا تقس . (18)
قال ابن الطراوة : " بل هو مقيس ومنه في القرآن الكريم ( فتلقى آدم من ربه كلمات) [البقرة /36] فابن كثير وهو القارئ المكي من القراء السبعة ينصب آدم ويرفع كلمات (19).
وقد كان ابن الطراوة يقول : إذا فهم المعنى فارفع ما شئت وانصب ما شئت وإنما يحافظ على رفع الفاعل ونصب المفعول إذا احتمل كل واحد منهما أن يكون فاعلا وذلك نحو : " ضرب زيد عمرا" لو لم ترفع " زيدا " وتنصب "عمرا" لم يعلم الفاعل من المفعول . (20)
وقد أوردت مصادر النحو عددا من الأبيات الشعرية وقع فيها الترخص في الإعراب.
يقول الزجاجي : " وقد جاء في الشعر شيء قلب فصيّر مفعوله فاعلا وفاعله مفعولا على التأويل ضرورة وأنا أذكر لك منه شيئا تستدل به على ما يرد عليكم منه في الشعر فتعرف وجهه ولا تنكره، فمنه قول الشاعر:
مثل القنافد هداجون قد بلغت
نجران أو بلغت سوءاتهم هجرُ
فقلب الفاعل فصار مفعولا
ومنه قول الآخر:
غداة أحلّت لابن أصرم طعنةً
حصين عبيطات السدائف والخمر فقلب فنصب الطعنة وهي التي أحلت له ورفع المفعول.
ومما جاء من المفعول المحمول على المعنى قوله:
قد سالم الحيات منه القدما
الأفعوان والشجاع الشجعما
لأن المسألة لا تكون إلا من اثنين، ومن سالم شيئا فقد سالمه الآخر لأنه مثل المقاتلة والمضاربة... فجعل الحيات فاعلات فرفعها بالمسالمة ثم نصب الأفعوان والشجاع... فجعلها مفعولات لأنها مسالمة كما أنها مسالمة. (21)
وقد جعل ابن هشام هذا الترخص من ملح كلامهم قال: " من ملح كلامهم تقارض اللفظين في الأحكام" (22) كإعطاء الفاعل إعراب المفعول وعكسه عند أمن اللبس مثل : " خرق الثوبُ المسمارَ" و"كسر الزجاجُ الحجرَ" ، وأورد مجموعة من الأبيات من بينها:
إن من صاد عقعقا لمشوم
كيف من صاد عقعقان وبوم
وفيه رفع الفاعل والمفعول معا. (23)
3- مصادر اللبس التركيبي:
يتوقف فهمنا للتراكيب في شطر كبير منه على هيئة نظم الكلم، ذلك أن كثيرا من الجمل الملتبسة التي تحتمل الواحدة منها معنيين أو أكثر إنما يرجع اللبس فيها إلى هيئة النظم وسمته (24) ولهذا كان تصريف الكلام لأداء مختلف الوظائف، لا سيما الوظيفة المحورية ( الفهم والإفهام)، تقتضي من المتكلم احترام جملة من النواميس اللغوية تحتل في تفكيره محل الأساس الضروري لكل عملية تواصل لغوية مهما كان مستواها.
إن من أهم مصادر اللبس خرق القواعد بشكل صريح وسافر، أو كما يعبر عن ذلك "غرايس" عند الاستخفاف بالقواعد أو استغلالها مع عدم احترام المبادئ المتحكمة في أي خرق، لأن المتكلم إذا انحرف عن استعمال مواقف للحكم والقواعد احتاج المستمع على الأقل إلى تقرير الكلام وإعادة تشكيله حتى يتوصل عبر استدلالات متتابعة إلى المقتضى الذي يقصد المتكلم إبلاغه . (25)
فاغتصاب الأماكن والنزول في غير الأوطان (26) من شأنه أن يؤدي إلى عدم التطابق بين المستوى المنطوق والفكرة ، وإذا لم يتم التطابق المذكور فسد النظم والتبست الطرق المؤدية إلى الغرض، واضطر القارئ إلى إعادة تركيب الأجزاء وتنسيقها حتى يحصل على صورة المعنى، وقد برزت هذه المعاني في تحليل الجرجاني لنماذج من الشعر العربي اتفق أسلافه على فسادها إلا أنهم لم يستطيعوا تحليل وجه الفساد أو اكتفوا بعبارات مجملة لا تفي بالغرض. فجميع النقاد يعتبرون بيت الفرزدق:
وما مثله في الناس إلا مملكا
أبو أمه أبوه حي يقاربه.
فاسداً لأن فيه معاظلة بين الكلام وتقديما على غير الوجه ولم يزيدوا على هذا التفسير شيئا. أما الجرجاني فقد بيّن فساد نظمه بالمفارقة الحاصلة فيه بين ترتيب المعاني في الفكر وترتيب الألفاظ في الذكر.(27)
يقول الجرجاني: " فانظر أيتصور أن يكون ذمه للفظه من حيث إنك أنكرت شيئا من حروفه أو صادفت وحشيا غريبا أو سوقيا ضعيفا أم ليس إلا لأنه لم يرتب الألفاظ في الذكر على موجب ترتب المعاني في الفكر فكدّ وكدّر ومنع السامع أن يفهم الغرض إلا بأن يقدم ويؤخر ثم أسرف في إبطال النظام وإبعاد المرام، وصار كمن رمى بأجزاء تتألف منها صورة ولكن بعد أن يراجع فيها باب من الهندسة لفرط ما عادى بين أشكالها وشدة ما خالف بين أوضاعها".(28)
إن من أهم مصادر اللبس إذن " العدول عن أصل الوضع" ، بواسطة الحذف أو الإضمار أو الفصل أو تشويش الرتبة بالتقديم والتأخير أو التوسع في الإعراب، وهذا العدول إما أن يكون مطردا إذا أمن اللبس - وذلك بوجود دليل على المحذوف وضرورة التفسير عند الإضمار وما يفرض من شروط على الفصل بين المتلازمين وعلى التقديم والتأخير وهلم جرا (29) ، وإما أن يكون غير مطرد إذا خيف اللبس- فللبس دور أساسي في تصريف أحوال العدول والتصرف فيها.
4- تحكم اللبس في حفظ المراتب:
إن المصدر الذي نريد أن نقف عنده، باعتباره من مصادر اللبس الكبرى، هو التقديم والتأخير فالأصل فيه عدم اللبس، إلا أن الكاتب أو الشاعر قد يذهب مذهب التوعر فيقدم ويؤخر دون أن يراعي الأصول قاصدا اللبس والتعمية.
يقول ابن القيم معلقا على قول الشاعر:
نفلق ها من لم تنله سيوفنا
بأسيافنا هام الملوك القماقم.
تقديره : نفلق بأسيافنا هام الملوك القماقم، ومن لم تنله سيوفنا و"ها"للتنبيه تقديره: تنبهوا لهذا المعنى وإنما دعاه إلى التقديم والتأخير إيقاع اللبس على السامع وجعله من باب الألغاز" (30)
ومن وصايا النقاد للكتاب أن يتجنبوا ما يكسب الكلام تعمية فيرتبوا ألفاظهم ترتيبا صحيحا (31) ولا يكرهوا الألفاظ على اغتصاب الأماكن.(32)
أما إذا خيف اللبس وهدد القصد وأمكن للسامع أن يحمل الخطاب على غير المراد فينتقض العهد وينحل العقد وتتبدل القضية والحكم فلا مناص من إيفاء اللغة أقدارها وإحلال الكلمات محالها. (33)
يقول جبر ضومط : " فإذا راعيت هذه الأغراض- المحافظة على حسن الرصف والفاصلة- فقدم ما شئت وأخر ما شئت على شرط ألا يقع التباس في الجملة ولا تعقيد، أما الالتباس فلا يسوغ بوجه من الوجوه ولذلك لا يصح في جملة: " لو اشتريت لك بدرهم لحما تأكلينه" : تأخير المجرور الأول وتقديم الثاني عليه، ولا في جملة ( وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى [ يس /19] أن تؤخر المجرور أصلا، لأن التأخير يؤدي في الحالين إلى الإلباس. (34)
فالتقديم قد يكون دافعا للبس أو جالبا له حسب المباحث، واللبس قيد من القيود التي تحد من حرية الجملة العربية ومن حركية مفرداتها، وسوف نحاول البرهنة على هذا الأمر من خلال النماذج النحوية التالية:
أ- التباس المبتدإ بالخبر :
لقد تقدمت الإشارة إلى أن المبتدأ والخبر يتميزان بنوع من الحرية فيسمح التركيب العربي بتقديم الخبر وتأخير المبتدإ ما لم يؤد ذلك إلى اللبس، ومن الحالات التي يجب فيها أن يلزم كل موضعه، إذا كانا معرفتين أو نكرتين متساويتين في التخصيص ولا قرينة تميز أحدهما عن الآخر، فالمعرفتان نحو : زيد أخوك، فإن كلا من هذين الجزأين صالح لأن يخبر عنه بالآخر ويختلف المعنى باختلاف الغرض فإذا عرف السامع زيدا بعينه واسمه ولا يعرف المخاطب اتصافه بأنه أخو المخاطب وأردت أن تعرفه ذلك قلت:أخوك زيد، ولا يصح لك أن تقول: "زيد أخوك".
وإذا عرف أخا له ولا يعرفه على التعيين باسمه وأردت أن تعينه عنده قلت : أخوك زيد ولا يصح لك أن تقول : "زيد أخوك" .(35)
والنكرتان المتساويتان نحو : "أفضل منك أفضل مني"، فإن كل واحد من هذين الوصفين صالح لأن يخبر عنه بالآخر لعمله في المجرور بعده، فإذا جعلت أفضل منك مبتدأ، " وأفضل مني" خبره امتنع تقديم الخبر لئلا يتوهم ابتدائيته فينعكس المعنى لعدم القرينة وإلى هذا أشار الناظم بقوله:
فامنعه حين يستوي الجزءان
عرفا ونكرا عادمي بيان(36)
ومن أطرف ما في هذا الأمر أن جماعة من النحويين لا يجيزون تقديم خبر المبتدإ عليه إذا كان معرفة(37) فلا يجيزون أن يقال: "أخوك زيد" والمراد "زيد أخوك" ومن حججهم أنه يقع الإشكال فلا يعلم السامع أيهما المسند وأيهما المسند إليه فلما عرض فيهما الإشكال لم يجز التقديم والتأخير، وكان ذلك بمنزلة الفاعل والمفعول إذا وقع الإشكال فيهما لم يجز تقديم المفعول كقولك : ضرب موسى عيسى(38) يقول السيوطي:
" فإذا كان الخبر معرفة كالمبتدإ لم يجز تقديم الخبر لأنه مما يشكل ويلبس إذ كل واحد منهما يجوز أن يكون خبرا ومخبرا عنه" (39)
بخلاف ما إذا كان معه قرينة لفظية أو معنوية فاللبس ينتفي.
فالأول نحو: رجل صالح حاضر فإن القرينة اللفظية وهي الصفة قاضية على النكرة الموصوفة بالابتدائية تقدمت أو تأخرت.
والثاني : نحو : " أبو يوسف أبو حنيفة" فإن القرينة المعنوية وهي التشبيه الحقيقي قاضية بأن "أبو يوسف" مبتدأ لأنه مشبه و "أبو حنيفة" خبره لأنه مشبه به تقدم أو تأخر (40) فلا بد أن تكون للقارئ معلومات سابقة عن كل من أبي يوسف - وهو من أشهر تلامذة أبي حنيفة- وأبي حنيفة إمام المذهب الفقهي المعروف وأن تكون لديه الكفاءة اللغوية التي تؤهله لمعرفة المحكوم به والمحكوم عليه أو المشبه والمشبه به أو المبتدإ والخبر، ففي الجملة السابقة استوى طرفا الجملة في التعريف، ومع ذلك يجوز فيها أن يتقدم الخبر " أبو حنيفة" وهو المشبه به ويتأخر المبتدأ " أبو يوسف" فتصير الجملة:
أبو حنيفة أبو يوسف لأن القرينة المعنوية وهي التشبيه الحقيقي تقضي بأن يكون " أبو يوسف" مبتدأ تقدم أو تأخر لأنه مشبه، وأن يكون " أبو حنيفة" خبرا تقدم أو تأخر لأنه مشبه به. (41)
إذن فالعنصر الدلالي يقوم- عند فقدان ما يميز الوظائف النحوية بعضها من بعض- بالتمييز بين هذه الوظائف مما يتيح لها حرية الرتبة فتقدم من تأخير أو تؤخر من تقديم .(42)
يقول عبد القاهر الجرجاني: " واعلم أنه ليس من كلام يعمد واضعه فيه إلى معرفتين فيجعلهما مبتدأ وخبرا ثم يقدم الذي هو الخبر إلا أشكل الأمر عليك فيه فلم تعلم أن المقدم خبر حتى ترجع إلى المعنى وتحسن التدبر.
ففي قول الشاعر:
نَمْ وإنْ لَمْ تَنَمْ كَرايَ كَراكَ (43)
ينبغي أن يكون كراي خبرا مقدما ويكون الأصل : " كراك كراي" ، أي نم وإن لم أنم فنومك نومي... ثم قال: وإذا كان كذلك فقد قدم الخبر وهو معرفة وهو ينوي به التأخير من حيث كان خبرا.
قال فهو كبيت الحماسة:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا
بنوهن أبناء الرجال الأباعد
فقدم خبر المبتدإ وهو معرفة، وإنما دل على أنه ينوي التأخير المعنى، لولا ذلك لكانت المعرفة إذا قدمت هي المبتدأ لتقدمها. (44)
ب- التباس المبتدإ بالفاعل:
ومما يجب فيه تأخير الخبر أن يخاف التباس المبتدإ بالفاعل إذا تقدم الخبر وكان فعلا مسندا إلى ضمير المبتدإ المستتر نحو : "زيد قام" أو يقوم"، فلو قدم والحالة هذه وقيل: قام أو يقوم لالتبس المبتدأ بالفاعل بخلاف ما إذا كان الخبر صفة نحو: " زيد قائم" أو كان فعلا رافعا لظاهر أو لضمير بارز، فالأول نحو: " زيد قام أبوه" والثاني نحو :" أخواك قاما" على اللغة الفصحى فلا لبس فيهن فيجوز تقديمه فتقول : " قائم زيد"، و" قام أبوه زيد" ، و"قاما أخواك" وهذا التقييد لا بد منه في قول الناظم:
كذا إذا ما الفعل كان الخبرا (45)
إذن، إذا كان الخبر فعلا فإنه لا يجوز أن يتقدم لأنه إذا تقدم الفعل على الاسم خرج من حدّ الابتداء وارتفع بالفعل (46) وهذا مما يؤدي إلى التباس المبتدإ بالفاعل لا محالة (47)
ج- التباس الفاعل بالمبتدإ:
لابد في الجملة الفعلية من ذكر الفعل قبل الفاعل مطلقا (48) ،ولا يجوز تقدم الفاعل، ودليل امتناع تقديم الفاعل هو التباسه بالمبتدإ (49) وتحول الإسناد من إسناد فعلي إلى إسناد اسمي (50)وهذا ما عبر عنه الشهاب القاسمي بقوله: " فإن قلت: لم امتنع التقديم لتوهم الفاعلية مع أنه لا يختلف المعنى، قلت : يختلفان بالجملة الاسمية والفعلية المختلفتين بإفادة الأولى الثبوت والدوام والثانية التجدد والحدوث".(51)
وقد لاحظ النحاة هذا المعنى، ومن ثم قالوا إن رتبة المبتدإ التقديم لأنه محكوم عليه والمحكوم عليه قبل الحكم، بخلاف جملة الفعل والفاعل فإن المقصود فيها أولا إنما هو المسند أي الفعل مضافا إليه الفاعل ثم ما لابسه من بقية متعلقاته، ولهذا لا يقدم الفاعل على الفعل أصلا لئلا يلتبس بالمبتدإ في أنه هو المقصود أولا.(52)
ويقوي ذلك أن حكم المبتدإ أن يؤتى به أولا لثان، وحكم الفاعل أن يؤتى به ثانيا لأول، أعني أن حكم المبتدإ أن يقدم قبل الحديث عنه فيكون حديثه تابعا لحديثه قبل أن يعرض للمبتدإ المجاز، والأشخاص مقدمة في الرتبة قبل حركاتها الموجودة منها قبل تأثيراتها في غيرها، وأيضا فإن الفاعل يجوز أن ينعكس مبتدأ أبدا، ما لم يكن فيه ضمير عائد إلى مفعوله...(53)
وإذا كان النحاة عللوا امتناع تقديم الفاعل بالتباسه بالمبتدإ فإنهم جوزوا تقديمه متى زال المانع، قال الأبّدي في شرح الجزولية: " ولا يبعد عندي أن يقال إن هذا الفعل يصح له العمل في الأول مقدما عليه وذلك مع أداة تطلب بالفعل... إلا أن يمنع من ذلك مانع، وذلك المانع في الفاعل هو أن يلتبس بالمبتدإ في قولك : "قام زيد وزيد قام" ،(54) ثم قال: " فإذا جاء حرف لا يليه الفعل، لفظاً أو تقديرا ،أزال ذلك اللبس فصحّ أن يكون فاعلا مقدما، إن قدرت الفعل فارغا من الضمير، وفاعلا بإضمار فعل إن قدرت الفعل مشغولا بضمير،قال ابن أبي الربيع:وهذا الذي قاله الأستاذ إنما هو بناء منه على أن الفاعل لا يقدم لأجل اللبس بالمبتدإ فعلى هذا متى زال ذلك اللبس ينبغي أن يقدم (55).
د- التباس الفاعل بالمفعول:
لابد في الجملة الفعلية من ذكر الفعل قبل الفاعل مطلقا، وأما ما سواه من بقية المتعلقات فالأصل فيها أن تتأخر عن الفعل، إلا أنها بحسب الصناعة اللفظية لا يتعين بينها وبين الفعل ترتيب مخصوص، فلك أن تقدم ما شئت منها على الفعل أو تؤخره على ما تراه مناسبا بشرط أن تحافظ على منع الالتباس وتتجنب التعقيد.(56)
فالمفعول به قد يتقدم على الفاعل وقد يتأخر عنه نحو :" ضرب زيدا عمرو" و"خرق السترَ المسمارُ" لأن ظهور الإعراب في الاسمين قد يبّين الفاعل من المفعول، فإذا لم يظهر الإعراب فيهما أو في أحدهما كقولك:ضرب موسى يحيى لم يجز التقديم والتأخير (57) لما يؤدي إليه ذلك من التباس المفعول بالفاعل. (58)
يقول ابن أبي الربيع: " وذلك أن الفاعل والمفعول إذا لم يكن في الكلام ما يدل عليهما التزمت العرب تقديم الفاعل وتأخير المفعول، فإذا قالوا: "ضرب موسى عيسى" ولم يكن معهم ما يدل على الفاعل علمت أن المقدم هو الفاعل إذ لم تكن العرب لتقدم المفعول بغير دال على ذلك لما في ذلك من نقض الغرض .(59)
فالنظام النحوي يلزم أن يتقدم الفاعل على المفعول به إذا خيف التباس أحدهما بالآخر، وذلك إذا خفيت العلامة الإعرابية ولم تكن هناك قرينة لفظية أو معنوية تبين أحدهما من الآخر، وفقدان العلامة الإعرابية في نحو: ضرب موسى عيسى، هو الذي يلزم بتقدم الفاعل على المفعول به، وبعبارة أخرى يقيد الرتبة.
فبعد أن كانت الرتبة غير محفوظة صارت محفوظة إذ كان أمن اللبس يتوقف عليها وهي في نحو: "ضرب أخي صديقي" تعتبر القرينة الرئيسية الدالة على الباب النحوي(60)
فلا تقديم ولا تأخير، ويلزم المفعول موضعه ويتعين تأخيره لأن تقديمه يوجب اللبس (61)فإذا انتفى اللبس أمكن تقديم المفعول، ويزول اللبس بالأدلة والقرائن التي تعين أحدهما.(62)
يقول ابن السيد : " إذا ثنيت أو جمعت فقلت " ضرب الموسيان اليحيين" أوضرب الموسون اليحيين" جاز التقديم والتأخير.
وكذلك إذا وصفت أحدهما بصفة يظهر فيها الإعراب أو وكدته أو عطفت عليه عطف إشراك أو عطف بيان، ونحو ذلك مما يرفع الإشكال، جاز التقديم والتأخير .(63)
فإذا قلت : " أعجب موسى وزيدا عيسى":علم أن موسى مفعول بعطف زيد عليه لأن المنصوب لا يعطف إلاّ على المنصوب مثله، وكذلك تقول " أعجب موسى نفسه عيسى" وكذلك النعت وسائر التوابع. (64)
وكذلك لحاق علامة التأنيث الفعل نحو: " أكرمت موسى سعدى" فيعلم أن " موسى" مفعول وأن سعدى هي الفاعلة للحاق علامة التأنيث الفعل إذ لو كان موسى هو الفاعل لقلت:"أكرم موسى سعدى ".-65)
وفي جواز تقديم المفعول على الفاعل اعتمادا على القرينة المعنوية، قدم النحاة أمثلة تعتمد في بعضها على دلالة المفردات المختارة في الجملة وإمكان علاقتها النحوية، يقول الرضي عن هذه القرينة: " والمعنوية مثل : " أكل الكمثري موسى " و" استخلف المرتضى المصطفى"(66)
فالمثال الأول :" أكل الكمثري موسى" تعتمد قرينته المعنوية على طبيعة العلاقة بين الأكل والكمثري، فلا يمكن أن تكون هي علاقة الفاعلية بل علاقة المفعولية، وطبيعة العلاقة بين الأكل وموسى لا يمكن أن تكون علاقة المفعولية بل علاقة الفاعلية ولذلك جاز أن يتقدم الفاعل أو يتأخر في هذا المثال مع فقدان العلامة الإعرابية الكاشفة عنها لأن كلا منهما معروف مفهوم وفهمه مبني على معرفة خصائص المجالات الدلالية وتجاوبها بين المفردات.
ذلك أن من الأفعال أفعالا يكون المرتفع بعدها عاقلا لاغير، ويكون المنصوب بها عاقلا وغير عاقل، وثم أفعال بعكس ذلك يكون منصوبها عاقلا لاغير، ويكون المرتفع بها عاقلا وغير عاقل. (67)
وفي المثال الثاني : "استخلف المرتضى المصطفى" تعتمد القرينة المعنوية فيه على معلومات خاصة اقترنت بدلالة اللفظ المستخدم "استخلف" أي جعله خليفة، ولا بد أن يكون المستمع عارفا بأن لقب المصطفى خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم، وبأن لقب المرتضى خاص بأبي بكر رضي الله عنه، ولا بد أن يكون عارفا أيضا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قبض للرفيق الأعلى قبل أبي بكر. (68)
فلما زال اللبس بالأدلة والقرائن المعنوية جاز التقديم والتأخير. (69)
وقد اتضح أن العنصر الدلالي يسمح بالتصرف في التقديم والتأخير لأنه يقوم بالدور الذي كانت تقوم به العلامة الإعرابية وهي إحدى الوسائل التي اصطنعتها اللغة للتمييز بين العناصر بعضها البعض.
وإذا انعدمت العلامة مع عدم وجود القرينة كان الالتزام بالترتيب الأصلي بين الفاعل والمفعول به بديلا عنها، فيلزم كل واحد مركزه ليعرفا بالمكان الأصلي، فللرتبة دور مهم في الجملة فهي تساعد على رفع اللبس عن المعنى بتحديد موقع الكلمة فيها: " إذ العبارة إنما تدل على المعنى بوضع مخصوص وترتيب مخصوص، فإن بدل ذلك الوضع والترتيب زالت تلك الدلالة ". (70)
وقد استدل الفاسي الفهري على أن الأصل في الجملة العربية ( ف+فا+ مف) بالاحتفاظ بالرتبة الأصلية عند غياب الإعراب يقول : " ومن المؤشرات على النمطية المذكورة، (ف+فا+مف) عدم إمكان اللبس في الجمل التي يتوارد فيها الفاعل والمفعول بدون إعراب بارز مثل:
ضَرَبَ عيسَى مُوسَى
ضَرَبَ مُوسَى عِيسَى
فعيسى فاعل بالضرورة في الجملة الأولى وموسى مفعول.
وموسى فاعل بالضرورة في الجملة الثانية وعيسى مفعول.
مع أن الأمر بخلاف ذلك في الجملة : ضرب عيسى زيدا نظراً لبروز الإعراب " (71)
هـ- التباس المقصور بالمقصور عليه:
لا يجوز تقديم المقصور عليه حيث كان الطريق "إنما" لأجل وجود الالتباس في التقديم، وذلك لأن كلا من المفعول والفاعل مثلا الواقعين بعدها يجوز أن يكون هو المقصور عليه دون الآخر وأن يقترن أحدهما بقرينة تدل على كونه هو المقصور عليه، فقصدوا أن يجعلوا التأخير علامة القصر على ذلك المؤخر، فالتزموه في مواطن مع إنما ، ولم يجعلوا التقديم أمارة ليجري على ما تقرر في أصل القصر"بإلا" كما تقدم في النفي. (72)
ففي قول العرب: " ليس الطيب إلا المسك" : لو قلبت طرفي الجملة فقلت :" ليس المسك إلا الطيب"، لأجل الغرض في نفي الطيب عن كل شيء غير المسك وتحصل معنى غير ما تقصده من النظم الأول، ولا ينكر أنه يعرض في بعض صور هذا الباب غموض الفرق.(73)
وكذلك في قولك في "ما ضرب زيد إلا عمرا" لايجوز " ما ضرب عمرا إلا زيد" لما فيه من اختلال المعنى وانعكاس المقصود.(74)
فتقديم المحصور عليه لا يجوز في كل مباحث الحصر(75) لأنه يفهم خلاف المقصود ويؤدي إلى عكس المراد.(76)
و- موضع الجار والمجرور واللبس:
سأعرض لتأخير الجار والمجرور الممتنع بسبب اللبس من خلال آيتين كريمتين وقف عندهما البلاغيون طويلا:
* الآية الأولى: (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه) [غافر/ 28 ] إذ جعلوها مثالا على أن تأخير الجار والمجرور يخل بالمعنى، يقول الزركشي: " من ذلك كون التقديم يمنع اختلال المعنى كقوله تعالى (الآية) فإنه لو أخر قوله ( من آل فرعون) فلا يفهم أنه منهم (77) وذلك لأن في التأخير إخلالا ببيان المعنى (78) لأن في تأخيره خيفة أن يلتبس المعنى بغيره كقوله تعالى) ( وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه) فإنه لو قيل ( يكتم إيمانه من آل فرعون) لتوهم أن من آل فرعون من صلة يكتم فيختل المقصود.(79)
ففي الآية السابقة ثلاثة نعوت قدم أهمها وأخصرها وهو: " مؤمن" وأخر النعت الجملة " يكتم إيمانه " منعا للالتباس ومراعاة لحسن النظم معاً.
ويمكن إجمال صور التركيب الممكنة في ما يلي:
1- وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه.
2- وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون.
3- وقال رجل من آل فرعون مؤمن يكتم إيمانه.
4- وقال رجل من آل فرعون يكتم إيمانه مؤمن.
5- وقال رجل يكتم إيمانه من آل فرعون مؤمن.
6- وقال رجل يكتم إيمانه مؤمن من آل فرعون.
فمن هذه الصور الست ( الثانية والخامسة) ممنوعتان لوقوع الالتباس فيهما.
والثالثة والرابعة والسادسة جائزات بحسب اللغة إلا أن البلاغة تنكرهن لتقدم غير الأهم فيهن على الأهم... (80)
* الآية الثانية: هي قوله تعالى ( وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا) [ المؤمنون/ 33] بتقديم "من قومه" على الوصف " الذين كفروا " قال الزركشي: " ولو تأخر لتوهم أنه من صفة الدنيا لأنها ههنا اسم تفضيل من الدنو وليست اسما والدنو يتعدى "بمن"، وحينئذ يشتبه الأمر في القائلين أنهم أهم من قومه أم لا، لاشتمال التأخير على الإخلال ببيان المعنى المقصود وهو كون القائلين من قومه.
وحين أمن هذا الإخلال بالتأخير قال تعالى في موضع آخر من هذه السورة ( فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم( [المؤمنون/24] بتأخير المجرور عن صفة المرفوع. (81)
ز- التباس أحد المفعولين بالآخر:
يرتفع اللبس في مفعولي علم مع إلزام كل من المفعولين مركزه، وذلك بأن يكون ما كان خبرا في الأصل بعدما كان مبتدأ فلا يجوز في نحو : " علمت زيدا أباك" مع اللبس تقديم الثاني على الأول وهذا كما قلنا في نحو: ضرب موسى عيسى... فإذا لزم كل واحد مركزه لم يلتبس إذا قام مقام الفاعل وهو في مكانه ...(82)
كما يجب حفظ المراتب في باب أعطيت إذا التبست مخالفته نحو: " أعطيت زيداً أخاك" فإن لم تلتبس القرينة جاز العدول كقوله تعالى ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) [ الجاثية /22 ](83)
ويمكن تتبع مظاهر اللبس وأثرها في حفظ المراتب في غير ما ذكرت من أبواب النحو المختلفة، فإذا كان صاحب الحال نكرة وجب تقديمها نحو: جاءني راكبا رجل ، لأنه يؤمن إذن التباس الحال بالوصف إذ الوصف لا يتقدم على الموصوف، وأما إذا تأخر نحو : جاءني رجل راكبا فقد يشتبه في حال انتصاب ذي الحال بالوصف نحو: رأيت رجلا راكبا. (84)
وكذلك إذا كانت " أن" مع صلتها مبتدأ وجب تقديم خبرها عليها، وإنما تعين تقديم الخبر لئلا يلتبس " بإنْ" المكسورة ، لأنك لو جئت بالخبر بعد خبر " أن" المفتوحة إما ظرفا نحو: أن زيدا قائم عندي أو غير ظرف نحو: أن زيدا قائم حق، لاشتبهت المفتوحة بالمكسورة ولم تدفع الفتحة الخفية اللبس، لكون الموقع موقع المكسورة، لأن لها صدر الكلام بخلاف المفتوحة.(85)
إن هذه النماذج التي استعنت بها -وغيرها كثير- تدل على فهم اللغويين العرب لهذه الظاهرة فهما دقيقا ومراعاتها في التحليل، فقد استقر عندهم أن الالتباس لا يسوغ بوجه من الوجوه لمخالفته الغاية من وضع اللغة " إذ يكفي من حظ البلاغة ألا يؤتى السامع من سوء إفهام الناطق... ولا يؤتى الناطق من سوء فهم السامع (86) فإن ذلك من شروط نجاح أي عملية تواصلية أو فشلها.
الهوامش
(1) الحيوان 5/201.
(2) الخواطر الحسان ص: 6.
(3) نظرية النحو العربي ، نهاد الموسى ص،87.
(4) اللغة والمعنى والسياق، جون لاينز ص،26.
(5) البيان والتبيين 1/87.
(6) نظرية تشومسكي اللغوية، جون لاينز ص، 120.
(7) اللغة العربية معناها ومبناها ص، 233، وينظر" اللغة بين المعيارية والوصفية" تمام حسان، ص،58.
(8) الخواطر الحسان ص، 16.
(9) الأصول ، ص 220-221.
(10) الأشباه والنظائر 1/339.
(11) المصدر السابق 1/341.
(12) المصدر السابق.
(13) الأشباه والنظائر 1/338.
(14) مغني اللبيب ص، 729 وما بعدها ، وينظر "نظرية النحو العربي" نهاد الموسى ص،74.
(15) الأصول ص، 148.
(16) النحو والنحاة ، أحمد عرفة ص، 114.
(17) الأشباه والنظائر 1/337.
(18) شرح الكافية الشافية 2/612.
(19) معاني القرآن، الفراء 1/28،إعراب القرآن للنحاس 1/215.
(20) البسيط 1/262، وقد تعقب ابن أبي الربيع ابن الطراوة وجعل رفع المفعول وإن فهم المعنى كالغلط.
(21) الجمل ، الزجاجي ص،203-204-205، وينظر الأبيات: الحلل لإبن السيد ص، 97-98.البسيط 1/262 الأشباه والنظائر 1/337،وهي من شواهد الكتاب 1/145،المقتضب 2/430،النكت ص، 95-96.
(22) مغني اللبيب ص، 915.
(23) المصدر السابق ص، 917-918، شرح ابن عقيل 2/14، شرح الكافية الشافية 2/612.
(24) ينظر : نظرية النحو العربي، نهاد الموسى ص،25 والتفكير البلاغي عند العرب ص: 202 والضرورة الشعرية في النحو العربي، محمد حماسة ص، 218.
(25) الاقتضاء في التداول اللساني، عادل فاخوري ص، 114.
(26) بعض كلام بشر بن المعتمر، البيان والتبيين 1/138.
(27) ينظر : التفكير البلاغي عند العرب، حمادي صمود ص،516-517.
(28) أسرار البلاغة ص، 113.
(29) الأصول، تمام حسان ص، 148.
(30) الفوائد المشوق ص، 86.
(31) الصناعتين ص، 159.
(32) البيان والتبيين 1/138.
(33) التفكير البلاغي عند العرب ص، 107.
(34) الخواطر الحسان ص، 65.
(35) ينظ : شرح التصريح 1/170-171-172، الإشارات والتنبيهات، الجرجاني ص، 51 نهاية الإيجار، الرازي، ص،163.
(36) شرح التصريح 1/172-173، شرح الكافية الشافية 1/365.
(37) ينظر ، الحلل، ابن السيد ص، 151، التخمير1/275.
(38) الأشباه والنظائر 3/150-151.
(39) المصدر السابق 2/66.
(40) شرح التصريح 1/173، البسيط 1/590.
(41) ينظر ، بدائع الفوائد 1/188.
(42)النحو والدلالة، محمد حماسة ص، 140-141.
(43) ينظر: البيت في : الدلائل ص،373، وصدره، (شاهد منك أن ذاك كذاك).
(44) دلائل الإعجاز ص،373-374،شرح ابن غقيل 1/233.
(45) شرح التصريح1/173-174،وينظر:أوضح المسالك 1/146.
(46) التبصرة 1/101، حاشية يس 1/171.
(47) الحلل ص، 151.
(48) الخواطر الحسان ص، 59.
(49) المطول ص، 117.
(50) نظام الجملة العربية، مصطفى جطل ص، 52.
(51) حاشية يس 1/173.
(52) الخواطر الحسان ص،123.
(53) الحلل ص، 147.
(54) البسيط 2/638.
(55) المصدر السابق 2/638.
(56) الخواطر الحسان ص، 59.
(57) الحلل ص، 97.
(58) الأشباه والنظائر 2/66.
(59) البسيط 1/279.
(60) اللغة العربية معناها ومبناها، تمام حسان ص، 208، وينظر، النحو والدلالة ص، 141.
(61) ينظر: نهاية الإيجاز، مبحث: المتعين للتأخير ص:320.
(62) الخصائص 1/35.
(63) الحلل 1/35.
(64) البسيط 1/279.
(65) المصدر السابق 1/279.
(66) شرح الكافية 1/72، وينظر: اللغة العربية معناها ومبناها ص، 209.
(67) البسيط 2/279.
(68) ينظر، النحو والدلالة ص، 143.
(69) الخصائص 1/35.
(70) منهاج البلغاء، حازم القرطاجني ص، 179.
(71) إشكال الرتبة، الفاسي الفهري ص، 55-56، وينظر ، في بناء الجملة العربية ص: 192.
(72) مواهب الفتاح 2/233.
(73) التبيان ، الزملكاني ص، 101.
(74) مختصر التفتازاني 2/226 و ما بعدها.
(75) ينظر مبحث الحصر المطول ص ،135.
(76) مواهب الفتاح 2/226.
(77) البرهان 3/233.
(78) الإيضاح ص، 208، المطول ص، 185.
(79) عروس الأفراح ص، 66-67.
(80) الخواطر الحسان ص، 66-67.
(81) البرهان 3/233-234،وينظر:عروس الأفراح 2/162-163-164،وينظر: نماذج أخرى ، نتائج الفكر ص، 330-331.
(82) شرح الكافية 1/83.
(83) المصدر السابق 1/84، وينظر: الكشاف 4/291.
(84) شرح الكافية 1/204.
(85) شرح الكافية 1/99.
(86) البيان والتبيين 1/87.