بسم الله الرحمن الرحيم
حين يستسلم الرجال للبكاء
طالت به الأيام و امتدت به الأزمان ، تقلب في حضن مدرسة الحياة ردحا من الزمان ، ولا يزال ، جمع من دروسها ما لم يتسن لكثير ممن طالت أعمارهم وقصرت أحلامهم ، رغم أنه لم يقرأ كتابا ولم يحمل قلما ، ولم يخط حرفا ، إلا أنه يعد بذاته كتابا من كتب الزمان ومدرسة من مدارس الحياة ، محياه المرسوم بتجاعيد الحياة الموسوم بصروف الدهر المنحوت بنوائب الأيام يوحي لمن يتأمله أشياء وأشياء ، وخاصة تلك الشيوب المنتشرة على وجهه والتي ظلت تصارع أعاصير الحياة وريح الشيخوخة من أجل أن تبقى سطورا وجملا وعبارات تختصر لناظريها كل معاني ورجولة وشهامة الأجداد
رحل عنه الأصدقاء والأحباب وبقي وحيدا يكابد من أجل البقاء ، انقضت دورهم وسويت جدرانها وطمست معالمها ، جرفتها الأيام والسنون والنوائب ، ولم يبق منها إلا رسوما يبكيها ويشكيها ويأنس بها يراها الناس أحجارا متقادمة وأسسا متآكلة ، وأطلالا متناسية ، ويراها ملءى عامرة تختزن ذكريات أيام الخيل والخير والأصدقاء ، وينظر إليها وكأنها لا تزال قائمة على أصولها ، وأهلها عليها قائمون وهم لها ساكنون ، ويتذكر صهيل الخيل ومأمأة الخرفان وصياح الديكة ، فتأسره تلك الذكريات الجميلة ، فيسترخي بظهره على كوم من الأحجار، ويطلق عنان ذاكرته لترجيع إلى الوراء سنوات وسنوات ، وتقلب بين صفحاتها لتسترجع تلك اللحظات الجميلة وكأنها لا تزال صورا حقيقية حية في الحال والآن ولم تصبح نسيا منسيا في خبر كان ، ويتذكر أزيز النحل في الأنوار، وخرير المياه في السواقي ، وحفيف الأشجار، وزقزقة الطيور على الأغصان ، وتغريد العصافير والبلابل والأطيار التي تمتزج مع زغاريد الفتيات وأغانيها في التلال والربوات والسفوح وقمم الجبال ، وتقدم لوحات فنية رائعة للفلاحين المنهمكين في خدمة حقولهم وتنمية أشجارهم وتشذيبها ، وللنساء الكادحات في عمل البيت وغزل الصوف في الفناء ومخض اللبن في ظل الأشجار ، وللسامعين المستلقين في ربوات ذات قرار ومعين من النعمان والأقحوان
ولم يدم على حاله ذاك طويلا ، ولم يطل أسره كثيرا ، حتى أيقضه قيض الحر ووخز الحجر، وترك عيناه هائمة في الفضاء حوله فوجد الزمان قد طوى كل شيء وكأن الذي كان ما كان ، وبراثين الجفاف أسفرت عن وجه الأرض وخدود الجبال ، جفت المنابع والسواقي والمجالب ، وأصبح الماء غورا وبئر معطلة ، وحتى الشجر العالي الذي كان يتباهى بشموخه وجبروته وصموده أمام الشدائد وقساوة المناخ والجفاف وعواصف الدهر وضربات الزمان ، استسلم وخر صريعا بين أيدي الحطاب الانتهازيين ، وأضحى ملعبا للأطفال والخرفان ، وملاذا للقطط والكلاب .
وقف لحظة يتأمل وجه الأرض المكلوم وأديم السماء السافر من السحوب والغيوم ، ثم طفق يهرول إلى بيته وقلبه لقمة صلبة بين أنياب الهموم وأظافر الأحزان ، في الطريق استوقفته بقايا أثافي قديمة وكأنها كانت تعلم شأنه وحاله وبالذي ألم به وشرد باله وحير عقله وجرح كبده وفؤاده ، بكاها وتباكى معها واسترسل طريقه بخطواته المتثاقلة بأنواع الهموم يتخطى أسس البنيان ورسوم الخيام والحواضر وهو يمسح دموعه ولسان حاله يردد قول الشاعر:
أمر بالديار{ديار الأحباب } أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا
فوجد أن أيدي الزمان امتدت إلى الدور والدوار فخربته وهجرت أهلها وسكانها ، فمنهم من قضى نحبه وتلقفته المنايا وضمه القبر وغطاه التراب ، ومنهم من فر إلى المدينة من بطش الجفاف وقهر الزمان والحقب وإذبال بين أزقتها وشوارعها ، واستبدل مكرها أو مضطرا هدوء البادية ومأمأة الخرفان وصياح الديكة وأريج الأزهار بصخب المدينة وضيقها ليبقى سجينا بين جدرانها
إلا أنه بقي في البلدة والدار والدوار يصارع من أجل البقاء رغم كل المعاناة والوحدة التي ظلت أنيسه الوحيد في ذلكم الدوار المهجور ، حتى الأبناء الذين كان يظن أنهم سيضمنون له البقاء والاستمرار انساقوا وراء العاصفة وتركوه وحيدا يأنس بهمومه وأحزانه ووحدته ، وكان يستمد قوته من الرغبة في البقاء في البلدة التي منها لحمه وعظمه وفيها طوى أغلب صفحات حياته ، طفلا رضيعا ، وشابا قويا جلدا ، وكهلا ، وشيخا كبيرا .
إلا أن تلك العزيمة الفولاذية ستفتر مع مرور الأيام ، إذ تقدم به العمر كثيرا وهن عظمه ، وقل سمعه ، وخفت بصره ، واستسلم للأقدار كما استسلم لها أصدقاؤه أحبته من ذي قبل وستحمله العاصفة قهرا وقسرا لترميه حيث رمت أصدقاءه ليعيش ذليلا مقهورا مهانا .
جمع أمتعته المتواضعة ، وثيابه الرثة وهو يقبلها ويتمسح بها كما تتمسح الثكلى بثياب وحيدها الفقيد ، يتمتم ، يبكي ، يرتجف ، وضعها في مكان آمن من الأرضة والديدان والفئران ، لبس جلبابه المتقادم ولف جسده بسلهامه البالي كما لف رأسه المهموم بعصابته التي فقدت لونها ورونقها بتقادم الأيام وحرارة الشمس .
طاف بالدار والدوار وأطلال الأحبة والأصدقاء يودعها مكرها كما ودعوها هم مرغمين ، عاد إلى البيت ليلقي عليه النظرة الأخيرة ، جلس داخله وهو جاثم على ركبتيه وهو ينظر إلى أمتعته التي ظل كل حياته يتقلب في أنسام سعادتها ، رغم تواضعها وقلتها ، إلا أنه لم يفارقها يوما ولم تحدثه نفسه وأراجيفه بذلك ولو مرة واحدة ولو عن طريق الخيال ، فها هو يتركها ويرحل عنها وهو يتمنى لو أنه رحل إلى دار البقاء ليستره التراب لينأى عن مطاردة الهموم في ظلمات الأحزان .
ظل يبكي حتى ابيضت عيناه من الحزن وهو كظيم ، خرج وأغلق الباب بإحكام ولم يصحب معه من أمتعته الجميلة والعزيزة سوى تيمما وآنية حديدية للوضوء توارثها عن الأجداد ، وعصاه التي يتوكأ عليها ، مشى ودموعه تسبقه ورغبة البقاء في البلدة والتراب تشده إلى الخلف والأمتعة والدار والدوار والحجر والأطلال .
وقف ساعة يتأمل ويقلب وجهه في السماء يودع الأكوام والأيام والأودية والحجر والشجر والجبال والتلال ، ثم طأطأ رأسه متألما متحسرا ساخرا من ارتدادات الزمان وتقلبات الدهر والأيام ، ثم زاد مع العاصفة حاملا همومه وأحزانه وأسراره وهو يستعيذ بالله من قهر الحياة ونوائب الدهر .
قطع مسافات طويلة في الشعاب والطرقات والدروب والأزقة والشوارع حتى اهتدى إلى مستقر ابنه وفلذة كبده ، وقف ساعات وهو يحترق بنار التردد وأشعة الشمس وهو يفرقع أصابعه في حيرة من أمره ينتظر عسى أن يخرج أحد حفدته أو ابنه ليدخله الدار ليحافظ ولو على قليل من كرامته .
بينما هو يتحسس ويقدم رجلا ويؤخر الأخرى على حميم الحيرة والتردد ، لمحت عيناه أصغر حفيداته تهرول في لهفة وشغف من رأس الزنقة نحوه ، انحنى ووضع كفيه على ركبتيه كالراكع وهو ينتظر وصولها ، ارتمت بين يديه معانقة إياه بدافع البراءة والفطرة تقبل رأسه المهموم ويديه الخشنتين ، دخل معها الدار وهو ينعم بقبلاتها الطفولية البريئة ويرطب جروح وقروح أحزانه العميقة بكلماتها الجميلة وهي تسأله عن الحال و النعاج والخرفان والأودية والسفوح وقلبه يعتصر بألم الأسى والحسرة والحزن الكظيم الذي يحرق الوجدان .
وبعد حين دخل ابنه وزوجته عائدين من العمل والتسوق ، والزوجة سافرة الأطراف مسدولة الشعر بلباس أقل ما يقال عنه أنه عار من الحشمة والشكيمة والوقار واحترام إنسانية الإنسان ، سلم عليه ابنه وفلذة كبده سلام الحائر كما سلمت الزوجة سلام الرافضين ، سألهما عن الحال والعمل ، كما سألاه عن الحال والمآل ، فأخبرهم بالذي كان وأنه جاء هم هاربا من بطش الدهر ليستقر عندهم حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا وكان أمر الله قدرا مقدورا .
وبعدة مدة تحمل كل معاني الرفض وعدم الترحيب ، قدم له الشاي باردا كرسالة تحمل كل معاني الرفض ، حملق بدهائه الفطري في الوجوه المنافقة فعرف أنه غير مرحب به ، وأن تلك الوجوه تقول له بلغة الإشارة لا مكان لك عندنا ولا مستقر ، لعق ذلك الشاي ثم حمد الله وأثنى عليه كعادته ، نظر ذات اليمين وذات الشمال فوجد أن الأرض قد ضاقت به بما رحبت والسماء بما وسعت ، بات ليلته تلك على لسعات الشوك وحر الجمر والنار.
في الصباح دخلت زوجة ابنه على حالها مسدولة السعر عارية الأطراف بصليبها المعلق على جيبها العاري من الحياء والرحمة والشفقة ، ألقت السلام بلكنة ممزوجة بالحقد والاحتقان .
رد السلام وطأطأ برأسه إلى الأرض ، ودموع الأسى والحزن جامدة على جفنيه المثقلة بالنوم والهموم ، فلما خرجت رفع رأسه إلى الجدار فصادفت عيناه صورة زوجته ـ الصافية رحمها الله ـ ووجهها يطل من وراء لثام موصول بملحف ـ الحايك ـ أبيض كما تطل شمس الربيع الصافية من وراء ركام الغيوم وناصيتها البدرية موسومة بوشام أمزيغي مغربي أصيل يحمل كل معاني الحياء والوقار والعفة والاحترام وعزة النفس والخجل الممزوج بأريج الأنوثة الفتانة ، فذابت دموعه الجامدة على أطراف أجفانه بدفء الاعتزاز والفخر والشوق إلى سالف الأيام وماضيها الذي رحل بلا عودة ، فتبسم ضاحكا ضاربا كفيه ببعضها مشبكا أصابعه مهززا رأسه الشامخ شموخ تبقال ساخرا من عواقب الدهر ثم سكت .
ولم يطل به الحال والمقام حتى صار في بيت فلذة كبده كأضعف الأيتام يقتات مما فضل من الطعام والفتات ، ديست كرامته في بيت من احتضنه صغيرا ، وتمرغت عزته وأنفته في رغام النكران وكفر الجميل في دار من رباه وليدا .
تسربلت عليه الهموم بأنواعها وحطت بأثقالها على قلبه المكلوم تمزقه بأنواع العذاب الأليم ، قل كلامه وانزوى على حاله ، نفذ صبره وفارقته ابتسامته التي لم تفارق محياه منذ أن شب عن الطوق ، وذات مساء خرج في الشارع يقلب عمن يتقن الكتابة ، فاهتدى إلى شاب فطلب منه أن يكتب له هذه الرسالة :
• بني العزيز أنت من كبدي ودمي احتضنتك صغيرا ووليدا وشابا وكلما احتجتني ها أنا ذا احتجتك ورفضتني ؟
• بني جعت لتشبع أنت وها أنت تملأ بطنك وبطن من كابد كل حياته من أجل شبعك تتقطع وتتضور جوعا في دارك ؟
• بني كم سهرت من الليالي من أجل راحتك ها أنت تنتظر متى تسترح مني
• بني العزيز كم كنت أتـألم لألمك ها أنت لم تلق لي بالا وأنا كلي ألم وحزن
• بني العزيز كم أذرفت من الدموع حزنا لأحزانك ها أنت بني العزيز لم ترع بالا لأحزاني وآلامي المكنونة ؟
• بني العزيز عريت نفسي صيفا وشتاء لتلبس أنت ها أنا ذا عار بين يديك والخير عند ك ولم تستر الجسم الذي عانى كل حياته من أجلك ومن أجل راحتك ؟
• بني الحبيب كم اجتهدت قدر إمكاني أن أقدم لك أفضل الطعام وأحسنه وألذه ها أنت معيل أباك من الفضل والفتات ؟
• بني العزيز كم مسحت من الدموع من على خديك صغيرا وكبيرا ها هو ذا أبوك تحترق دموعه على خديه بسبب نكرانك أنت؟
• بني العزيز آويتك صغيرا وضعيفا ولما صرت قويا وصرت ضعيفا طردتني بنكرانك من بابك وباب الله أوسع وأكرم ؟
• بني العزيز كنت تأتيني حزينا محتاجا وتعود من عندي مسرورا ها أنا ذا جئتك حزينا وعدت من عندك كئيبا مهانا ؟
• بني العزيز كم كنت عزتي ومفخرتي بين أصدقائي ، ها أنا ذا صرت حقيرا وحقارة بين أصدقائك ؟
• بني العزيز إذا مرضت كنت أبيت كالدك المقطوع الرأس أبحث لك عن الدواء والعلاج ، ها أنا ذا أتمزق بين أظافر الأمراض والأسقام بين جدرانك ولم تسألني حتى عن حالي ؟
• بني العزيز كم كنت أفرح بقدمك وأنسى همومي كلها ، ها أنت تحزن بقدومي وتغرق في الهموم بسببي ؟
• بني العزيز كم ، وكم ، وكم....ولكن ها أنا ذا ........؟
• بني العزيز سامحتك عن كل هذا النكران ، ومن أجل راحتك أنت ها أنا عائد أدراجي إلى بلدتي ، تركت لك السلامة والعافية ؟
شكر الشاب وطوى رسالته كما طوى أحزانه ووضعها في قب جلبابه ، فأقبل راجعا إلى دار ابنه وكأن شيئا لم يقع ، وضعها مكانه ، ثم انسل راجعا إلى بلدته وأرضه وقلبه يعتصر بالأحزان والآلام ، يذرف الدموع حزنا وألما يخطو خطوات ثقيلة لم تستطع قدماه النحيفتان تحملها ، .
في الصباح استيقظ الجميع فذهب إلى المدرسة من ذهب وذهب إلى العمل من ذهب ، بينما هو المسكين المطرود يواصل طريقه الشاق نحو البلدة والدار والدوار يحترق بحرارة الشمس الملتهبة ونار الأحزان المسعرة بداخله ، يتساءل مع كل خطوة يخطوها أين الملجأ وأين الملاذ ؟ أين المفر وأين الهروب ؟ ويردد "رب إني وهن العظم مني" وقلت حيلتي ، ربي رحمتك أرجو
يسمح الدموع المحترقة على خديه مرة بيده ، ومرة بكم جلبابه ، تورمت قدماه وتقطعت نعاله ، أنهكه المشي والعطش والجوع والهموم ، يسير وهو يرتعد ويتمايل ، يجلس مرة على التراب ، ومرة على الحجر كيفما اتفق ، يتمتم ، يسكت ، هائم في التفكير في الحال والمآل ، من حين لآخر يرفع رأسه إلى السماء يتأمل الشمس الحارقة والسحوب الركينة المتراكمة على قمم الجبال ، يردد ربي رحمتك أرجو
تقدم كثيرا نحو البلدة والدار والدوار حيث بدأ يستنشق رائحتها ، طل من على تل على البلدة ، تهند واستنشق الهواء النقي ، حرك رأسه يمنة ويسرة وابتسم ، جلس الأرض ومسح الدموع ، ارتاح قليلا وواصل الطريق ، اقترب من دكان الدوار والجوع يقطع أمعاءه ومعدته التي لم يدخلها طعام منذ أيام ، قلب الجيوب ولم يجد درهما ولا دينارا ، وقف ساعة يتألم ، فكر كثيرا هل يذهب عند صاحب الدكان ليأخذ الخبز ، أو ليطلبه منه ، تردد كثيرا ثم قرر أن يحافظ على ما بقي من كرامته ، واصل طريقه نحو الدار التي استظل قليلا عند جدارها قبل أن يفتح الباب ، دخل وحل أمتعته التي ودعها قبل أسبوعين ، أراد أن يأخذ قيلولة وبرهة من الراحة ، لكن الجوع مزق أمعاءه ، ولكن لا درهم لا دينار طاف بالبيت وجد كسرة خبز يابسة فرح فرحا شديدا ، رطبها في الماء فأكل منها قليلا ثم سلم جسمه المنهك إلى الأرض ليأخذ قسطا من الراحة
وفي الزوال عادت الحفيدة تلهف إلى جدها ولم تجد مكانه سوى تلك الرسالة فأقبلت عليها تسقيها بدموعها وأحزانها ، وفي المساء قدمتها لأبيها قرأها وطار في سيارته إلى البلدة ، ولكن هيهات ، هيهات وجده بين أمتعته الرثة جثة هامدة قد فارق الحياة والخبز اليابس في الصحن عند رأسه يترحم على روحه الحزينة .