الاستاذ سالم مسعود العرابي
جامعة سبها
بناء المفارقة في ادب معمر القذافي "قصة الفرار الى جهنم نموذجا"
بناء المفارقة في أدب معمر ألقذافي
قصة (الفرار إلى جهنم) نموذجا
اعداد سالم مسعود العرابي ، جامعة سبها ، ليبيا
أسلوب المفارقة هو احد الأساليب البلاغية التي يستخدمها الأدباء والمبدعين للتعبير عن أفكارهم،
وقد انتقل هذا الأسلوب من حقل الفلسفة إلى الأدب،على يد الفلاسفة الألمان ومنهم شليجل وكيركيجورد .
ويشير أسلوب المفارقة إلى الأسلوب الذي يكون فيه المعنى الخفي في تضاد مع المعنى الظاهري ،وكثيرا ماتحتاج إلى كد الذهن والتأمل العميق للوصول إلى التعارضات، وكشف دلالات هذا التعارض بين المعنى السطحي والمعنى الخفي المتخفي في أعماق النص.
والمفارقة ممارسة أدبية تضرب جذورها إلى عصور الأدب الأولى،ولهذا تتعدد تعريفاتها فالفيلسوف الألماني (نتشه)يقول"إن ما لاتاريخ له هو الذي يمكن تعريفه ،أما مايملك تاريخا طويلا فان تعريفه يصبح مسألة صعبة"(1).
ومن أهم تعريفا ت المفارقة.
يعرف شليجل المفارقة بأنها "شكل من النقيصة"(2) .
فالمفارقة عنده تعني السمو فوق الذات وهي الموضوعية.وتعريف شليجل هو الذي عرف فيما بعد بتعريف المفارقة الرومانسية،حيث ربط بين هذا المفهوم بالجمال عندما قال "إن الشئ الجميل هو ذلك الذي له علاقة بالكوني اللامحدود"(3)
ويعرفها محمد العبد أنها "أداة أسلوبية فعالة للتهكم والسخرية "(4) وعند أمينة رشيد نجد أنها "نظرة إلى العالم وموقف من حقيقة الأشياء"(5) والمفارقة تتيح للقارئ الناجح أن يصل إلى حالة من التوازن الداخلي وحالة من الحس المتزامن.
يقول ميويك "أهمية المفارقة في ألأدب مسألة لاتحتمل الجدل،وليس على المرء أن يؤمن بالرأي الذي عرضه مرتين على الأقل ولأسباب شتى،إن الفن جميعا والأدب جميعا يتصف بالمفارقة،من حيث الجوهر ...إن الأدب الجيد يجب أن يتصف بالمفارقة، وما على المرء إلا أن يسرد أسماء
الكتاب الذين تتميز أعمالهم بوجود المفارقة فيها :هوميروس،ايسخليوس،سوفكليس ، ثيوسيدوس،
أفلاطون ،كيكرو،هوراس ،فولتير،ديدرو،جوته،ستندال ، جين أوستن،بايرون ، هاينه ، بود لير،
جوجول ،دستوفسكي ،فلوبير ،ابسن،تولستوي ، مارك ثوين،هنري جيمس ،تشيخوف ،برنارد شو،
بيراندللو ،بروست ،توماس مان ،كافكا،موزل ،برخت...الخ"(6)
وقد استخدم الأدباء العرب المفارقة في أعمالهم الإبداعية ومنهم نجيب محفوظ، يوسف إدريس،
محمود درويش ، أمل دنقل ، الصادق النيهوم ،سعدي يوسف ، احمد إبراهيم الفقيه ، ألبياتي ،حنا مينا ، جبرا إبراهيم جبرا ،خليفة ألفاخري ،جمال ألغيطاني ، يحي الطاهر عبد الله ،صنع الله إبراهيم ،أمين مازن ،سالم الهنداوي،عبد الرحمن منيف....وغيرهم .
ولهذا نجد متعة عظيمة في قراءة أعمال أولئك الأدباء المتميزين، لأنهم عبروا عن أنفسهم بهذا الأسلوب الذي يعني الحياة نفسها فهي قائمة على المفارقة، فالحياة تقوم على مجموعة من الثنائيات المتناقضة،مثل :الحياة والموت ،والصدق والكذب،والضوء والظلام ،الحرب والسلام،والحرية والعبودية،والعلم والجهل الخ .
أن الأدب أكثر شمولية من التاريخ والسير، وخصوصيته أكثر من علم النفس وعلم الاجتماع فمن خلال قيم المعرفة في القصة والرواية ،هناك قيمة يمكن أن يعرفك بها الروائي أو القاص أكثر من عالم النفس أنها القيمة البيسيكولوجية التي تكشف الحياة الباطنية للشخصيات .
ألقذافي و استخدام تقنية المفارقة
استخدم ألقذافي أسلوب المفارقة في مجمل أعماله القصصية، فهي العنصر المهيمن فيها، فقد نجح في استخدام سخرية المفارقة سخرية التهكم الاجتماعي الذي يحقق فائدتين هما:
الأولى: إن المجتمع به كثير من العيوب يضيق بها الناس ولا يعاقب عليها القانون لعدد من الأسباب لحفائها أو لنفوذ أصحابها أو لأسباب أخرى وفي هذه الحالة لابد أن يعبر البعض عنها بالتهكم والسخرية.
ثانيهما: أن العيوب الاجتماعية نوع من التصلب والجمود والتخلف عن مجاراة ومسايرة المثل الأعلى، ولا سبيل أجدى من التهكم في تقويم اعوجاج سلوك الناس وعلاج أمراضهم وحملهم على المرونة في نفسيا تهم وطباعهم وأخلاقهم وأعمالهم"(7)
ان استخدام الكاتب لأسلوب المفارقة كان بارعا،خصوصا في قصته موضوع دراستنا قصة " الفرار إلى جهنم " فهو استخدم تقنيات عالية في كتابته للقصة،بتجاوزه للقوالب القديمة للقصة وتجاوز كل ما هو تقليدي في النص الأدبي،وطرح في هذه القصة الأسئلة الأكثر اتصالا بالإنسان ووجوده.
قصة قامت على مستويين أول ظاهر وآخر عميق هو جوهر النص، فهو الذي يقودنا إلى معرفة الحقيقة، حقيقة الشخصيات الداخلية من خلال الرموز التي خلف العبارات والتراكيب التي يستخدمها.
إن الكاتب "لايقصد بجهنم جهنم العقاب الأخروي ، إنها البادية بكل ماتعنيه البادية للإنسان البدوي،ولهذا لابد لنا آن نبحث عن مرجعية النص في تلك البوادي فعنصر الإحالة جزء أساسي من تكوين هذه القصة والإشارات التي واردها الكاتب عن طبيعة المكان الذي اسماه جهنم ستقودنا بيسر وسهولة إلى بادية سرت بالذات فالذين يعرفونها يعرفون أن هناك منطقه بين شعابها أطلقت عليها الذاكرة الشعبية اسم "جهنم " ربما بسبب القيظ وعدائية أرضها القاحلة"(8)
وعند الدخول إلى هذا النص الممتع من خلال المفارقة، نرى استخدام اللغة الذي ينتج المفارقة فمثلا في التراكيب التالية:
كم أحب حرية الجموع وانطلاقها بلا سيد______ ولكني كم أخشاها وأتوجس منها.
إني أحب الجموع كما أحب أبي___________ وأخشاها كما أخشاه.
كم هي عطوفة في لحظة السرور_________ كم هي قاسية في لحظة الغضب.
نرى الكاتب هنا يحب للجموع الحرية والانطلاق من كل القيود ،فقد جاء من أجل ذلك فهو يحمل لها الحرية والأنعتاق "ولكن الالتحام بالجموع وحالة الاشتباك مع البشر ،حتى ولو كان الهدف تغيير واقعهم تجاه الأفضل والأجمل،يعني أعباء ومسؤوليات ثقيلة،ولعله يعني درجة من الإحباط والإحساس بالخذلان،لأن الشمس التي جاء بها قد تلقى أناسا لايحبونها،إن الشمس قد تعشى بعض الأبصار التي لا تعيش إلا في الظلام"(9)
يقول الكاتب عن الجماهير " كم هي عطوفة في لحظة السرور، فتحمل أبناءها على أعناقها...فقد حملت"هانيبال" و "باركليز" و "سافونا رولا"و"دانتون" ...و"روبسبير"و "موسليني" و"نيكسون" وكم هي قاسية في لحظة الغضب فتأمرت على "هانيبال" وجرعته السم،وأحرقت "سافونا رولا"على السفود...وقدمت بطلها "دانتون"للمقصلة وحطمت فكي"روبسبير"خطيبها المحبوب...وجرجرت جثة"موسليني" في الشوارع ...وتفت في وجه "نيكسون " وهو يغادر البيت الأبيض بعد أن أدخلته أليه وهي تصفق.
ياللهول ...من يخاطب الذات اللاشاعرة كي تشعر؟؟من يناقش عقلا جماعيا غير مجسد في أي فرد؟؟من يمسك يد الملايين ؟؟من يسمع مليون كلمة من مليون فم في وقت واحد؟؟من في هذا الطغيان الشامل يتفاهم مع من ؟؟من يلوم من ؟؟..."(10)
إن القائد جاء ليخلص الجماهير ويعطيها الحرية ،يخشى أن تفقد هذه الحرية التي جاء من اجلها لأن الجماهير في لحظات معينة لايمكن السيطرة عليها فربما تعمل عكس مصلحتها ويسرد من التاريخ أسماء أبطال ثاروا من اجل شعوبهم فقتلتهم الجماهير بشكل أو بأخر،وتساؤلات القائد هنا مشروعة ،فمن يناقش عقل الجماعة غير المجسد ومن يناقش الملايين ويسمع منها ومع من تتفاهم في هذا الخضم
والكاتب الذي يأخذ هنا دور الراوي للأحداث في هذه القصة يؤكد انه بدوي بسيط دخل إلى مدينة مجنونه فهو لايحمل حتى شهادة ميلاد وانه دخلها في ظرف تحد فحسب يقول:
"فبماذا اطمع أنا –البدوي الفقير التائه-في مدينة عصرية مجنونة أهلها ينهشونني كلما وجدوني ابن لنا بيتا، امدد لنا طريقا..."(11)
وكأنه يقول إنني لازلت على طبيعتي وسجيتي البدوية التي تمجد القيم والأخلاق النبيلة ،ولم تؤثر في مدينتكم التي ترونها جنة،المدينة التي يوضع فيها شرطي لكي ينظم السير ويضبط الأمن ،وتحتاج إلى كثير من الخدمات مثل مياه الشرب والمجاري والمساكن وغيرها من متطلبات المدينة العصرية والتي عن نشوءها –المدينة-انتشار السلوك الاجتماعي غير القويم من السرقة والكذب والخداع وغيرها.
ثم أن القائد قد جاء ليعطي الحرية للجموع التي عليها أن تدير أمرها بنفسها وتقوم بتقديم الخدمات من خلال أجهزتها الشعبية التي أقامتها فهو يرفض أن يكون بديلا لنظام تقليدي متعفن أسقطه بالثورة التي قام بها من اجل الجماهير.
يقول المؤلف انه لذلك فر إلى جهنم التي كما أكدنا سابقا ليست جهنم العقاب الأخروي،أنها بادية سرت التي تحولت بفعل الثورة إلى مزارع خضراء ،ولهذا اللجوء إلى البادية سبب أخرمهم هوانها بيئة لازالت على طبيعتها فهي غير ملوثة بيئيا أو اجتماعيا ،أنها العودة إلى الطبيعة حيث القيم والمبادئ .
ان السخرية التي نراها في هذه القصة هي سخرية ليست عادية أنها سخرية المفارقة،التي"لاتعني الهجوم على نحو ما تفعل السخرية المجردة،كما أنها لاتتعمد تعرية الشخص المهاجم من ادعاءاته وأسلحته بهدف كشف حقيقة داخله،وإنما يظل صاحب المفارقة على خلاف ذلك شريكا كاملا للضحية في مأساتها ومحنتها"(12)
فالكاتب عندما يسخر من المجتمع هو في حقيقته متعاطف مع هذا المجتمع،للتخلص من السلبيات التي تعيقه في صناعة تقدمه ،فالمفارقة هنا ناتجة من تعارض القيم بين البادية والمدينة ،فالمدينة يراها الكاتب شئ مزيف اصطناعي ،ولكن البادية شئ طبيعي يحمل قيم وأعراف وهي بالتالي لا تحتاج ماتحتاجه المدينة.
إن معمر ألقذافي " ليس كاتبا رومانسيا ،انه كاتب واقعي وغاضب،ناقدا للأحوال الاجتماعية التقليدية وثائر عليها وكما قالت كلارا ريف "الرواية-أي الحكاية والقصة-صورة عن الحياة الواقعية وعادات الناس،وعن العصر الذي كتبت فيه،أما الرومانس المكتوبة بلغة منمقة بليغة،فتصف ما لم يحدث أبدا،وما لم يحتمل حدوثه أبدا "(13)
إننا في هذه القصة نلتقي بأول شحنات الغضب،هذا الغضب الذي يتفجر فنا،ويحول الواقع إلى شظايا ،ثم يعيد تركيبه سبيكة فنية،نكتشف من خلالها أن الفرار إلى جهنم ،قد أصبح هو الطريق الوحيد للخلاص،حيث نقف وجه لوجهه أمام نقاء هذا البدوي الذي جاء من الصحراء ،وهو يحمل فوق ظهره،وعدا للآخرين بالحرية والأنعتاق"(14)
يقول النقاد أن القصة هي تصوير للواقع ولهذا يجب أن تبتعد عن النمطية والقوالب المسبقة،إن الكاتب يلتقط الأحداث وهي تجري ليسجل اللحظة بكاملها،بكل ماتتضمنه من أفكار وأحاسيس ،وتعكس الفوضى واللامعقول لأن ذلك كله موجود في الحياة التي بها لحظات تتحدى المنطق.
أن كاتب قصة "الفرار إلى جهنم"كتب ما يجري في هذه الحياة دون فذلكة أو تقيد بما يقول النقاد ودونا الالتزام بقواعد ثابتة تقتل الإبداع والفن.
سالم مسعود العرابي
محروقة الشاطي في2007-04-12
الهوامش:
(1)-دي.سيي. ميويك ,المفارقة وصفاتها،ترجمة عبد الواحد لؤلؤة ،دار المأمون بغداد1987ص19
(2)المرجع السابق ص35
(3)نبلة إبراهيم، فن القص بين النظرية والتطبيق، مكتبة غريب القاهرة.ب ت.ص204
(4) محمد العبد، المفارقة القرآنية، دار الفكر العربي القاهرة الطبعة الأولى 1994ص18
(5) أمينة رشيد، المفارقة الروائية والزمن التاريخي، مجلة فصول المجلد11العدد4سنة1983
(6)ميويك،مرجع سابق،ص15،16
(7)نجلاء علي الوقاد،بناء المفارقة في فن المقامات،دار الآداب القاهرةط2006ص139،138
(8)احمد إبراهيم الفقيه، حول قصتي الفرار إلى جهنم، والموت.قراءة أولي ملحق بالمجموعة القصصية "القرية القرية الأرض الأرض"
(9) ياسين رفاعية ،أدب معمر ألقذافي سخرية مرة لاذعة من الواقع،بحث منشور في كتاب"قراءات في أدب ألقذافي "منشورات المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضرص57.
(10) معمر ألقذافي،قصة الفرار الى جهنم ،الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع،1423ص45.
(11) المرجع السابق ص 57.
(12)سعيد شوقي ،بناء المفارقة في المسرحية الشعرية،ايتراك للنشر القاهرةط2001ص75.
(13)ياسين رفاعية،مرجع سابق ص56