للغه العربيه.. والتقدم العلمى
يظن البعض خطأ أنه كلما توسعنا في تدريس العلوم باللغات الأجنية ازدادت فرص التقدم العلمي لدينا. والحقيقة التي أود أن ألفت الأنظار اليها هي عكس ذلك تماما; فكلما توسعنا في نقل العلوم إلي اللغة العربية وتوسعنا في تدريس العلوم طبيعية كانت أو رياضية أو إنسانية بها نجح أبناؤنا في استيعابها, ونجحنا في توسيع القاعدة العلمية لدي شبابنا سواء من الباحثين العلميين المتخصصين أو لدي غيرهم!
إنني أعتقد أن تخلفنا العلمي يزداد كلما ضيقنا فرص نشر الثقافة العلمية وجعلناها مقصورة علي طائفة العلماء الذين يجيدون معرفة العلوم بلغاتها الأجنبية. وقبل أن يسارع أنصار تدريس العلوم باللغات الأجنبية في الاعتراض أقول إنني أعرف كل الحجج وأقدرها مثلما يقدرونها هم تماما; إذا لا أحد يختلف معهم حول ضرورة وأهمية إتقان اللغات الأجنبية ولا أحد يختلف معهم في أن هذه اللغات هي لغات العلم المعاصر وإن متابعة الإنتاج العلمي العالمي سيكون أسرع لدي من يلمون إلماما كاملا بهذه اللغات المعاصرة, ولا أحد يختلف معهم في صعوبة متابعة هذا الإنتاج العلمي العالمي بالترجمة الي العربية, خاصة إن معظم علمائنا الآن لا يجيدون العربية ولا يعرفون كيف ينقلون المصطلحات العلمية المستحدثة اليها, كما أنهم يرددون أن لغتنا العربية أصبحت قاصرة عن متابعة العلوم المعاصرة, وأنها بعبارة أخري لغة غير علمية! وهنا تكمن خطورة ما يؤمنون به; حيث إن أي مجتمع يعجز عن أن ينتج معرفة علمية بلغته القومية يعتبر بلا أدني شك مجتمعا متخلفا, يعتبر مجتمعنا فقد أهليته للمشاركة في التقدم العلمي العالمي, فضلا عن أنه يصبح مجتمعا عاجزا عن إبراز هويته الحضارية والعلمية معا!
إن عجز معظم أبناء الجيل الحالي من علمائنا عن نقل ما تخصصوا فيه من علوم إلي لغتهم القومية هو تقصير ينبغي أن يعترفوا به, وأن يساعدوا مجتمعهم علي تربية جيل جديد يتقن اللغتين; لغتهم وأي لغة أخري, بحيث يمكن لأبناء هذا الجيل الجديد أن يدرسوا ويدرسوا هذه العلوم باللغة العربية, إذ أن الدراسات التربوية ـ العلمية الحديثة أثبتت أن الإنسان لا يمكن أن يبدع بشكل كامل إلا في إطار لغته الأصلية القومية. وأن الإبداع العلمي لابد أن يتوافر له ما يسمي بالبيئة العلمية المشجعة أو المواتية. وهذه البيئة الداعمة للإبداع العلمي لا يمكن أن تتوافر لأناس لا يعرفون شيئا عن العلوم التي سببت كل هذا التقدم التقني الذي يستمتعون بنتاجه دون أن يعرفوا كيف أنتج, وكيف يكون التعامل الأمثل معه وكيف يمكن تطويره؟
إن الاحتجاج بأن اللغة العربية لغة عاجزة عن استيعاب التقدم العلمي المعاصر كلام يعبر عن الأستسلام والعجز من قبل من يرددونه لأنهم يتجاهلون أن اللغة العربية كانت هي لغة العلم الأولي طوال ما يسمي بالعصور الوسطي في الغرب وإنها هي اللغة التي حملت اليهم( أي الي الغربيين) كل العلوم في أرقي صور تقدمها وأنها هي اللغة التي اضطروا هم لتعلمها وإتقانها حتي يستطيعوا الإلمام بأحدث صور التقدم العلمي العالمي آنذاك, وصدق روجر بيكون حينما قال: أعجب ممن يريد أن يتخصص في الفلسفة والعلوم ولا يعرف اللغة العربية! لقد تعلم البشر جميعا درس نقل العلوم من لغة إلي أخري من العرب, حيث كانوا أصحاب أول حضارة تنقل نتاج الحضارات السابقة إلي لغتها, ومن خلال هذه الحركة النشيطة في الترجمة, تلك الحركة التي شجعها الجميع إلي حد أن كان الخلفاء يزنون الكتاب المترجم ذهبا ويعطونه لمن قام بترجمته, أقول إنه من خلال هذه الترجمة لكل نتاج العلوم يونانية كانت أم فارسية أم هندسية نجح المسلمون في استيعابها وفي خلق البيئة المواتية للتقدم والإبداع العلمي, فكان منهم العلماء الذين ساهموا في تطوير كل العلوم المعروفة آنذاك وفي تأسيس الكثير من العلوم الجديدة. وكان أن تتلمذ علي مؤلفاتهم كل علماء الغرب في عصر نهضتهم الحديثة وقد اعترف معظمهم بذلك كما خلده مؤرخو العلم في مؤلفاتهم.
أقول ذلك لأذكر علماء العربية المعاصرين, بأن العرب حينما أرادوا قديما جعل لغتهم لغة للعلم وللتقدم العلمي الي جانب كونها لغة الأدب والقص, كان لهم ذلك. فكيف لنا الآن أن نتقاعس عن دورنا في إعادة الرونق العلمي إلي اللغة العربية بنقل العلوم المعاصرة اليها مهما واجهنا من صعوبات ومهما أنفقنا من أموال!
إن القضية ليست مجرد قضية ترجمة لكتاب هنا وكتاب هناك من هذا العلم أو ذلك! إنما هي قضية أمن قومي بحق; فالأمن القومي الآن مرهون بما نحققه من التقدم العلمي, الذي يصعب تحقيقه بالشكل الشامل الذي نطمح اليه دون تخصيص جزء كبير من جهدنا وأموالنا لخلق البيئة العلمية المواتية والداعمة للإبداع العلمي. وذلك لن يتحقق إلا بأن يقرأ أطفالنا قبل شبابنا العلوم بلغتهم العربية التي يستوعبون مفرداتها جيدا ولا يستطيعون التفكير إلا بها هي دون أي لغة أجنبية أخري مهما بلغت درجة إتقانهم لها!!
إن قراءة العلوم باللغة القومية هو الطريق الوحيد لأن يصبح أبناء هذه الأمة علماء بحق وقادرين علي نشر علومهم وثقافتهم العلمية بين مواطنيهم وتلاميذهم ولا يمكن أن يتفاعل المجتمع الجاهل بأبسط مباديء المعرفة العلمية مع التقدم العلمي ولا أن يشجعه ففاقد الشيء لا يعطيه. إن الجيل الحالي من علماء مصر وغيرهم من العلماء في كافة البلدان العربية هم المسئولون أمام الله وأمام أوطانهم إن لم يعترفوا بأنهم إنما يقصرون حقا في حق أمتهم طالما لم يسعوا إلي نقل ما تعلموه من علوم ومن نظريات علمية إلي تلاميذهم ومواطنيهم باللغة العربية. لقد كان الجيل الذي تأسست علي يديه الجامعات المصرية بل والجامعات العربية الأخري وهو جيل الرواد بحق يدرك هذه القضية الخطيرة ولذلك وضع ضمن قانون الجامعات بندا يلزم الأساتذة بالتدريس باللغة العربية, ومن ثم كان لزاما علي كل المبعوثين أن يعودوا من بعثاتهم الدراسية ليحولوا ما تعلموه باللغة الأجنبية إلي علم عربي يقدم إلي تلاميذهم باللغة العربية. ولا أعرف متي وكيف بدأنا في تغيير هذا القانون الملزم؟!
لا أعرف كيف سمحنا لأنفسنا أن تهون علينا لغتنا العربية إلي الحد الذي أصبحت معه غريبة بين أهلها, نتهمها بأنها ليست لغة علمية ولا تصلح كوعاء للمعرفة العلمية؟!
لا أعرف كيف ذلك بينما أصبحت اليابانية والكورية والصينية لغات علمية مرموقة؟!
مره أخري أقول ولا أمل من القول إن قضية ترجمة العلوم إلي اللغة العربية قضية قومية خطيرة ينبغي الالتفات إليها إذ لا مجال للحديث عن التقدم العلمي طالما أننا بعيدون عن نقل العلوم إلي لغتنا القومية.
المقاله مقتبسه من جريدة الاهرام المصريه وكاتبها هو الدكتور مصطفى النشار عميد كلية رياض الاطفال جامعة القاهره.