انتبهتْ إلى عينيها تنظر إليه برغبة شرسة، وترمقه بعاطفة مدفونة، هوى عليها من مكان لا تعرفه، تقاطرت الأنسجة من كل صوب تلفحها وتلفعها ألواناً وألواناً من الحرير، وهي تتفحصه بشوق إلى كلام وكلام، هل شغفها حبا وهو يعبر فوق الجسر
الخشبي يتهادى بطو له لا يبالي بشيء، أنهت المحاضرة الأخيرة لتوها وهي في طريق عودتها إلى غرفتها عبر المنتزه الرئيسي للجامعة، من حولها التلال والجبال، تتوجها قطع الثلج الناصعة تحت شمس ساطعة مشعة لولا أن الحرارة تقترب من الثامنة في أوائل آذار، الغزلان البرية على السفوح القريبة حذرة من المتنزهين وهي تعدو فرحة بذوبان الثلوج مستقبلة العشب الطري اللذيذ بعد غياب، وأوراق الشجيرات الصغيرة الطرية تنتظر أفواه الغزلان كي تلثمها ثم تمضغها، استدار نحوها وأوقفها في منتصف الجسر بادئا بالاعتذار ماداً يده وفيها آلة تصوير، غالبت نشوتها المكبوتة، واستقر هو بجانبها، ابتسمت ومدت يدها وهي تنظر إلى تعبيرات وجهه وحركات جسدهِ وقوة ساعديه، تفاعلت النظرات، طلب منها أخذ صورة فمشت للخلف ببطء إلى طرف الجسر، أخذت صورة ثم صورة، اقترب منها وهو يمد يده لاستعادة الآلة، قال:
- من المؤكد أن الصورة جميلة لأن عينك أخذتها
ما أسعدها، كلمها قبل أن تبوح بما في بالها تجاهه، حقق ما رغبت به، نفسها تتوثب بشراهة، هل ترمي بجسدها نحوه وتلقيه أرضا أم تفتح يديها وتستلقي سابحة مع الهواء البارد. إنه رقيق بحذر، وجذاب بعجب، سألها عن البحيرة خلف المنتزه واستفسر عن المنتجع حولها وعن الجبال والغزلان والشمس الكبيرة الباردة، لم يمض على قدومه إلى هذا البلد سوى أسبوعين، أتى لإكمال دراسته في هذا البلد الغريب وليست الغربة جديدة عليه، فجأة اهتز الجسر مصدرا أصواتا بصرير، توهما أنه يتصدع، توقفا عن الحركة، أمسك يدها وتمسكت بيده وخاصرته، ضحكا ثم خرجا إلى العشب والزهر وأوراق الشجر، نسيا ما حولهما واتحدا في فكرة واحدة تمضي وتهرع بين قلب وقلب، شرارات تنبعث منها نحوه فتشحذ أعطافه، وأشعة منه تنهال عليها فتؤججها، وأوراق غضة طرية تنتظر الغزلان لتهبط وتقضمها بعد رحيل المارة والمتنزهين، انتهت به إلى غرفتها يرشف القهوة ويأكل فطيرة قالت هي من صنع يديها، عبرت بها الحياة إلى شطآن سعادة من حولها بحار نضارة مكشوفة وحيوية مفتونة، وعرفت الكرة الأرضية في لحظات ألحانا متناغمة متناهية في الدقة على أوتار المدار، والشمس تصدر عواصفها المتأججة، من بعيد يصل نورها الدافئ دون دفء والعاصفة تمتحن سلاسة الدروب في الطريق عبر القمم الجبلية البيضاء.
وبين ليلة وأخرى تحتدم الجبال برؤوسها، العشب تحت الندى، وأوراق الشجيرات الغضة تلوكها أفواه الغزلان، هما يجلسان على السرير يرشفان القهوة ويسبحان في الكلام والألحان، نفس القهوة ونفس الفطيرة، السرير صغير، وأضواء رؤوس الجبال تصد وتبعد ما تبقى من عواصف الشمس أثناء النهار، يخرج هو مع طلوع الفجر، ينسل من باب الغرفة قاصداً مسكنه، يكمل مانقص من نوم، ترك وراءه عبادات وترك وراءه مستقبلا يصفعه على أم رأسه كلما عاد إلى رشده، ترك وراءه عواصف تتعثر في حفرات الطريق، وقد أعجبته شراهتها المستطيرة، نهمها الغرائزي، توقدها الفارع، وسكونها المريب، لم يأبه لتحليل تصرفاتها فهو في غمرة الألحان الفضائية، والانفعال الجرار، واتقاء العواصف دون دراية، والعشب تحت الندى، لم يكترث بما عانته هي من الوحدة والعزلة وما أتاها من مساوئ الاضطرابات النفسية قبل لقائه، تخبره بما كان، وهي منهمكة في أفق السرير وحوله والجو يميل إلى البرودة في الليل والغزلان ما تزال تهبط من أجل الأوراق الشهية الندية، يسمع القصة تلو الأخرى ليلة بعد ليلة وهو يعب من تلك العلاقة النابضة بالعشب، وينهل من تلابيب السكون المريب مع الندى، تقول وتقول عن الماضي وعن التفكير بما هو آني يثير العواطف نحو عواصف الشمس،أخذ الملل ينسل إلى أفكاره والحذر ينسدل فوق شغافه من قصص لا تنتهي حول الظنون وحول عنفوانها الماضي المتعسف في خوض غمار الآتي من الحياة، ثم بدا له جلياً،كيف لم يره أو ينتبه له من قبل! لم يكن في هذه الحدة،لا لم يكن، ربما غطته العواطف المحتدمة وسترته الأفكار السطحية من عشق مزيف، لا عليك لعلها مذبذبة ومتشاطرة، وسوف أجد طريقي بعد حين في شعب آخر من شعاب الحياة، والجبال ما تزال تصد العواصف الشمسية أثناء النهار وترمي بنفسها متثاقلة تتنفس متعبة بذراها البيض في رقدة الليل وقد تخلصت من الغزلان إلى السهول المجاورة حيث العشب والأوراق، عاد ليستفسر عن نفسه فكيف يسبر أغوار غيره، المهم أن أحصل على ما أريد وأجد الرغبة والأهواء في الشراك، ثم شاب نفسه الحذر الشديد وانتابت قلبه الشكوك، ماذا تريد هي منه، وكيف يشحذ أفكاره للمضي إلى الصواب ؟
ما زالت الغزلان تتحسس الأرض وتلتهم أوراق الشجر التهاماً، وهاهو الندى يتكاثف رويداً رويداً تحت براثن العتمة، لم يَيِنِ الأوانُ كي يترك السرير وينسل من الغرفة آيباً إلى مسكنه، تململ على حافة السرير،أحس أنها أيقظته، أخرج رأسه من تحت الوسادة وكاد يسقط على الأرض،شعر بشيء بارد يلمس عنقه، يؤلمه قليلا، انتفض وعاد إلى حيث كان، كانت هي جاثية على صدره، قالت بيقين بارد وعينين مشدودتين: لو تحركت انغرست السكين في عنقك. نظر نحوها ببرود، وهو يقلب افكاره، إنها سكين على رقبتي، قال:
- لماذا أيقظتيني، كفاك مزاحا، كم الساعة؟
وقد أيقن أن الوقت مازال ليلا حين أردف:
- أراك لا تردين ولا تتحركين،انتهى اللعب!
تقلصت عضلاتها وتقارب حاجباها من بعضهما حين قالت:
- أنا جادة فيما أقول لا تتحرك وأجبني
- كفاك هراء إنه منتصف الليل
صرخت وعيناها تبرقان من الغيظ في ضوء الليل:- هذا هو أفضل وقت كي آخذ حقي منك يا ...!
تظاهر بالضحك وقال:- حقك بهذه السكين،ما الأمر! هل جننتِ!
- يا مغفل يا ناكر الود يا نذل، اتخذت مني ألعوبة تفرغ نزواتك عندي وترمي عواطِفَكَ الكاذبة في قلبي ولا تشعر بي وها هو الوقت حان ...
- ألعوبة ونزوات ووو..
لم يفهم شيئا وقد رأى إمارات الغضب الحقيقي في صورتها، هل يرى ما بداخلها الآن وهل هذه هي حقيقتها؟! وأردفت هي بحنق:
- أخبرتك مراراً وتكراراً ولا فائدة منك.
لا فائدة منك، لا فائدة منك، قال في نفسه وهو يفكر بالخلاص من هذه الورطة. هل ماتت الغزلان فلا أوراق ندية! أم هربت الجبال وتقاعست وعواصف الشمس قادمة! والآن ماذا يفعل! أيقوم بسرعة خاطفة بعد أن يضرب يدها بعيدا عن عنقه، لا.. لا.. هذا خطر ! أو ينسل إلى الأرض متدحرجا ثم ينهض مسرعا!
سالت بضع قطرات من الدم على عنقه، أحس بها وما إن مد يده لتمس مكانها حتى ردها ثانية من حيث أتت عندما أحس بحد السكين يضغط، ثم صرخ مدركا خطورة الموقف: توقفي، توقفي، لنتفاهم.
- سأذبحك وأقول أنك هاجمتني لتغتصبني، تدبرت أمري وأعلمت صديقات لي أن رجلا غريبا بصفاتك يطاردني ويهددني.
- حسبتك ترغبين بعلاقة مفتوحة
- خطر على بالي ولكن لا أمان للرجال ولا عهد لأمثالك عندي
- ماذا تريدين الآن، الزواج!
كانت أسنانها تصطك ويدها الملتفة على مقبض السكين ترتجف حين قالت:
- تهزأ مني أيها الوغد القذر، هل نسيت قولك لي استغلي وجودي هنا فأنا في فسحة ونزهة وسأعود إلى بلادي..
مرت على ذهنه تلك الخواطر بسرعة البرق حين كانت تخبره عن زوج أمها الذي مات مقتولا بعد أن كان يتهجم على أمها بحضورها ويشبعها ضربا حتى الإغماء، وقد كبرت وكبرت وهي ترى ذلك النذل ينهال عليها وعلى أمها ضربا تتفتح منه الأجساد وتدمى النفوس، وكيف تنسى تلك القصص الدنيئة المتوالية عن أبيها وعمها وأختها وغيرهم من عائلتها، ثم عادت له تلك القصة حين أضحت أمها ذات ليلة في المستشفى بين الحياة والموت وزوج أمها في المطبخ متمددا وسكين كبير منغمس في ظهره، أترى كانت تبالغ في قصصها وسكونها المريب، أهي قاتلة زوج أمها!! هذه هي عواصف الشمس تتعدّى الجبال وتمحق العشب وتيبس الأوراق.
تحركت يدها بعصبية على عنقه فصرخ من الألم الحاد وفي لمح البصر خيل إليه أنه انتصب واقفا لا يرى من الدنيا شيئا سوى كوة تكاد تضيء من الأمل في توبة لعل الكابوس يغلق بابه.
تسلموا لمروركم المشرق والمشرف على موضوعي
تحياتى وتقديري واحترامي لكم
احمد ابو خشيم
°˚◦ღ•.Ahmed.•ღ◦˚°