________________________________________
الجملة
مدخل:
هي الوحدة البنائية الثانية في عملية الكتابة، وتمثل الخطوة الأولى التي يخطوها المنشئ، وبناء الجملة بناء صحيحًا خاليًا من الخلل والزلل يستوجب عدة أمور -كشروط مبدئية- ينبغي الوعي بها:
أولها: وضوح المضمون المراد التعبير عنه في ذهن الكاتب.
وثانيها: إدراك العلاقة بين مفرداتها بما يخدم هذا المعنى من حيث التقديم والتأخير، فهناك خيارات متعددة أمام الكاتب في ترتيب الكلمات، وهذه ليست مسألة نحوية فحسب، ولكنها تتعلق بطاقة التوصيل، أي ما يريد الكاتب أن يتركه من أثر في نفس المتلقي "القارئ أو السامع فالصحة النحوية قد تتوفر في أشكال متعددة من بناء الجملة وترتيب المفردات فيها، ولكنها ليست الفيصل في قدرة الجملة على تحقيق الأثر المطلوب في المتلقي، فعلى سبيل المثال، نقول: تدفقت المياه غزيرة في مجرى النهر، ونقول: أيضًا: المياه تدفقت في مجرى النهر غزيرة، وما إلى ذلك من صيغ وأشكال تتصف جميعها بالصحة النحوية، ولكنها في كل مرة تترك أثرًا مغايرًا -عن المرة السابقة- في نفس القارئ، لأن الجزء المتقدم من الجملة يكون هو المقصود بلفت الانتباه، وهذه مسألة بلاغية ينبغي الوعي بها.
وثالثها: فهم السياق الذي ترد فيه الجملة سواء كان هذا السياق لغويًّا محضًا أو نفسيًّا وجدانيًّا أو فكريًّا، فالسياق اللغوي حيث تكون الجملة واردة في إطار متن لغوي معين يؤدي إلى تغيير دلالتها أحيانًا فعلى سبيل المثال: إذا جاءت جملة خبرية في سياق كلام ساخر تنتقي دلالتها الإخبارية المألوفة، وتكتسب معنى جديدًا يتناسب مع هذا السياق، فإذا قال قائل:
(1/62)
________________________________________
"أنت رجل عظيم بحق؛ ولكنك لا تدرك أكثر من مدى أنفك" فالمفهوم من هذا السياق أن المقصود بجملة "أنت رجل عظيم" ليس المدح بل الذم والسخرية في حين أن دلالة الجملة منفصلة عن سياقها تفيد المدح والتعظيم، وهذا أمر لا بد من أن يدركه الكاتب من خلال دراسته لعلوم البلاغة، وقد تتحول الجملة الإنشائية عن معناها إلى معنى آخر جديد تصبح فيه ذات طابع إخباري.
تعريف الجملة:
أولًا: تعرَّف الجملة في كتب النحو بأنها ما تكوَّن من كلمتين أو أكثر وله معنى مفيد مستقل. وهناك تعريف آخر هو "الجملة مركب إسنادي أفاد فائدة"، والجملة نحويًّا تنقسم إلى اسمية وفعلية كما هو معروف، والاسمية تتكون من مبتدأ وخبر، وفي البلاغة يطلق على المبتدأ اسم "المسند إليه" والخبر هو "المسند"، أما في الجملة الفعلية فإن الفعل هو "المسند", والفاعل هو "المسند إليه" وما زاد على ذلك في الجملة الاسمية أو الفعلية فهو "فضلة".
مثال ذلك في الجملة الاسمية: الأصيل أصيل في الشدة والرخاء.
المسند إليه: الأصيل.
المسند: أصيل.
هي الشدة والرخاء: فضلة.
وفي الجملة الفعلية: تظهر معادن الرجال في الملمات.
المسند: تظهر.
معادن الرجال: مسند إليه.
في الملمات: فضلة.
وتنقسم الجملة بلاغيًّا إلى قسمين: الجملة الخبرية والجملة الإنشائية.
(1/63)
________________________________________
فأمَّا الخبرية فهي تحتمل الصدق أو الكذب، والجملة الإنشائية لا تخضع لهذا المقياس، وهي إما طلبية كالأمر والنهي والاستفهام والنداء، والتمني والعرض والتحضيض؛ وإما غير طلبية كالقسم والترجي والمدح والذم، ولا نريد أن نفيض في الحديث عن ذلك لأنه يدخل في نطاق البلاغة، ولكن لا باس أن نشير إلى ما ذكره ابن قتيبة الدينوري عن أقسام الكلام حيث قال:
"الكلام أربعة: أمر وخبر واستخبار ورغبة: ثلاثة لا يدخلها الصدق والكذب وهي الأمر والاستخبار "الاستفهام" والرغبة وواحد يدخله الصدق والكذب وهو الخبر1.
ثانيًا: وتعرَّف الجملة في مؤلفات بعض المحدثين2 بأنها طريقة التلفظ التي تكون معنى عامًّا في السياق الذي تكون فيه، ومن ثم فهي الملفوظ بين موقفين من مواقف النفس. وهذا التعريف غير مألوف في الكتب العربية ويقصد به أن الجملة هي التي تفضي بمعنى عام والتي تنحصر بين وقفتين في سياق ممتد، وقد تتكون من أكثر من جملة بالمعنى النحوي، وتعني بالتركيز على التلفظ أي "الحكي". والأصح التركيز على المنطوق وليس على طريقة التلفظ.
وتنقسم الجملة وفقًا لذلك إلى عدة أقسام:
1- الجملة ذات البنية الأولية: وهي جملة بسيطة تتضمن فائدة جزئية، ولا تخرج عن التركيب النحوي للجملة وفقًا للنسق الذي أشرنا إليه، كقول رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "الدين المعاملة".
__________
1 ابن قتيبة: أدب الكاتب، تحقيق محمد الدالي، مؤسسة الرسالة، بيروت ط2 سنة 1986م.
2 محمد علي أبو حمده: فن الكتابة والتعبير، مكتبة الأقصى، عمان عام 1981 ص132.
ويعرفها إبراهيم أنيس في كتابه "من أسرار اللغة" أقل قدر من الكلام يفيد معنى مستقلًّا بنفسه سواء تركب هذا القدر من كلمة واحدة أو أكثر "ص 277/276".
(1/64)
________________________________________
2- الجملة ذات البنية المركبة: وهي تلك التي تتكون من أكثر من جملة بسيطة ترتبط فيما بينها بأدوات الربط المعروفة، ولا يكتمل معنى الجملة الأولى إلا ببقية الجمل. والوحدة التي تجمع بين هذه الجمل المتعددة هي الوحدة الفكرية أو المنطقية، فالسياق المعنوي لها واحد، وغالبًا ما تكون دالة على حدث متماسك.
ومثال ذلك ما ورد في القرآن الكريم: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود:44] .
3- الجملة المتداخلة أو المعقدة: حيث تتكون الجملة من عدة جمل بسيطة تدور حول قضية تتداخل فيها الأفكار بحيث لا يكتمل المعنى إلَّا بالربط بيهما في سياق واحد.
مثال ذلك قوله الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ، ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ، مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:205-207] .
4- الجملة الاحترازية: وهي التي لا يتم معناها إلا باكتمال سياقها كله، فإذا حذف منها جزء أدت معنى أخر مغايرًا قد يكون مناقضًا للمعنى المقصود كقول الله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43] .
5- الجملة المفتوحة الفضفاضة: وهي الجملة التي يمكن الإضافة إليها والتقديم والتأخير فيها دون أن يتأثر المعنى، ويكون الرابط الأساسي فيها هو واو العطف.
(1/65)
________________________________________
(الرسول كالبدر وضاؤه في نوره، الإيمان يشع منه، وكالبحر في عطائه الذي لا ينفذ، وكالسيف في مضائه ... إلخ) .
دنا ظَبْيًا، وغنى عندليبًا ... ولاح شقائقًا ومشى قضيبا
فإنه يمكن أن تجعل الجملة الثانية مكان الرابعة والثالثة مكان الأولى، دون أن يتغير المعنى ولا الوزن.
6- الجملة الاستطرادية: وهي الجملة ذات التفاصيل التي تبدأ بفكرة محورية يتم تفريعها بعد ذلك كقولنا مثلًا:
"الجملة كلام مفيد، أما الفائدة، فنسبية تطرد قيمها بأهمية محتوياتها، وتسمى الجملة المجملة، ومنها قول الله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [آل عمران:106] 1.
وأما الجملة من حيث طولها أو قصرها فإن الأسلوبيينَ يميزونَ بينَ هذينِ النوعين؛ فمنهم من يميل إلى النوع الثاني، ومنهم من يميل إلى النوع الأول، والجمل الطويلة أنماط عدة منها نمطان رئيسيان هما:
النمط المتسلسل: الذي يقدم فيه المسند إليه، ويأتي بعد ذلك الإخبار عنه في سلسلة من الجمل المتصلة بعضها ببعض كقولنا: "ليس الاعتداد بالذات من قبيل الغرور المحض؛ بل هو في حقيقة الأمر ضروب وألوان؛ فالثقة بالنفس نوع من الاعتداد بالذات، ولكنها صفة محمودة تجعل الإنسان قادرًا على مواجهة الأحداث بقوة، لا يتزعزع ولا يهتز".
__________
1 استفدت بشكل أساسي - في هذا المجال "أنواع الجمل" من كتاب:
الدكتور محمد علي أبو حمدة: فن الكتابة والتعبير، عمان مكتبة الأقصى سنة 1981م.
(1/66)
________________________________________
فالاعتداد بالنفس في هذه الجملة هو الركن الأساسي "المسند إليه" جاء الأخبار عنه في هذه السلسلة المتصلة من الجمل التي تنبع من بعضها البعض في سياق ممتد متصل.
النمط المتصاعد: هو الذي يقدم فيه جزء من أجزاء الجملة، وخصوصًا متمماتها كالظرف والجار والمجرور، ويستبقي أساسها إلى النهاية كقولنا: "في الوقت الذي نجهد فيه أنفسنا في البحث عن السعادة: أين مكمنها؟ ومتى نجدها؟ وما سرها؟ لا نلبث أن ندرك إدراكًا جازمًا أنَّها في طَمْأَنِينَةِ النفس وسكونها التي لا تتأتى إلا بالتقوى والخضوع لله".
فالتصاعد هنا يأتي من تعليق الإخبار، واستبطائه حتى النهاية، فنحن لم نجب عن ماهية السعادة إلا في آخر الجملة1.
وهناك مقومات ينبغي أن تتوفر الجملة المختارة، وقد أفاضت كُتُبُ البلاغة القديمة في تتبع هذه المقومات ورصدها والتمثيل لها، ولكننا لن نتوقف عندها طويلًا لضيق المقام وسنشير إلى أربعة مقومات تتمثل في:
أولًا: الالتزام بقواعد اللغة، وعدم الخروج عليها إلا وفق رؤية محددة لها ما يبررها من حيث الاشتقاق أو تطور الدلالة؛ أما السياق الإعرابي للكلمات فينبغي أن يُلْتَزَمَ، وهذا يندرج فيما سبق أن أشرنا إليه من أن الإعراب فرع المعنى. وهناك انحرافات في التشكيل، وخصوصا في بناء الصورة لها وظيفتها، بل إن هذه الانحرافات في مجملها تمثل نسقًا أسلوبيًّا به تتمايز طرائق التعبير.
ثانيًا: مناسبة الجملة لموقعها من النص طولًا أو قصرًا، تشكيلًا أو تنظيمًا، ويستحسن الإيجاز والإحكام في البناء، ولكن بعض السياقات تحتاج إلى جمل طويلة، وخصوصًا إذا تضمنت مادة علمية تحتاج إلى إفاضة في التوضيح والتفصيل.
__________
1 راجع شكري محمد عياد: مدخل إلى علم الأسلوب، دار العلم للطباعة والنشر الرياض، سنة 1403، 1983ص61.
(1/67)
________________________________________
ثالثًا: البعد -ما أمكن- عن الإكثار من أدوات الربط، وإذا كان لا بد منها فمن الضروري أن تكون في موضعها الصحيح، وأن تتوفر فيها دقة المعنى.
رابعًا: البعد عن الأنساق العامية في بناء الجملة، كالتراكيب المألوفة في لهجة الحديث اليومي مثل: الجمل المبتورة أو المترهلة، أو الناقصة فكثيرًا ما يحدد الموقف طبيعة الكلام الشفاهي، ويؤثر على طريقة الصياغة، فالنقص تكمله الإشارات أو قسمات الوجه وانفعالاته.
خامسًا: أن تتوفر فيها شروط الفصاحة التي أسهبت في الحديث عنها الكتب القديمة، وقد عقد ابن سنان الخفاجي1 لها فصلين كاملين استغرقا نحوًا من مائتي صفحة وقسمها إلى ما ينبغي أن يتوفر في اللفظة الواحدة، وما ينبغي أن يتوفر في التراكيب. وأهم الشروط التي أشار إلى وجوب توفرها في التراكيب: اجتناب تكرار الحروف المتقاربة في تأليف الكلام، وحسن التأليف في السمع بترادف الكلمات المختارة وتواترها، وهذا الشرط مرهون بذوق العصر الذي ألف فيه الكتاب، فلم يعد الترادف هدفًا في حد ذاته فيما يختص بالكتابة المعاصرة، ثم وضع الألفاظ مواضعها حقيقة أو مجازًا لاينكره الاستعمال ولا يبعد فهمه، فلا يكون هناك تقديم أو تأخير يفسد المعنى ويصرفه عن وجهه وإلا تقع الكلمة حشوًا، وهذا يتفق مع المزاج العصري في الإبداع حيث ينكر على الكاتب الترهل في لغته، وألا يكون الكلام شديد المداخلة يركب بعضه بعضًا -على حد تعبير ابن سنان الخفاجي- وهذه هي المعاظلة التي أشار إليه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حين وصف زهير بن أبي سلمى بتجنبها فقال: "كان لا يعاظل بين الكلام" ومن المعاظلة قول أوس بن حجر:
وذات هدم عارٍ نواشرها ... تصمت بالماء تولبا جدعا
__________
1 راجع ابن سنان الخفاجي، سر الفصاحة، دار الكتب العلمية، بيروت 1982م من ص 58 إلى ص 234.
(1/68)
________________________________________
والهدم: الثوب البالي، والنواشر: عروق باطن الذراع، والجدع سيء الغذاء وقد سمى الشاعر الصبي تولبًا، والتولب ولد الحمار وهذا من قبيل المداخلة وهناك غلط آخر أكثر وضوحًا، حث تتشبث الألفاظ بعضها ببعض، كما في قول أبي تمام:
خان الصفاء أخُ خان الزمان أخًا ... عنه فلم يتخون جسمه الكمد
لم يتخون: لم ينقص
فالكلمة تدخل في تركيب متواتر مع كلمات أخرى تجانسها وتشابهها خان وخان ويتخون وأخ وأخا. والأمثلة على ذلك كثيرة.
ومن شروط الفصاحة أيضًا البعد عن الاستطراد غير المبرر، وعدم استخدام ألفاظ المتكلمين والنحو بين العلماء في الشعر والرسائل والخطب، ومن ذلك المناسبة بين الألفاظ في الصياغة كقول المتنبي:
وقد صارت الأجفان قرحًا من البكا ... وصار بهارًا في الخدود الشقائق
وحين اعترض عليه أبو الفتح ابن جني العالم الغوي الشهير واقترح استبدال كلمة "قرحى" بـ "قرحا" رد عليه المتنبي: إنما قلت قرحًا لأني قلت بهارًا "والبهار زهر أصفر". فهذا مثال على المناسبة من طريق الصياغة فقرحًا تشاكل بهارًا في حين "قرحى" لا تشاكلها وقد أضاف ابن سنان إلى ذلك ضرورة الوضوح واستشهد بقول بشر بن المعتمر في وصيته المشهورة للكاتب: إياك والتوعر في الكلام فإنه يسلمك إلى التعقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك ويمنعك مراميك1، وقد أضاف ضياء الدين ابن الأثير إلى ذلك التعقيد اللفظي والمعنوي وهو متضمن في حديثه عن الغموض2.
__________
1 راجع: أبو محمد عبد الله بن محمد بن سنان الخفاجي: سر الفصاحة، دار الكتب العلمية، بيروت سنة 1982م ص170 ومراميك: مقاصدك.
2 راجع: د/ عبد الواحد حسن شيخ: دراسات في البلاغة عند ضياء الدين بن الأثير مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية.
(1/69)
________________________________________
الفقرة
تعريف الفقرة:
مجموعة من الجمل المترابطة تدور حول فكرة واحدة وتعالجها تفصيلًا وتطويرًا والأصل اللغوي يفيد شيئًا من هذا المعنى، فالفِقْرَة بكسر الفاء عبارة عن حِلية مصاغة على شكل فقرة من فقرت الظهر1، وكما هو مَعْرُوفٌ فَإِنَّ كل فقرة ترتبط مع غيرها من الفقرات لتؤدي معًا وظائفها المنوطة بها، وتتفاوت الفقرات في الطول وفقًا للفكرة المطروحة لكن من المستحسن أن تتناسق فقرات النص من حيث الطول "تفصيلًا أو إجمالًا".
الشروط التي ينبغي أن تتوفر في الفقرة الجيدة:
أولًا: تناسق الفقرة وانسجامها مع الفكرة التي تعالجها والانضباط داخل سياق محدد خالٍ من الاستطراد والتشعب الذي يفضي إلى التشتت والفوضى والتشويش، لذا ينبغي أن تكون كل جملة داخل الفقرة موظفة لخدمة الفكرة الأساسية، وأي جملة زائدة لا تخدم الهدف تهدد وحدة الفقر وتخرج بها عن محورها الأصلي.
ثانيًا: أن يكون الهدف من توالي الجمل داخل الفقرة تطوير الفكرة وتنميتها وبلورتها، وليست مجرد تراكم إنشائي أو تداعيات لغوية تؤدي إلى تَرَهُّل الفقرة ومن ثم هلهلتها فكثيرًا ما تكون الجمل داخل الفقرة مجرد إضافات كمية لا تطور الفكرة فتصبح مملة وغير مستساغة.
__________
1 في لسان العرب: فقر: حفر، وفقر الشيء: حزه وأثر فيه، والفقر الحز والشق الْفُقُر االآبار المتناسقة التي ينفذ بعضها إلى بعض.
(1/70)
________________________________________
ثالثًا: الترابط العضوي داخل الفقرة على مستوى الصياغة اللغوية كمقابل للترابط المعنوي، لأن هذين الشكلين من أشكال الترابط متعاضدان، لا يتم أحدهما إلا بالآخر، ويتوفر هذا النوع من الترابط بواسطة أدوات الربط اللفظية والمعنوية على النحو الذي أشرنا إليه.
رابعًا: الانتظام الحركي داخل الفقرة بشكل منطقي وطبيعي، مما يوفر نوعًا من السلامة والانسيابية داخل الفقرة، وبذلك بتنظيم الانتقالات الزمانية والمكانية والمعنوية. فعلى المستوى الزماني لا بد من تصور مسبق لسياقه، وتتبدى هذه القضية على نحو شديد الوضوح عند التعرض لكتابة القصة، فليس من الضروري أن تكون النقلات وفقًا للتسلسل الزمني، ولكن وفقًا لتصور الكاتب لرؤيته، أما في الكتابة الإجرائية والموضوعية فلا بد من التسلسل وتنظيمه والسيطرة عليه، وقس على ذلك أيضًا -الترتيب المكاني- وخصوصًا ما يتعلق بالوصف، فإذا كان هذا الوصف في إطار تصور إبداعي معتمد على اختيار الموصوف لتأدية غرض معين فلا قيد عليه على أن يتم ضمن تصور معين، أما إذا كان ضمن موضوع إجرائي، فينبغي المحافظة على التسلسل والترتيب في الانتقال من جزئية إلى أخرى.
وفي الكتابة الموضوعة ينبغي مراعاة الانتقال من الخاص إلى العام أو من العام إلى الخاص وفقًا للمنهج الذي يرتضيه الكاتب، فإذا كان المنهج استقرائيًّا يبدأ الكاتب بالخاص متمثلًا بالتتبع للتفصيلات الجزئية وصولًا إلى النتيجة العامة، أما إذا كان المنهج استدلاليًّا بمعنى أنه يعتد على إقرار القاعدة -أولًا- ثم سرد الشواهد والأدلة، فإن الانتقال يكون من العام إلى الخاص.
ويدخل في هذا الإطار الانتقال من السؤال إلى الجواب، أو من الفرض إلى السؤال ثم إلى الجواب، فقد يطرح الكاتب سؤالًا لإثارة ذهن القارئ ثم يشرع في الإجابة على السؤال، وقد يكون الغرض سابقًا على السؤال إذ يفترض
(1/71)
________________________________________
الكاتب عدة فروض ثم يثير مجموعة من الأسئلة تكون الإجابة عليها بالموازنة بين هذه الفروض، فتكون حركة الفقرة دائرية محكمة، وكل ذلك يكون في الكتابة الإجرائية عادة.
خامسًا: خلو الفقرة من التكرار اللفظي والمعنوي، وقد سبق أن أومأنا إلى ضرورة أن تكون الفقرة محددة، ومتناسقة، والتحديد والتناسق لا يتمان إلا بانتفاء التكرار من الفقرة، لأن التكرار يخل بتوازن الفقرة ويقود إلى الركاكة والضعف، ونستثني من ذلك التكرار البلاغي الذي يخدم غرضًا معينًا.
سادسًا: تنظيم حركة الضمائر وفقًا للسياق النحوي والمعنوي بحيث يكون الاقتصاد في ذكر الضمائر من الأمور التي تؤخذ بعين الاعتبار، كما أن الانتقال من ضمير إلى آخر ينبغي أن يتم من خلال تصور يخدم الغرض من الفقرة.
(1/72)
________________________________________
بناء الفقرة
تتكون الفقرة من عدة جمل، وهذه الجمل تتفاوت في أهميتها وقدرتها على الإفضاء بالمعنى المحوري في الفقرة، ولهذا رأى بعض الباحثين أن الفقرة تتكون عادة من جملة رئيسية تؤازرها عدة جمل: بعضها أولي يتلوها في الأهمية، والبعض الآخر ثانوي يفصل ما جاء فيها ويوضحه1، ومن أمثلة ذلك قولنا:
الخلق عماد الرجولة وهو أنواع متعددة: عملي يتبدى في السلوك والأفعال ونظري قارٌّ في النفس، وهو مناط التقويم، فإذا كان سيئًا يدل على خِسَّةٍ في الطبع وحقارة في التعامل كان صاحبه مجردًا من صفات الرجولة، أما إذاكان دمثًا يدل على النخوة والشهامة اعتبر صاحبه ممن اكتملت فيهم عناصر الرجولة.
الجملة الرئيسية في الفقرة هي: الخلق عماد الرجولة:
الجملة الداعمة الأولية الأولى: وهو أنواع متعددة، وما بعدها يعتبر من الجمل الداعمة الثانوية.
الجملة الداعمة الأولية الثانية: وهي مناط التقويم، وما بعدها جمل داعمة ثانوية.
وهكذا فإن هذه الفقرة القصيرة تحتوي على جملة رئيسة هي محور الفكرة التي تدول حولها الفقرة بكاملها، وجملتين داعمتين أوليتين يتفرع إليهما المعنى الرئيسي، وجمل أخرى ثانوية تفصل هذه المعاني وتوضحها.
وقد تكون الجملة الرئيسية في أول الفقرة، أو وسطها وفقا للنسق الفكري "المعنوي في الفقرة"وقد تتعدد الجمل الداعمة الأولية، والجمل الداعمة الثانوية حسبما يقتضيه الموقف.
__________
1 راجع لمزيد من التفاصيل: د/ محمد علي الخولي، المهارات المدرسية، عكاظ للنشر والتوزيع، جدة سنة 1401هـ سنة 1981م ص 73.
(1/73)
________________________________________
الأسلوب
الأسلوب في أبسط تعريف له هو المنحى الخاص الذي ينتهجه الكاتب في التعبير عما يريد الإفصاح عنه، ولا يصبح الكاتب أديبًا إلا إذا كان له أسلوبه الخاص، ولكي نلقي مزيدًا من الضوء على معنى الأسلوب لا بد من استعراض مختلف الاتجاهات في تعريفه:
يرى فريق من العلماء أن الأسلوب اختيار يقوم به المنشيء لسمات لغوية معينة بغرض التعبير عن موقف، ومجموعة الاختيارات الخاصة بالكاتب هي التي تشكل أسلوبه الذي يمتاز به عن غيره من المنشئين، وليس المقصود بالاختيار هنا الاختيار النفعي الذي يدفع بكاتب معين إلى انتقاء كلمات معينة بهدف الوصول إلى غرض خاص، وإنما المقصود بالاختيار هنا الاختيار النحوي الذي يتعلق بقواعد اللغة بمفهومها الشامل صوتيًّا وصرفيًّا ودلاليًّا ونظميًّا، فالأسلوب خاصة لغوية فردية تمثل نمطًا شخصيًّا من أنماط التشكيل اللغوي كما يقول بعض النقاد1.
ويرى فريق آخر أن الأسلوب قوة ضاغطة تتسلط على حساسية القارئ بواسطة إبراز بعض عناصر الكلام، وحمل القارئ على الانتباه إليها2.
ويرى فريق ثالث أن الأسلوب هو الاستعمال الأدبي الخاص للغة3.
وقد عمد بعض المؤلفين من البلاغيين والنقاد العرب القدامى إلى تعريف الأسلوب فكانت لهم نظراتهم العميقة الصائبة في هذا المجال.
__________
1 د. وليد قصاب، دراسات في النقد الأدبي، دار العلوم، الرياض 1983ص 38.
2 راجع الدكتور سعد مصلوح: الأسلوب - درسة لغوية إحصائية دار الفكر العربي جـ1، سنة 1984. ص 23 وما بعدها.
3 راجع: الدكتور شكري عباد: مدخل إلى علم الأسلوب، دار العلوم، الرياض سنة 1983م ص 40.
(1/74)
________________________________________
يعرِّف ابن خلدون الأسلوب بأنه "صورة ذهنية للتراكيب المنتظمة كلية باعتبار انطباقها على تركيب خاص، تلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب وأشخاصها ويصيرها في الخيال كالقالب أو المنوال، ثم ينتقي التراكيب الصحيحة عند العرب باعتبار الإعراب والبيان، فيرصها فيه رصًّا كما يفعل في القالب أو النساج في المنوال".
أما حازم القرطاجني -وهو من أبرز البلاغيين والنقاد العرب القدامى- فيرى أن الأسلوب هيئة تحصل عن التأليفات المعنوية، والنظم هيئة تحصل عن التأليفات اللفظية.
ويرى سيد قطب -رحمه الله- أن الصورة اللفظية الموحية المثيرة للانفعال الوجداني في نفوس الآخرين هي قوام العمل الأدبي، ويعني بالصورة اللفظية الأسلوب الذي يميز العمل الأدبي ويتحدث عما يسميه القيم الشعورية والقيم التعبيرية، وهو ما يقابل التأليفات المعنوية والتأليفات اللفظية عند القرطاجني1.
ولعل من المفيد أن نتتبع الجذر اللغوي لمعنى الأسلوب، حيث يقول ابن منظور في "لسان العرب": يقال للسطر من التخيل، وكل طريق ممتد فهو أسلوب، فالأسلوب الطريق والوجه والمذهب، يقال أنتم في أسلوب سوء ... والأسلوب الطريق تأخذ منه، والأسلوب الفنن يقال أخذ فلان في أساليب من القول، أي في أفانين منه2.
أما في اللغات الأوروبية فقد اشتقت كلمة أسلوب من الأصل اللاتيني "Stillus" وهويعني "ريشة" ثم انتقل عن طريق المجاز إلى مدلولات تتعلق بالكتابة فدل على المخطوطات، ثم أصبح يشير إلى صفات اللغة المستعملة من
__________
1 سيد قطب: النقد الأدبي- أصوله ومناهجه، دار الشروق، القاهرة، 5. ت ص7 ثم ص 19 وما بعدها.
2 لسان العرب لابن منظور. مرجع سابق.
(1/75)
________________________________________
قبل الخطباء والبلغاء، وأخذت كلمة "Style" التي هي بمعنى أسلوب تنصرف إلى الخواص البلاغية المتعلقة بالكلام المنطوق، وتشير إلى بعض الخواص الكلامية1.
وقد أوجز علماء الأسلوب وهو "جيراد", المقصود بالأسلوب فقال: الأسلوب هو مظهر القول الذي ينجم عن اختيار وسائل التعبير، هذه الوسائل التي تحددها طبيعة ومقاصد الشخص المتكلم أو الكاتب.
وقد شحه في خمسة حدود وهي:
1- أ- حدود التعبير، فالتعريفات المتعلقة بالأسلوب تتنوع لتشمل فن الكتابة بالمعنى التقليدي.
ب- طبيعة الكاتب، أي الاختيار المعنوي اللاشعوري الذي يعبر عن مزاج الكاتب وتجربته.
ج- الموقف الإنساني الكلي ورؤية العالم متجاوزة بذلك الصيغ اللغوية.
د- وسائل التعبير بما في ذلك الأبنية النحوية والصوتية والصرفية والمعجمية والتركيبية، وإجراءات التركيب من شعورية وقصصية ومسرحية ووصف وما إلى ذلك، والفكر بشكل شامل من موضوعات ورؤى ومواقف فلسلفية من العالم.
2- طبيعة التعبير كالقيم العقلية والتعبيرية والانطباعية.
3- مصادر التعبير: المصدر الحسي والنفسي طبقًا للأمزجة والحالات النفسية والمصدر الوظيفي أيضًا.
4- مظهر التعبير كشكل التعبير سواء كان موجزًا أو تصويريًّا أو استطراديًّا.
__________
1 انظر: د/ صلاح فضل: علم الأسلوب مبادؤه وإجراءاته، النادي الثقافي بجدة ط3 سنة 1988م ص 106.
(1/76)
________________________________________
وجوهر التعبير سواء كان رقيقًا أو حزينًا أو نشطًا، وشكل المتكلم وموقفه، فهناك أسلوب قديم، وآخر شعري، وثالث حديث، غلى غير ذلك من التصنيفات المختلفة1.
صفات الأسلوب الجيد:
ليس هناك صفات محددة للأسلوب الجيد فكل تجربة أدبية تستلزم بالضروة نوعًا من الأساليب التي تلائمها، كما أن التجربة الفنية هي التي تحدد نوع الأسلوب المطلوب، فضلًا عن أن المزاج الأدبي السائد في مرحلة من المراحل يقتضي خصائص أسلوبية معينة لها تراكيبها ومنحاها النظمي والصياغي، كما أن الدرس النقدي المعاصر يرى أن القوالب التعبيرية المسبقة لا تلائم ذوق العصر؛ ويذهب إلى أنه بقدر ما يخرج الكاتب في تشكيله للغته على القوالب النمطية السائدة والجاهزة، وينحرف عنها بقدر ما يكون ذلك دالًّا على تميزه بل، وعلى تفوقه أيضًا.
وقد حاول بعض الكتاب والدارسين وضع معايير خاصة بالأسلوب الجيد، فذهبوا إلى أن الوضوح هو أول شرط من شروط الأسلوب المتميز، فالأسلوب يجب أن يكون واضحًا مفهومًا، والمصدر الأول للوضوح هو عقل الكاتب فإذا كان متمثلًا لما يريد أداءه تمثلًا جيدًا كان أسلوبه جيدًا، لأن الوضوح صفة عقلية في الدرجة الأولى، والتعبير اللغوي يتطلب من المنشيء ثروة لغوية وقدرة على التصرف في التراكيب والعبارات، وإذا كانت الفكرة غامضة فإن ذلك يرجع إلى قصور الكاتب عن تمثلها وفهمها. وقد يكون المتلقون في مستوى ضعيف من حيث الثقافة والوعي، وهنا تبرز قيمة مطابقة الكلام لمقتضى الحال، لذلك ينبغي على الكاتب أن يراعي مستوى المتلقي، وهذا موضع خلاف بين الدارسين
__________
1 انظ: دكتور صلاح فضل: علم الأسلوب مبادؤه وإجراءاته النادي الثقافي بجدة، ص 3 صنة 1988م، ص 145 وما بعدها.
(1/77)
________________________________________
والنقاد، فالكثير منهم يرى أن المتلقي لا يوضع في اعتبار الكاتب أثناء العملية الإبداعية، وأن الغموض الشفيف من الضروري أن يكون سمة من سمات الأسلوب، والوضوح التام ضار بالعمل الأدبي لأنه يسلبه القدرة على إحداث الدهشة والإثارة والتفاعل.
وهناك خطوتان لازمتان لتحقيق الوضوح في الأسلوب:
الخطوة الأولى: تتعلق بالأفكار وهي الدقة في اختيار الكلمات المؤدية للغرض، والاستعانة بالعناصر النحوية والبلاغية الموضحة للمعنى، واستخدام الكلمات المتضادة في المعنى إذا كانت تساعد على ذلك.
أما الخطوة الثانية: فهي التلاؤم والتناسب وتتمثل في مطابقة الأسلوب لمستوى إدراك القارئ أو التلقين من هنا يجب أن تكون التراكيب بسيطة شفافهة بعيدة عن التعقيد والتعويص ومراعاة الفصل والفصل، ومواقع حروف الربط، ومواطن الإيجاز الإطناب.
واعتبر النقاد أن القوة خصيصة هامة ينبغي أن تتوفر في الأسلوب، بالإضافة إلى الوضوحن والقوة - فيما يرون- صفة نفسية يراد بها إثارة العواطف والتغلغل في النفوس ولا تتأتى إلا بصحة الفهم وصدق المعتقد، وتتمثل القوة في الصورة الفنية، فهي تطلق طاقة الإيحاء والإشعاع وتنتشر الظلال النفسية، وتكون القوة كذلك في التراكيب عن طريق التقديم والتأخير الذي يخدم غرضا فنيا وقد خاض البلاغيون القدامى والمحدثون في هذا الأمر، وتحدثوا عن الحذف والذكر، والتنكير والتعريف، وأثر ذلك في قوة الأسلوب واستدلوا بنصوص من القرآن الكريم والشعر العربي القديم، وأشاروا إلى أن السباق قوة تحريك التركيب فتبعث من إشعاعاته ما يلائم، فالتركيب تختبيء في خصائصه وأحواله إشارت ودلالت مختلفة وأن السياق هو الذي يستخرج من هذه الخصائص مقضياته، وكأن التركيب النفيس أشبه بقطعة من معدن
(1/78)
________________________________________
نفيس يشعُّ ألوانًا متكاثرة كلما أدرتها إدارة جديدة، والسياق هو القوة التي تحرك هذه القطعة لتشيع من ألوانه ما يراد إشعاعه1.
أما فيما يتعلق بالإيجاز فقد أوشك أن يجمع النقاد والبلاغيون على أن الأسلوب الموجز المقتضب من أكثر مظاهر القوة وضوحًا.
وتظل القوة مصطلحًا عائمًا ليس له صفة التحديد العلمي ما لم يتجسد بتحقيقه في النص من خلال خصائص أسلوبية واضحة، ولا يصلح معيارًا تتحقق به سلامة الأسلوب من حث الجودة أو الرداءة.
أما صفة الجمال التي يشترطها البعض كبعد ثالث من أبعاد الجودة في الأسلوب فإن تحديدها أمر غير ممكن، فهناك علم بأكمله يبحث في الجمال هو علم المال "الإستطيقا" وله أصول فلسفية تختلف من مدرسة لأخرى، ومن مرحلة لمرحلة، ومن فن لفن، ومن نوع أدبي لآخر، وليس المقصود بالجمال تلك الزينة اللفظية التي تتحدث عنها كتب البلاغة في باب البديع، أو التي يتناولها البلاغيون في كتبهم، فالجمال يكون بالكشف عن أسرر النفس والتحليق في سماء الخيال عبر وسائل وتقنيات تختلف باختلاف الأنواع الأدبية1.
كيف يكون للكاتب أسلوبه الخاص؟؟
ليس هناك خطة جاهزة يمكن بواسطتها الوصول إلى تحقيق هذا المطلب، لأن خصوصية الأسلوب تعني التفردَّ والتميز، وهو ما لم يحظَ به إلا فئة من الكتاب
__________
1 د/ محمد أبو موسى: دلالات التراكيب دراسة بلاغية، مكتبة وهبه، القاهرة، 1979م ص 253 وقد عالج الكاتب التراكيب والسياقات التي تتأتى بها قوة المعنى في كتابه خصائص التراكيب دراسة تحليلية لمسائل علم المعاني، مكتبة وهبه، القاهرة 1980م.
2 تناول أحمد الشايب هذه الصفات الثلاث بشيء من التفصيل وبشكل يوحي بالمعيارية الثابتة، وقد استفدت منه، وعلقت على طروحاته فيما سبق راجع: أحمد الشايب: الأسلوب دراسة بلاغية تحليلية الأصول الأساليب الأدبية الطبعة السابعة، مكتبة النهضة المصرية، مصر سنة 1976م من ص 185 إلى ص 203.
(1/79)
________________________________________
الموهوبين الذين حَبَاهم الله -سبحانه وتعالى- بسطة في العلم، وسعة في الاطلاع، وقيل هذا وذاك موهبة فطرية وملكة إبداعية، ولكن هناك ما يمكن أن يتلمسه المرء من أجل الوصول إلى هذا المقصد. وأول الطريق تكمن فيما يلي:
أولًا: تربية ملكة الفهم والتذوق والاستيعاب والتمثل أثناء الاطلاع والقراءة، بحيث لا يقتصر القارئ على مجرد الحفظ والترداد.
ثانيًا: يبدأ الكاتب مقلدًا لغيره-عادة- ثم ينفرد بأسلوبه الخاص، فعليه أن يختصر فترة التقليد وأن يبحث عن شخصيته الخاصة، ولا يتم ذلك إلا بالانفعال الصادق بالتجربة والتعبير عنها.
ثالثًا: في مرحلة تالية لابد للكاتب من الابتعاد عن اللوازم التعبيرية الشائعة على الألسن، أو الخاصة بكاتب أو أديب معين، بل لابد له من أن يطيل التأهُّل والمعاناة فيختار ما يلمح فيه الجدة والابتكار، ويأتي ذلك بطول التأمل وبالاختيار المتمرس، وبإطلاق العنان للخيال ومداومة النظر في كتب اللغويين والأدباء والقدماء والمحدثين.
رابعًا: على الكاتب ألا يتسرع في نشر محاولااته الأولى، بل لا يتعَّجل إذاعة ما يكتب في الناس، وإنما يلتمس المشورة لدى الأدباء والمختصين، وألا يأنف من النقد مهما كان قاسيًا ولا يزورُّ عنه، وتجارب كِبَارِ الْكتاب والأداء تفيد أنهما تعرضوا لانتقادات قاسية في بداياتهم الأولى، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ مزق مئات الصفحات مما كتب قبل أن ينشر حرفًا على الناس1.
__________
1 وخير شاهد على ذلك ما رواه الشاعر إبراهيم طوقان عن تجربته الخاصة إذ يقول: "كنت قد توقفت في قصيدة ملائكة الرحمة، وسمعت كثيرًا من كلمات الإعجاب بها فخيل إلى أن كل قصائدي في المستقبل ستكون مثلها مدعاة للإعجاب! وَأَخَذْت في نظم قصيدة غزلية وأنا مفعم بزهوي وخيلائي، وَأَخْذت أغوص على المعاني وأتفنن في الألفاظ!! وكان يشرف على نشأتي الأدبية اثنان لأسمع إعجابهما وأنتشي به، وَتَلَوْتُ الْقَصِيدَةَ عَلَيْهما، وظفرت بالْإِعْجَابِ، وَتَرَكَانِي، وَعَادَا إِلَيَّ بعد قليل قال أحمد: أخي أنا لا أفهم القصيدة جيدًا حين تتلى علي، أريد أن اقرأها بنفسي، فناولته القصيدة ودنا رأس سعيد من رأس أحمد وشرعا في قراءة صامتة ثم كانت نظرات تبادلاها، أحسست منها بمؤامرة ... وإذا بالقصيدة تُمَزَّق، وإذا بها تنسف في الهواء، قال أحمد هذه قصيدة سخيفة المعنى، ركيكة المبنى، قال سعيد: ليس من الضروري، أن تنظم كل يوم قصيدة. ديوان طوقان، مكتبة المحتسب، عمان، 1984ص8.
(1/80)
________________________________________
خامسًا: ممارسة النقد الذاتي، وعدم الرضا عن النفس أو الاستسلام لبريق الشهرة، أو للثناء المجامل، فالإنسان أدرى بنفسه وبمستواه، والكاتب يستطيع من خلال المراجعة والتمحيص أن يكتشف مكامن التقليد والثغرات في أسلوبه ويعمل على التخلص منها.
(1/81)
________________________________________
وسائل الربط
الربط الجزئي
الربط بين أجزاء الكلام
مدخل:
الربط بين أجزاء الكلام من المباحث المهمة التي تضع أيدينا على أسرار الكتابة وطرق التجويد فيها، وقد اهتم النقاد والبلاغيون والنحويون بدراسة أدوات الربط ووسائله، فكان مبحث "الفصل والوصل" الذي يعني بمواضع استخدام "الواو" وحذفها بين الجمل، كذلك مباحث حروف العطف وأدوات الربط الأخرى من أهم المباحث في البلاغة العربية والنحو العربي ومبحث الفصل والوصل صعب المسلك، لطيف المغزى، كثير الفائدة غامض السر، لا يوفق للصواب فيه إلا من أوتي خطًّا من حسن الذوق وطبع على البلاغة، فإن سبك الكلام ودقة أسره وشدة تلاحم أجزائه تحتاج إلى صنع صانع، وحذق حاذق ماهر يميز بين أقسام الجمل1.
وقد رأيت أن أتناول هذا الموضوع من زاويتين:
الأولى: الربط بين الكلمات والجمل والعبارات.
والربط بين الكلمات محوره أدوات العطف، أما الربط بين الجمل فقد يكون بأدوات العطف أو بواسطة العبارات وبحروف المعاني المختلفة. ومن المعروف أن كثر استخدام أدوات الربط يوهن العلاقة بين أجزاء الكلام ويخل بتماسكها. لذلك كان لا بد من التنبيه إلى ضرورة الاقتصاد في استخدام هذه الأدوات، وإلى أن خلو الكلام من الحروف الرابطة إنما ينم عن شدة التلاحم بين أجزائه وقوة نظمه.
وقد أولى الباحثون من النقاد والمفكرين أهمية كبرى لمسألة النظم هذه، فهي
__________
1 راجع: أحمد مصطفى المراغي، علوم البلاغة، دار القلم بيروت سنة 1984م ص148.
(1/85)
________________________________________
تتناول علاقة الكلمات بعضها ببعض وموقعها في السياق، وكانت نظرية النظم التي صاغها أحد نقادنا وبلاغيينا القدامى الأفذاذ "عبد القاهر الجرجاني" في كتابه (دلائل الإعجاز) من أبرز منجزات الفكر النقدي العربي على مدى العصور.
ثانيًا: الربط الكلي: وهو يتجاوز الكلمات والجمل إلى تلاحم الفقرات وتماسكها في نسق كل شامل على مستوى النص، وتحقيق ذلك ليس بالأمر الهين ولا اليسير، والربط الكلي يعالج على مستوت متعددة، فهو مناط الوحدة الفنية في الأجناس الأدبية المختلفة وفقًا للقواعد والأصول لكل فن.
الربط بين الكلمات:
من الأمور التي شَغَلَتْ أذهان النقاد والأدباء منذ وقت مبكر قضية الربط بين الكلمة وما جاورها في السياق، فكان مما أشاروا إليه الكلمة المتمكنة، والكلمة القلقة النابية، وعابوا على الكلام وهن العلاقة بين مفرداته، ومن أوائل من عالج هذه القضية "الجاحظ" في (البيان والتبيين) حيث قال: "وكذلك حروف الكلام وأَجْزَاءُ البيت من الشعر تَرَاهَا مُتَّفِقَةً ملساء، ولينة المعاطف سهلة، وتراها مختلفة متباينة، ومتنافرة مستكرهة"1. وقد عرض عبد القاهر الجرجاني أحد أئمة البلاغة لهذه المسألة عرضًا مفصلًا فاستحدث نظرية النظم التي أكد فيها أهمية مُلَاءمة معنى المفردة لجاراتها وفضل مؤانستها لأخواتها2 على حد تعبيره.
ولكن إدراك ذلك ليس بالأمر السهل على غير الذين ر اضوا صياغة الكلام وتمرسوا بأساليبه، لذلك وقع في المحاذير بعض الشعراء من الفحول، وقد أشار بعض الباحثين إلى أن مرجع ذلك إلى ما يعتري النفس من فتور عند معالجة
__________
1 الجاحظ: البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هارون، ج1 ص 89.
2 عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص32.
(1/86)
________________________________________
القول: أمَّا إِذَا كَانَ الْكَاتِب مسيطرًا على خلجاته وخيالاته وهواجسه لا تتنافر ألفاظه، فوصف الكلام بالتماسك والإحكام، والملائمة والسلاسة والتحدر* دلالة على أن الكاتب محتشد مسيطر فلا تتواثب فى خاطره أخلاط* المعاني1، وقد اشترط البلاغيون والنقاد أن تكون المفردات متناسبة ملائمة، سواء عطفت على بعضها البعض أم لم تعطف، فلا يصح أن يقول فلان جسيم وبليغ، إذ لا ملائمة بين الجسامة ضخامة الجسم وبين البلاغة سواء عطف بين الصفتين أم لم يعطف، غير أن ما ورد في بعض أنساق الكلام البليغ مما يوهم التنافر أو التشتت بين الألفاظ إنما هو لغرض يضفي على الأسلوب ظلالًا لا يدرك أسرارها إلا من علا كعبه في فن القول. من أمثلة ذلك قول الله سبحانه وتعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء:1] العطف هنا للدلالة على مكانة الأرحام عند الله سبحانه وتعالى. من هنا جاء عطفها على الضمير العائد على اسم الجلالة.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1] فليس النهي هنا عن أن يتقدموا بين يدي الرسول فحسب وإنما جاء العطف على اسم الجلالة للإيحاء بجسامة الموقف، الأمر الذي يوحي بأن من يتقدم بين يدي الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنما هو تقدم بين يدي الله، من هنا كان العطف بالواو ذا إيحاءات تتجاوز مجرد اشتراك المتعاطفين في الحكم الإعرابي، إذ تتبادل الكلمات والظلال ويقوم حوار بين دلالاتها ومضامينها.
ومن الأمور التي أثيرت عند معالجة قضية الربط بين الكلمات النهي عن دخول الواو بين الصفة والموصوف لاستحالة عطف الشيء على نفسه، والصفة يمكن أن تحل محل الموصوف، لذا لا يجوز أن نقول شاهدت سعيدًا.
__________
* التحدر: الأنساب.
* أخلاط المعاني: المعاني غير المتناسقة أو المتناسقة
1 راجع: د/ محمد أبو موسى، دلالات التراكيب، مكتبة وهبة، سنة 1979م ص 291، وما بعدها، وقد استفدت من هذا الكتاب فائدة جلية في باب الربط بين أجزاء الكلام لذا لزم التنويه.
(1/87)
________________________________________
والمجتهد، باعتبار أن المجتهد صفة لسعيد، غير أن بعض البلاغيين أشاروا إلى إمكانية وقوع الواو بين الصفة والموصوف لإفادة تمكن الصفة من الموصوف، وبالذات عندما تكون الصفة جملة، كما في قول الله سبحانه وتعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:22] فالواو دخلت على {ثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} لتفيد لصوقها بالموصوف ويطلق البلاغيون على هذه الواو "واو الثمانية"، وقد جاءت بعد تردد وحيرة وشك اعترى الصفات السابقة لها، فحين جاءت الواو أكدت الثبات والرسوخ واليقين.
وحينما يعطف بين الصفة والموصوف يقصد إلى إبراز معنى "التغاير" والتعدد، إظهارًا لشأن الموصوف وإشارة إلى احتوائه على ما هو ثري ومتعدد، من ذلك قول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ} [الأنبياء:48] فالفرقان صفة للكتاب وكذلك الضياء، وذكر للمتقين، ولكن الله -سبحانه وتعالى- أراد أن يشير إلى ثراء هذا الكتاب وعظمته بما اتصف به من صفات كل واحدة منها، قائمة بذاتها، مغايرة لما قبلها أو بعدها، وقد ركز البلاغيون وخصوصًا "الزمخشري" و"عبد القاهر" على معنى التغاير، وقد بدا سر إعجاز النظم في حذف الواو بين الصفات المترادفات، وذكرها بين المتغايرات في قول الله سبحانه وتعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} [التحريم:5] فالعطف بين الثيبات والأبكار لتغاير هاتين الصفتين، والصفات المتضادة لا بد من الفصل بينهما كما يرى "العلوي" في "الطراز" -وهو أحد البلاغيين المشهورين- غير أن هذا مردود عليه لقول الله سبحانه وتعالى: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ
(1/88)
________________________________________
الْعَلِيمِ، غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غافر:2] فقد جاءت الواو بين صفتين مترادفتين، بينما حذفت بين {قَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} وفي هذا سر معجز من أسرار التعبير القرآني، لا يخضع لقاعدة معينة.
الربط بين الجمل بالكلمات أو العبارات:
يكون هذا النوع من الربط على شكل كلمات وعبارات تصل بين الجملة وما يليها أو ما يسبقها من جمل، ويساعد على فهم المعاني والوعي بتسلسل الأفكار وإدراك الروابط بينها. ويتمثل في عدة أنواع من العبارات على النحو التالي:
أولًا-عبارات التعدد: "أولًا، ثانيًا، في المقام الأول، أخيرًا، السبب الأول، العامل الأول" وهذه العبارات تتعلق بترتيب الأفكار وتنظيمها وتسلسلها وبإحكام الصلة بين المقدمات والنتائج.
ثانيًا-عبارات الاستنتاج: "ولهذا، ولذلك، ونتيجة لذلك وهكذا نستنتج أما يلي، والاسنتناج الحاصل هو، والنتيجة هي" ويجب عدم المغالاة في استخدام هذ العبارات، وتكرارها بكثرة وغالبًا ما تستخدم في الكتابة الإجرائية والموضوعية.
ثالثًا- عبارات الاستطراد: "فضلًا عما سبق، بالإضافة إلى هذا، يضاف إلى ذلك، كما أن ... إلخ" غالبًا ما تأتي هذه العبارات لإضافة معنى جديد أو تدوين ما تجود به الذاكرة بعد أن استنفد ما بحوزته من معلومات، وهي تقترب من معنى الاستدارك.
(1/89)
________________________________________
خامسًا- عبارات الاستدراك: قد تقتصر على حرف واحد يحمل معنى الاستدراك مثل "لكن" أو على تعبير مركب مثل: "وبالرغم من ذلك، وعلى أي حال، ومهما يكن من أمر"، والاستدراك يكون - في الغالب - دفعًا لمظنَّة توهم أشياء غير مقصودة أو تأكيد حقيقة يخشى أن تكون منسية.
سادسًا- السببية: وتأتي للتعليل وبيان الأسباب، وتكون هذه العبارت - في بعض الأحيان- مشتقة من المادة اللغوية لكلمة سبب مثل: وسبب هذا، ويعود السبب إلى، ويعزى الأمر إلى، والسبب هو.
سابعًا- العبارات الجوابية: حيث يطرح الكاتب سؤالًا لتوضيح قضية ما، فيكون الربط بين هذا السؤال والجملة التي تليه بعبارة تشير إل الجوانب كقولنا: والجواب على ذلك ... من هنا تسمى هذه الرابطة بالرابطة الجوابية.
ثامنًا- عبارات التمثيل: وهي العبارات التي يقصد بها الاستدلال على صحة مسألة من المسائل أو توضيحها، فتكون الجملة مثالًا لما ورد في جملة سابقة على نحو قولنا: ومثال ذلك، وعلى سبيل المثال ... إلخ.
تاسعًا- عبارات الاستفهام: حيث تبدو العلاقة هنا عكس العلاقة الجوابية فالجملة موضوع الربط تكون سؤالًا عن الجمل السابقة فتكون عبارة الربط على النحو التالي: والسؤال هو، ولكنا نسأل فنقول ... إلخ.
(1/90)
________________________________________
الربط بين الجمل بالحروف
الفصل والوصل
الجمل من حيث الموقع الإعرابي نوعان: الأول له محل من الإعراب ولذلك تجري عليه أحكام اللفظة المفردة من حيث العطف فإن جاءت نعتًا أو توكيدًا، أو بدلًا كان الاتصال بينها وبين متبوعها داخليًّا دون أداة عطف، فالتوكيد هو عين المؤكد، وكذلك الصفة هي عين الموصوف فلا داعي للعطف بينهما، فالواو- كما أسلفنا- لا تقع إلا بين المتغايرين وحينما نقول - مثلًا- أَحَبَّ قَيْسٌ لَيْلَى حُبًّا شَدِيًا، لم يجد مع النصح ولا التأنيب تكون الجملة الثانية توكيدًا للأولى، لذا لا وجود لرابط بينهما كالواو على غرار قولنا: جاء محمد نفسه. أما النوع الثاني فهو ما لا محل له من الإعراب، وجمله تخضع في ربطها لأصول وقواعد قررها البلاغيون وعلى رأسهم عبد القاهر الجرجاني.
وقد شبه المعاني بالأشخاص، فالواو في المعاني كالوسيط في الرجال فإذا قوت الصلة بين الرجلين لم يحتاجا إلى من يربط بينهما، وإذا اختلفا وتنافرا تنافرًا يبعد الثقة بحيث يصبح الجمع بينهما مستحيلًا أصبح وجود الوسيط بلا طائل، فالوسيط لا يكون إلا في الحالات غير الميؤوس منها حيث يمكن أن يكون وجود الوسيط مجديًا، وهذا-كما يقول أحد الباحثين المحدثين: "واضح في أحوال الناس، وهو كذلك في كلامهم، لأن الكلام في حقيقته تشكيل للسلوك والأمزجة، والعادات والطبائع، وإذا ذهبت تبحث في المشابهات بين تقاليد اللسان، وتقاليد السلوك وجدت متشابهات كثيرة1".
__________
د/ محمد أبو موسى: دلالات التراكيب مرجع سابق ص312.
(1/91)
________________________________________
الفصل:
وقد أشار النحويون الأقدمون إلى ذلك، فإذا قويت العلاقة بين الجملتين اتصلتا من ذات نفسيهما، وتداخلتا وصارتا كالشيء الواحد، وهذا يحتاج إلى مزيد من التأمل، لهذا لا داعي لوجود الواو إذا كانت الجملتان متصلتين تمام الاتصال وهو ما يعرف في الم