بسم الله الرحمن الرحيم
الإنسان في القرآن
لقد اختلفت نظرة المفكرين والمثقفين والفلاسفة إلى الإنسان منذ القدم منهم من نظر إليه على أنه كباقي حيوانات الأرض يأكل يتزاوج ثم ينتهي بالموت كالدهريين والماديين المعاصرين ، ومنهم من نظر إليه على أنه إله يصول ويجول في الأرض حتى أفرغ الكون من الفعل الإلهي كقوم عاد والنمرود وفرعون وبعض التيارات الإنسية المعاصرة ، ومنهم من نظر إليه على أنه نصف إله بجانبه الروحي أو أنه محل الحلول الإلهي كبعض المتصوفة ، والقرآن الكريم باعتباره وحيا منظما لحياة الإنسان وسلوكه نظر إليه نظرة توازن واعتدال باعتبار أهميته وخطورته في هذا الكون ، لأنه المخلوق الوحيد المكلف بالتصرف فيه وفق المنهج المرسوم له اعتبارا لخصائصه الفطرية الموجهة بالوحي
إلا أن الحديث عن الإنسان في القرآن يستدعي استحضار الحقل الدلالي الدال عليه لاستقراء الأبعاد والجوانب التي تناوله من خلالها سلبا وإيجابا ، بغية فهم سلوكه الأخلاقي وتفاعله العاطفي والشعوري والاجتماعي ، وكذا كل ما يصدر منه في كل الأحوال ككائن ذو حاجيات مختلفة ومتباينة بين ما هو مادي تبعا لأصله الترابي وما هو روحي وجداني تبعا لجانبه الروحي وما هو مادي روحي وفقا لتركيبته الازدواجية المتكاملة منفعل ومتفاعل مع الذات والمحيط ، منشئ للثقافة طبعا واكتسابا ، وبان للحضارة والعمران ، وقوة فاعلة في حركية التاريخ وتفاعلاته
ونحن إذا رجعنا إلى الآيات التي تتحدث عن الإنسان وصفا ومرادا ، تنبيها وتنويها وتكليفا ـــ في إطار الأمر المقصود منه الرعاية والنهي المقصود منه الحماية ــ نجدها تتحدث عنه فاعلا متفاعلا مع القيم استجابة وامتثالا ورفضا واجتنابا وليس كقيمة ذاتية ثابتة مجردة كما في قوله تعالى { إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا } { ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين فلا اقتحم العقبة }{ أ لهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد } وكما جاء في الحديث النبوي الشريف : { كل مولود يولد على الفطرة } ،وذلك بأساليب دلالية مختلفة كل له مقصوده ومراده في إطار المحاور الثلاثة الكبرى " الوصف المراد التكليف " تحقيقا للخلافة والعمارة والعبادة
وفي ما يتعلق بالوصف لقد تحدث عنه القرآن إما بصفته جنسا ونوعا بكلمة " بشر " { أبشر يهدوننا } { قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي } {إني خالق بشرا من صلصال }
وإما بصفته مسئولا " وهذا مرادنا " بكلمة "إنسان " التي جاءت أكثر من ستين مرة في القرآن مبينة دوره ومكانته وهدفه وغايته واستعداده الفطري لتحمل المسؤولية { إنا عرضنا الأمانة ...وحملها الإنسان } ، وهذه المسئولية أنيطت بمجموعة من الأخلاق والسلوكيات التي تبين طريقة تحملها دون مشقة أو تكليف بما لا يطاق والتي جاءت وسطا بين الإفراط والتفريط { وكذلك جعلناكم أمة وسطا }{لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } وهذه الأوصاف جاءت إما بصيغة المدح والثناء والبشارة والتحفيز، مؤمن ، صادق ، صابر ، مخلص ، شاكر ، عابد ، تواب ، صائم ، سائح ، ساجد ، وإما بصيغة الذم والتحقير والتهكم والتبخيس : ضال ، ظالم ، عجول ، قتور ، قنوط ، يئوس ، خصيم ، عنيد ، كفور ، منافق ، وإما في سياق بيان ضعفه وأحواله النفسية والعاطفية : خلق الإنسان ضعيفا ،" إذا مسه الخير منوعا وإذا مسه السر جزوعا ،" وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه " إلى غير ذلك من الآيات التي تبين تقلباته النفسية تبعا لرغباته المختلفة وأحواله المتغيرة
ومن خلال ما ذكر من الأوصاف يتضح أن الإنسان حامل للقيم ومتفاعل معها امتثالا واجتنابا وليس قيمة بذاته ، ولذلك تباينت درجات الرقي الإنساني في منظور القرآن بين : مسلم مؤمن صادق مخلص إلى أن يرقى به إلى درجات تقربه من الأنبياء { أولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين ...} ، كما تباينت أيضا دركات انحداره : ضال ظالم فاسق فاجر عنيد ...إلى أن ينزل به إلى درجة أقل من الحيوان { إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل }
وهذه الأوصاف التي هي عبارة عن قيم نبيلة ومحمودة رغب فيها القرآن الكريم وحث عليها ، أو سلوك مذمومة نهى عنها ونبه عليها وحذر منها ومن عواقبها كانت هي المنهج والأساس الذي بنيت عليه الأمة الإسلامية في بدايتها ، لأنها تحدث التوازن بين متطلبات الروح وحاجيات المادة في الإنسان حتى لا يضل ويتبع هواه وينساق وراء رغباته وينحدر في منزلق شهوته ، وحتى الآيات التي جاءت مستعملة كلمة " إنسان "في سياق بيان أحواله وأوصافه ونشأته وحياته ومصيره والتي تزيد عن ستين آية كلها مكية إلا أربعة فهي مدنية ، بمعنى أنها نزلت في مرحلة بناء الإنسان وتهيئه لتحمل مسئولية الإصلاح العقدي والأخلاقي والبناء الحضاري والثقافي
وبناء على هذا كله إذا أردنا أن نعود إلى منصة الابتغاء الحضاري وقيادة سفينة الإنسانية الحائرة إلى بر الأمان وإخراجها من ظلمات التيه والقلق والخوف من المصير المجهول علينا أن نعتمد المنهج القرآني في إصلاح وترميم ما دمرته المذاهب المادية والتيارات المنحرفة من إنسانية الإنسان ، لا أن نبقى مشدودين إلى مفاهيم أسيء فهمها وتطبيقها ك: الخلافة والعمارة التي نتبجح بها ونخلد إلى الأرض وننتظر سقوط الحضارات المتقدمة التي نحن عيال عليها لتكون غنيمة لنا دون أن نضع في حسباننا أن للعمارة أسبابها وثمنها وطريقها من سلكه وصل مؤمنا كان أو كافرا { كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك ...} كما أن للخلافة شروطها وأسبابها { إن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين } وهل نحن صالحون لأن نكون خلفاء في الأرض ؟ وهل تتحقق فينا شروط الخلافة ؟ وما هي المسافة بيننا وبين الإنسان الذي تحدث عنه القرآن ؟ وما موقعنا من الحقلين الدلالين اللذين استعملهما القرآن في بيانه للإنسان السلبي والإيجابي ؟
عدل سابقا من قبل معراض الطاهر في 2013-05-27, 23:21 عدل 1 مرات