كان الليل خارج البيت، يغزل أشباح الخوف، ويحوك ألسنةَ الظلام. الرياح تعزف ألحاناً حزينة هامسةً حيناً، عاصفة أحياناً أخرى، فيهتزُّ الفراغ من حول البيت، وكأنه يؤدّي رقصة غجرية مثيرة. تلك الليلة كانت الأولى من ليالي عمرها الطويل، التي ضاقت بها نفسها عن كل شئ.
اعتصرها الخوف والتنبؤ. لقد تأخّر كثيراً. أوغل الليل في جوف الظلمة ولّما يأتِ ابنها بعد. لقد تأخر كثيراً على غير عادة منه. اقتربتْ من النافذة، أنصتت... فتحتْ درفتها الصغيرة، اشرأبّت بعنقها ووجهها المتوثب. كان كل شيء يدعو للذهول والخوف. الظلمةُ تلفُّ الكون، والجوُّ داخل البيت الصغير باردٌ قاتم، لكأنما هو جزءٌ من مكوّنات الفضاء الواسع، أحسّت أن قسوة الطبيعة خلف الجدران تطبقُ عليها بفكيّها، وأنّ المدفأة المعدنية الصغيرة، والمصباح الذابل المتدلّي من السقف، لم يستطيعا أن يعزلا البيت الموحش عمّا تحوكه عناصر الطبيعة في الخارج.
الرياحُ تصوت، ونوافذ البيت العتيق عاجزة عن الصّمود أمام زمجرتها. كانت تصطكُّ، فتصدر أصواتاً غير رتيبة، تعمّق مخاوف الأم وهواجسها. بينما كانت خيوطُ الهواء الجليديّة الحادّة، تتدفّق عبر الثقوب والشقوق التي تمتلئ بها أبوابُ البيت المهترئة، ونوافذه المتصدّعة، والضوءُ الخافت يفشل في توزيع النور إلى جميع أركان البيت المضطرب، ظلالُ الموجودات التافهة تترنح في فضاء البيت، ملقية بثقلها على كل ماحولها.. لقد تأخّر كثيراً عن موعد عودته... إنه ابنها. تحيا معه...
شعرت الأم بالبرد يخترق مفاصلها. لاذت بزاوية قريبة من المدفأة، تدثرت ببطانيّة ألقتها فوق كتفيها، تكوّر جسدها واستسلمت لصمت مطبق.. خُيّل إليها أنها تسمع وقع قدميه يطرقان الأرض خارج الجدار. انتصب نصفُ جسدها الأعلى. أرهفتِ السمع. نظرت عبر النافذة بعيني لبوة جريحة، لكنها لم تسمع شيئاً. شعرت بالخيبة والحزن الأليم، وعادت تتكوّر حول أجزائها من جديد.
منذ سنوات وهذا القلق الممزِّق يراودها كل يوم، يريد أن يستلب منها عزيمتها. لكن الليلة، كانت الأولى من نوعها التي يلفّها بها الخوف والهواجس والضَّياع ،نقلتها هواجسها على أشرعةٍ معتمة، قذفتها إلى محطات قديمة مؤلمة. كانت لا تريد أن تتذكرّ، فالذكرياتُ أليمةٌ حادّة، استطاعت فيما مضى أن تتغلّب على ذكرياتها المرّة، لكن الليلة هذه شرسة مضنية، أرغمتها على السقوط في سعير تلك المحطّات.. يومئذ كان ابنها ، سعيداً بأعوامه التي لا تتجاوز أصابع اليدين. لم تستطع البساطة والبيت الصغير، أن يحدّا من رفاهيته ودلاله الممنوحين له من والديه، كان يمشي على بساط من الحب والأمل والسعادة. يكبر فيكبرُ معه الأمل... كان كلَّ شىءٍ في حياة والديه. فجأةً دُقَّ جرسُ الإنذار، بل لم يستطع أن يحمل صوته بعيداً. ففي خفقة غير منتظرة، سقط الأب في حادثة عمل مفاجئة، كانت أقرب إلى الومضة الزمنيّة الخاطفة، فخلّفت في قلب الأم انكساراً قاتلاً، وفي عيني طفلها ألماً وذهولاً عميقين... أليمةٌ جداً تلك المحطّات. لم تكن ترغب في العودة إليها، إلاّ أنها سقطت في متاهاتها على الرغم منها، وراحت تغوصُ في أوحالها.
كانت ترجو أن تتخلص مع زوجها وابنها من الفقر. لم يكن أجر التقاعد الزهيد، بما يحمله من تأخر وعدم قبضه في وقته، ليستطيع أن يخلّص العائلة الصغيرة من الفقر، بل الجوع أحياناً... ألّحت عليه أكثر من مرة، أن يدفع ملف لتعويضه في حادثه العمل ، عندئذ ربما يعود بمالٍ وفرٍ، فيغيرّ مسيرة حياتهم الراكدة. لكن الأب رفض. ألّحت كثيراً، وازداد الرفض. تخاصما مراراً. قال: لن أبرح مكاني والله إن كان كتبه علي فسيأتيني. قالت له: لكننا فقراء، والفقر غربة.
أجابها بهدوء: كذلك مجارات الخونة غربة .
مريرة تلك المحطات. آه كم كان شامخاً. محباً. عنيداً. تجادلا بحدّة، اختلفا في الرأي كثيراً. لكن الحب كان يجمعهما كل مساء، خرج من البيت منفعلاً مراتٍ كثيرة، لكنه في كل مرة كان يعود والبسمة تزيّن شفتيه، وتكحّل عينيه، فتستقبله بروحٍ نديّةٍ وقلبٍ موّار بالفرح والسعادة، عجيبٌ أن تظل السعادة صامدة منتشية في عتمة الفقر المتجهّم. هذه البطانيّة المهترئة كم جمعت جسد أولادهما في ليالي البرد الشديد، عندما كانت المدفأة تضنّ بالحرارة الكافية. إلى جانب هذه المدفأة ، وفي هذا الركن من البيت تبادلا الأحاديث والشجون والأمل . جميلة وقاسية معاً تلك المحطات ، مشحونة بالألم والانتظار . لكن ناقوس المفاجأة رنَّ مجلجلاً .
***
زمجرت الرياح أكثر . أصدر الفضاء عواءً مخيفاً . غصّت المدفأة .بلهيبها الشحيح. طرقات منبهةٌ مخيفةٌ قرعت صدر الأم، انتصبت في مكانها كمن يواجه شبحاً مخيفاً. اقتربت من النافذة، أصغت بعمق لكنها لم تسمع إلاّ وجيب قلبها، وارتعاشة كفيّها. أخذت تلوب في فضاء الغرفة البائسة، تستنجد شيئاً ما يغرسُ في قلبها الصبر والعزيمة. لاذت من جديد في ركنها المعتاد وقد تدثرت بالبطانية من جديد، واستسلمت لهواجس مكرورة ممزِّقة.. أذنٌ ترصد النافذة، وعيونٌ زائغةٌ تخترق الظلمة خلف الأبواب، وحوار مع الذات أشبه بالنشيج، يبني عناكبه حول الأعصاب ونبض الدم. آهٍ يا ولدي، لقد تأخرت الليلة كثيراً، كثيراً جداً... لا. لا.. ما أسوأ أن تكون الاحتمالات صادقة. أقبل يا ولدي. أقبل إليَّ بقدك الأهيف، ووجهك القاني. لقد هدّني الانتظار. ترى.. هل يجرّبُ مدى احتمالي، هل أراد أن يمتحنني فدخل معي في صراع غير متكافئ. آهٍ يا ولدي، مذ تخطيتَ عامك العاشر وأنا أنسجُ لك من دمي وروحي وأعصابي وعيني رداءً جميلاً دافئاً يقيك الحرمان والفقر. ويكلّل هامتك وكتفيك بورود الحب والاعتزاز والشهامة. أخذتُ بيدكَ عبر قسوة الحياة وشراسة الأيام. أحميكَ وأباك بالصبر والشجاعة والأمل وأنت تكبر يوماً بعد يوم وتتخطى السنوات والمراحل، وأنا أجثو في محرابي أصلي، أعبدُ الله وأرجوه فيكَ الحب والأمل والكبرياء الجريح . صلبت روحي وجسدي ، وبذلت ماء عيني رخيصة أمام صنّارتين حادتين جامدتين، تحوكان الدفْء والطمأنينة للآخرين، لقاء دنانير زهيدة يقيك أبوك بها غائلة الجوع والحاجة . وأنا سعيدة بهذا الشقاء أيّما سعادة، لأنك سكنت قلبي وأبحرتَ في شراييني. وفي كل يوم وقبل أن أخلد للنوم كنتُ أرتّل ترانيم الثقة والأمل والمستقبل. وجاء يوم. أصبحت فيه طالباً جامعياً بعد أن حققت نجاحاً في الشهادة الثانوية. آه يا بنيّ. كان ذلك يعني أن يُقرع الجرس من جديد. أن يتغلغل الخوف والوهن في الأعصاب بلا حساب. أن تعود الاحتمالات المرّةُ تبني قامتها داخل روحي ودمي وجسدي. كان ذلك يعني الابتعاد والفراق المرّ... غادرتَ البيتَ الفقير والدّثار المهترئ والأبواب المهتزة إلى المدينة الكبيرة. إلى تلك الثكنة. لأبقى وحدي أفقأ عيون الفقور بتلك الصّنانير المدبّبة البلهاء وبضع كُرات من الصّوف متعدد الألوان.
في مساء كل يوم تعود إلي شامخاً معتزاً باسماً، فيزهر الياسمين في قلبي، وتخضل أعصابي بالندّى المعطر. في مساء كل يوم أعطِّر وجهي بتلك الأيقونة الجميلة، وجهكَ أيها الحبيب، فيتضوّع في داخلي عبير الحياة بعد أن تلاشى أياماً متتالية، تنتصب في شراييني ملائكة الحب والأمل والاعتزاز... آهٍ... لقد تأخرتَ يا بني. ما أقسى هذه الليلة. في كل سنيني كنتَ توافيني قبل أن تغطس الشمس خلف جرود الجبل، لماذا تأخرت؟؟.. لقد أوغل الكون في كبد الليل ولمّا تأتِ.. أقبل يا بنيّ، قبل أن تفترسني الاحتمالات وتمزّقني الأوهام. أقبل. أقبلّ.. ادفع البابَ بقوّة واهجم عليَّ كعادتك، وخذني بين ذراعيك ستجدُ قلباً ينبض وذراعين حانيتين وأمّا تنتظر... لعلّكَ أقبلت. أجل. لقد أقبلت. تبّاً لي ولأوهامي القاسية المبعثرة.. هاأنت ذا تقف في الباب، تسدُّ فرجته، تبتسمُ ملءَ فمك. ما أنصع أسنانك الجميلة!. عيناك تفيضان حبّاً وسروراً وكرامة. ذراعاك تتّسعان شيئاً فشيئاً، تبلغان المدى، وقامتُك الرجوليّة الآسرة تستبدل جفاف البيت وبرودته بدفءٍ وخصبٍ اعتدتُ عليهما.. أقبل.. أقبل يا ولدي وألقِ جسدك الغضَّ الدافئَ بين ذراعي.
قفَزت نحو الباب بهمة صبيّة مُترفة.. تسمّرت في مكانها، ضغطها الألم واختلطت الأشياء أمام عينيها. كانت خواطرها مجرد أوهام وأضغاث أحلام. مدّت يدها متكاسلة فمسحت دموعاً واخزة غزت خدّيها وانحدرت هي الأخرى بطيئة حائرة.. انكمشت من جديد، فارقتها العزيمة والتوثب وعادت تتدثرّ ببطانيّتها وتتكوّر على أجزائها في ركنها المعتاد.
ارتفع في الخارج هزيم الريح، واهتزت أبواب البيت ونوافذه. بعد قليل سوف تمطر الدنيا، وقد تثلج. ازدادت مخاوفها. سيمتلئ البيت بالبرد والصقيع، وقد ينطفئ النور، وستبقى وحيدة في الظلام والبرد والجوع.. صرخت في أعماقها: أقبل يا ولدي.. أقبل قبلَ أن.... ثم أخرسها صمتٌ مفاجئ واستبدَّ بها خوفٌ مدّمر. ليته يأتي الآن. ليته يعود. ستلفُّ ذراعيها حول عنقه وتشبعه قبلاتٍ متلهفة، تدفئ جسدها المتيبَّس بحرارة جسده. سيمتلئ قلباهما بالحب والأمل، ويستريحان...
حملت الرياحُ الصاخبة أوراق الشجر والحصى، وقذفت بهم زجاجَ النوافذ وأخشابها.. خُيِّلَ إليها أنها تسمع صوته ينادي: أمّي.. لقد أتيت. أصاخت السمع، أرهفت قلبها... لا. ليس هو. لقد أظلمت الدنيا منذ ساعات طويلة، ولاشئ خارج البيت إلاّ عواء الريح وشراشة البرد والظلام اللذين يلفّان الكون. توحّدت مع أوهامها ومخاوفها. أرادت أن تصرخَ ملء فمها. أقبل يا ولدي. حرامٌ عليك.. خانتها حنجرتها الجافة. تكورت على أجزائها أكثر وانهزمت أمام دموعها واحتمالاتها الصاعقة... عوى في البعيد ذئب لاتدري من أين جاء. أو هكذا خٌيِّلَ إليها. انصتت برهافة حدأةٍ مُلتاعة. كانت الرياح تغنّي، وقطرات المطر تعزف ألحاناً رتيبة تحمل في طياتها الطمأنينة والخوف معاً. تناهى إليها صوتُه يهتف باسمها من بعيد.. هذا هو صوتُه. إنه موسيقى السعادة. اندفعت خارج البيت كالمجنونة، ابتعدت تبحث عنه، عن مصدر الصوت. لم تعد تسمع شيئاً. لم تجده. اقتحم الخوفُ قلبها، تقلّص في صدرها. انكفأت راجعة وهي ترتعد. اخترق البرد جسدّها حتى العظام، لاذت بركنها المعتاد.. لِمَ تقسو عليَّ هكذا يا امحمد؟؟ ماعهدتُك قاسياً مخيّباً للآمال. بكت بمرارة. عافت نفسها ذلك الركن البارد، كرهت الغرفة والضوءَ الشاحبَ والمدفأةَ الكسول.. كلبوةٍ سُرق ابنها منها هبّت تريد أن تفعل شيئاً. تحيّرت. ماذا تفعل؟؟.. خلّفت البيت وراءَها، أسندت ظهرها إلى بابه الخارجي. كان المطر يغسل الطبيعة ويعجن أوحالاً رخوة. راحت تبحثُ وتلوبُ في مكانها. مزّقت عيناها ستائرَ الظلمة. اكتشفت من بعيد شبحاً يقترب. صرخت في داخلها: هذا هو. لابدَّ أن يكون هو. الأم لا تخطئ. لقد سمعتُ صوتَهُ. سمعتُه بوضوحٍ هذه المرّة. غادرت باب البيت واقتحمت الظلام. نادت بملء صوتها: محمد .. محمد. علا صوتها على صوتٍ العاصفة ومزاريب الحي النائح. جاءَها الصوت من بعيد. أمّي. أمّي.. لقد أتيت... آهٍ. لقد عاد.
لقد عدتَ يا ولدي.. انهارت قواها. لم تستطع أن، تتقدم أكثر، استجمعت بقايا عزيمتها الخائرة، وتراجعت خطوات قليلة، وأسندت ظهرها إلى باب البيت من جديد. سمعت وقع خطواته وهو يخوض في الأوحال والمياه المتجمّعة.. في ضوء المصباح الشاحب، رأت وجههُ. الوجهَ الصارمَ النظرات، يفيضُ حبَّاً وحناناً واعتذاراً.
كانت محفظتي تجثم على كتفي يسيل منها الماء. وفي يدي الأخرى محفظة صغيرة مطويّة باتقان. لقد كان الجوَّ والعواصفُ والمطرُ والمواصلات في خصام شديد معي. عذرا أمي....
لايهمّ. لقد نسيتْ آلامها، وطردت مخاوفها، وتلاشت احتمالاتُها المرّة. لاشئ في الدنيا يهمها بعد الآن.. لقد عدت... لقدعدت. وهذا يكفي.. لم تستطع
أن تمنعُ الدموع. أراحت رأسها على صدري. وغابت معي في عناقٍ وقبلات مشتاقة//////////
..... يحي امحمد عبد المتين