أغلى شيء . . .
وقف في شارع الحمراء في بيروت يتلفت ، و يدس يده بين لحظة و أخرى في جيبه حيث الألف ليرة .
بحار أعزب عاش عمره سواحاً بين الموانئ يضع قدمه أياماً على البر ليعود فيتغرب شهوراً تائهاً حتى ليصبح نقطة عائمة في زُرقة بلا حدود لا يربطه بعالم البشر إلا صوت الترانزستور الصغير المعلق على كتفه .. أو عجيج ركاب الباخرة السكارَى آخر الليل .
و مثل كل البحارة قد ورث تلك العادة السيئة من أيام أجداده ماجلان و كولومبس .. أن يجمع كل ما كسبه طوال غربته ليلقي به بين أحضان أول فتاة يقابلها على رصيف الميناء .
و ما أكثر ما ختم ليلته بمعركة بالأيدي مع صاحب البنسيون ، ثم عاد خالي الوِفاض بعين وارمة إلى باخرته .
تلك حياة البحّار .. و هذا أغلى ما يملك .
تلك اللذات الحادة المتجددة على أرصفة الموانئ بين ضباب الخمور الرديئة و ذلك العنف الممتع الذي ينفق فيه كل شيء أو يخسر فيه كل شيء .
و هل في الحياة أغلى من ذلك .. ؟!
ذلك الخطر الموشِك .. و اللذة الجامحة .. و الإنفعال الدائم .
و حينما رأى بعض الفقراء يسجدون و يُصلّون لله على شاطئ الإسكندرية ذات مرة .. لم يفهم لِمَنْ يسجد هؤلاء الناس و لمَنْ يصلون .. و كيف يعطينا الله حياة لننفقها من أجل حياة أخرى .
و أين الله هذا الذي يعبدونه .. ؟!
إنه لا يفهم هذا الكلام ..
إن معبوده في كأس نبيذ .. أو بين ذراعيّ امرأة .
و جنَتهُ فورية ، و لذائذه عاجلة ، و سعادته يلمسها بيديه .
و جحيمه أن يُحرَم من هذه اللذات و يخرج مطروداً بلكمة على أنفه ، و يفوز بتلك اللذات غريمه أمام عينيه .
يا له من نسيم منعش ..
يا لها من ليلة دافئة .
و راح يغني أغنية إيطالية و يدمدم في استرخاء لذيذ و هو ينزل الدرجات إلى ستريو على بابه صور عارية .
و على البار وجدها ..
ليس أجمل منها و لا في الأساطير .
يا له من خصر ضامر .. و شفتين مثل كرزتين تتدفقان دماً و حيوية .
يا لها من ليلة دافئة معطرة .
يا لها من امرأة تثيره حتى النخاع .
و راح يغني أغنية بذيئة .
و غمز له البارمان بأنها أميرة إيطالية ، و لكن لا يوجد شيء مستحيل لمَنْ يملك الثمن .
و همس في أذنه و هو يصب كأساً .. إنه يمكن أن يدبر له كل شيء بألف ليرة .. العشاء و الشراب و البنسيون و جنّة من فواكه لبنان و أنهار من نبيذ بوردو و نبع فوّار من الشمبانيا الفرنسية الفاخرة ، و تحفة نادرة من براندي نابليون المعتق مائة سنة فيي أقبية الأديرة القديمة .
و مال عليه يروي قصة الذين فقدوا عقولهم بعد قبلة من هاتين الشفتين .
حسناً يا عزيزي البارمان ..
لا مانع عندي أن أفقد عقلي أنا الآخر .. و أفقد ما في جيبي أيضاً الآن و فوراً .
و ألقى بالكأس جرعة واحدة في جوفه .. و تأبط الفتاة و كأنه يتأبط العالَم كله ، و خرج يغمغم بالأغنية البذيئة .
قالت له الفتاة على الدَرَج و هي تلقي بشعرها على كتفه :
إيطالي ؟
لا يا أميرة أحلامي ، بل غجري من وار صوفيا .. من بلاد الكروم و الموسيقى و الرقص .. و لكني أستطيع أن أكون إيطالياً من أجل عينيك .
و اختلس قبلة من عنقها و هو يغمغم :
إني أستطيع أن أكون دائماً كما تريد الحِسان الفاتنات أمثالك ..
و راح يغني أغنية روسينو :
إمنحيني قبلة أفتح بها الدنيا و أصل بها إلى القمر ..
يا قيثارتي الجميلة .. دعيني أعزف على أوتار عودك الممشوق لحن حب .
و اعتنقا على الباب ..
هل حدث زلزال فجأة ؟؟
لقد شعر بالأرض تميد تحت قدميه ، و سقط جزء من السقف ،و انطلقت من كل مكان أصوات الرشاشات و الهاونات و قذائف المدفعية الثقيلة و الصواريخ .. و اشتعلت السماء بوهج أحمر ..
و مرَّت لفحة من الهواء الساخن على خده كأنها سيف محمي ..
و رأى شظية تقتلع رأس الفتاة أمامه و تترك حفرة ينبثق منها الدم ..
و رأى نفسه يحتضن جثة ..
و انبطح على الأرض و هو يرتجف .. و سمع صوت الترانزستور الصغير المعلق على كتفه يتحدث عن معارك مشتعلة بين الكتائب و القوات الوطنية في عين الرمانة و فرن الشباك و الأشرفية و تل الزعتر و الحمرا و منطقة الميناء ..
و يُحذِّر المواطنين من من رصاص القناصة الذي ينطلق من رءوس العمارات ليقتل بلا تميز .. و أوامر بحظر التجول .. و تحذيرات من انقطاع الماء و الكهرباء .
و راح يزحف على بطنه ليصل إلى الميناء و رصاص القناصة يئز فوق رأسه ، و توقف ذهنه تماماً .
و أصاب الشلل كل تفكيره ..
و خُيِّل له أنه يحلم و أن ما يجري حوله كابوس أو خيالات في رأس مخمور ، أو حالة صرع عامة .
و كان يجري ثم يقفز ثم يهرول .. ثم يعود فينبطح أرضاً .. ثم يعود فيزحف كسلحفاة .. ثم يعود فيمرق كسهم ..
و حينما وصل إلى الميناء كان يلهث ..
و فوجئ بباخرته أصابها لغم شطرها نصفين و أرسلها إلى القاع .. لم يبق له ملجأ سِوى مكتب الشركة في الأشرفية .
و ألصق أذنه بالترانزستور فإذا به يسمع أن مكتب الشركة قد نُسف و أن الأشرفية تحاصرها الحرائق .
و خرج عليه رجل بكلاشنكوف في يده جرده من كل نقوده في لحظة ..
و شعر بنفسه في العراء تماماً و قد فقد كل شيء .
كل هذا حدث في ثوانٍ ..
أصبح بعدها .. لا أحد ..
فقد العالَم الذي ينتمي إليه ..
و فقد نفسه ، و فقد عنوانه ، و فقد بطاقته ، و فقد ثروته .. و تلَفّت حوله في ضياع كامل ..
و كانت صرخات الجرحى و المحتضرين ، و الوجوه التي جمدها الرعب .. تطل عليه من كل جانب ..
و كان عدة مئات من الأهالي قد خرجوا إلى الميناء يلتمسون مهرباً من الجحيم ، و كانت حركة البواخر قد توقفت تماماً لتوقف الخدمة و التموين ، و لهرب العمّال من المنطقة التي تحولت إلى ساحة قتال .
و لن تبق إلا بضع سفن شراعية صغيرة يقودها بعض المغامرين في مقابل مبالغ كبيرة إلى اللاذقية و اليونان و الإسكندرية .
و تحركت في صاحبنا غريزة البحار المغامر فتطوع ليقود بضع عشرات من هؤلاء الهاربين في سفينة شراعية إلى الإسكندرية .
و هكذا عاد إلى البحر .. نقطة لا تكاد تُرَى في الزُرقَة التي بلا حدود ..
و حينما كانت السفينة تنساب ناعمة على صفحة الزرقة اللازوردية .. كطائر اللقلق الأبيض .. كان يستعرض شريط الحوادث السريع المتلاحق ، لا يكاد يصدق ما حدث .. و كان يحاول أن يفهم ..
و لكن القصة لم تكن قد إنتهت بعد ..
و الساعات القليلة التي مضت في حوار ناعم مع نسيم البحر .. كانت مجرد هدنة حرب .. لأن الأمواج ما لبثت أن ارتفعت و زمجرت الرياح ، و تمزق الشراع ، و انكسرت الصواري ..
و خرجت السفينة عن خط سيرها المقرر .. و الرحلة التي قُدِر لها أسبوع ، إمتدت لأسبوعين .. و نفد الطعام و فرغ الماء ، و بدأت المعركة مع الجوع و العطش .
و أصبح عادياً أن يُسمَع ذلك الذي يصرخ يريد أن يدفع كل ما يملك في مقابل نقطة ماء .. و ذلك الذي يعطي نصف عمره في سبيل قطرة شراب يبل بها شفتيه .
كانت قطرة الماء تبدو ساعتها أغلى شيء .
و في الليلة السوداء التي تحطمت فيها السفينة و غرقت .. لا يذكر شيئاً سِوَى أنه كان يسبح وحده في بحر بلون القار الأسود .. و لا أحد غيره على قيد الحياة ، و لا صوت ، و لا بصيص ضوء .
و حينما كانت قواه تخور سمع شفتيه تسألان الرحمة .
من كان يسأل و لا أحد هناك .. ؟؟!!
و سمع قلبه يستغييث .. و يستنجد .. كطفل ملقَى في العراء هجرته أمه ..
بَمْن كان يستغيث و لا أحد هناك سِوَى أطباق فوق أطباق من الظُلمة .. ؟؟!!
بمَنْ كان يستنجد .. ؟؟!!
لقد كانت شفتاه صادقتين ..
و كان قلبه صادق الطلب ..
و لكن لا أحد سواه ..
أو لعله أخطأ الفهم ..
و لعل قلبه أصاب حيث أخطأ بصره .. فرأَى ما لا ترى العين .. ساعتها كانت الرحمة أغلى شيء ..
و مَنْ عنده الرحمة كان أغلى الكُل ..
ذلك الذي أدرك القلب وجوده و خاطبه مخاطبة الحاضر المشهود .. فقال .. يا رب .. رحمتـــك ..
و استجــاب الرحيـم .. فانتشلته يد قوية و حملته إلى قارب إنقاذ ..
و في سرير بمستشفى الإسكندرية فتح الرجل عينيه ليستأنِف الحياة من جديد و قد أصبح رجلاً آخر ..
رجلاً يركع و يسجد و يدعو مع الداعين .. و يُصلي مع المصلين ..
تلك هي قصة البحّار عمرو إسماعيلوفتش الذي عاش حياته يجري وراء أغلى شيء ..
و الذي عرف أخيـراً .. ما هو أغلـى شيء .
زيارتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــكم
احمد ابو خشيم
°˚◦ღ•.Ahmed.•ღ◦˚°