بسم الله الرحمن الرحيم
لقد كثر الحديث حول الهوية بصفة عامة في السنوات الأخير بشكل ملفت للنظر ، سواء في المؤتمرات أو المحاضرات أو الندوات أو الكتابات الصحفية أو الإلكترونية ، مما جعلها حديث الساعة لدى العامة والخاصة ، الأمر الذي دعاني إلى النظر في هذا الموضوع والبحث حوله ولو بشكل سريع ، خاصة لما حضرت أو شاهدت بعض الندوات أو المحاضرات التي تناولت هذا الموضوع بطرق مختلفة تبعا للإيديولوجيات والقناعات والمنطلقات والمبادئ لدى المتناولين لهذا الموضوع منهم من يركز على الدين أواللغة ، ومنهم من يركز على التراث الشعبي المحلي ومنهم من يركز على التقاليد والأعراف ومنهم من يركز على اللهجات المحلية ومنهم من يدعو إلى التخلي عن بعض المكونات القديمة والمتقادمة ــ في نظره ــ والتحلي بالمكونات الدخيلة والجديدة ، وطبعا هذا التنوع والاختلاف في الآراء تابع إلى تنوع واختلاف تعريفات الهوية واختلافها وتعددها بذاتها ، وذلك أن الإنسانية ليست لها هوية واحدة
إلا أن الجميع كان متفقا على أن الهوية العربية أصبحت مهددة بشكل ملفت للنظر سواء على المستوى المحلي والوطني أو على المستوى الإقليمي والإسلامي بصفة عامة
ولما سأتحدث عن الهوية في هذا الموضوع المتواضع الذي يبقى وجهة نظر وقابل للنقاش لا أدعي فيه أنني جئت بالجديد في هذا المجال ــ الهوية ـ الذي فيه حق الحديث للجميع ، وإنما سأتناوله من الزاوية التي رأيتها حقيقة بالحديث والبحث ولكل رأيه ووجهة نظره
من المتفق عليه أن الإنسان بدون هوية نابعة من ذاته ومحيطه وتاريخه ضائع تائه حيران ، ومن المتفق عليه أيضا أن الهوية ليست شيئا مجردا وإنما هي " حقيقة الشيء المطلقة المشتملة على صفاته الجوهرية التي تميزه عن غيره " لها عناصر تتكون وتتشكل منها ، وهذه العناصر منها ما هو ثابت غير قابل للتغيير ومنها ما هو قابل للإصلاح والتجديد تبعا لتغير الحياة ونمطها حتى تستمر الحياة بشكل طبيعي وليعيش الإنسان مرتاحا دون حرج أو تكلف أو تكليف ومن العناصر الثابتة في الهوية مكوناها الرئيسيين : اللغة والدين
1. اللغة
وأبدأ بالحديث عن اللغة لأنها الخيط الناظم لكل مكونات الهوية ومميزاتها ، لأنها الوعاء للأفكار والتمثلات والتصورات والمترجمة لها على المستوى الحضاري والعمراني والثقافي ، فهي المرآة العاكسة لمكنونات الإنسان والمعبرة عن رغباته وحاجياته ، وعن أحاسيسه وشعوره وعواطفه وخلجاته ، فهي النافذة التي يمر عبرها إلى الآخر ليشاركه أفكاره وهمومه وكل ما يمكن للغة أن تعبر عنه وتحمله من داخل الإنسان إلى خارجه ، ومن ثم فإن التفريط في اللغة الحاملة للأفكار والمعبرة عن الشعور والمكونة للشخصية التي يتحقق لها الوجود بين أبناء الجنس ، يعني التفريط في مكونات الشخص الذي لا يمكن له الاستقرار والاستمرار إلا بهوية تميزه وتحقق له وجود بين الآخرين ولهذا قال الله تعالى { خلق الإنسان علمه البيان } قال السعدي :" أي: التبيين عما في ضميره، وهذا شامل للتعليم النطقي والتعليم الخطي، فالبيان الذي ميز الله به الآدمي على غيره من أجل نعمه، وأكبرها عليه ". والتعبير عما في الداخل يكون باللسان والقلم . وقال البغوي :" النطق والكتابة والفهم والإفهام، حتى عرف ما يقول وما يقال له " وقال بعض المفسرين الآخرين مثل القرطبي والطبري وابن كثير أن المراد بالبيان : الخير والشر والحلال والحرام ، ومنهم من قال المراد في الآية "القرآن " ، لأنها جاءت في سياق الحديث عن القرآن...إلخ ،
ومن خلال ما ذكر من أقوال العلماء يتبين أن اللغة صفة ملازمة للإنسان وبها يتميز عن باقي الحيوانات ، ولما أقول اللغة أقصد اللغة التي ساهمت في تكوين شعور وعواطف الشخص ، بمعنى آخر تلك التي اكتسب من خلالها مهارات العيش والحياة بصفة عامة
2. الدين
وجعلت الدين في المرتبة الثانية بعد اللغة لأسباب منها : أن الدين مجموع من العقائد والأحكام والأخلاق والقيم المعبر عنها بلغة معينة يختارها الله سبحانه وتعالى لتكون محتوى لها ، ثم أن لغة الدين قد تكون مخالفة للغة المطالبين بهذا الدين كما هو الشأن بالنسبة للغة العربية التي جاء بها الدين الإسلامي الحنيف قال تعالى { الر تلك آيات الكتاب المبين إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون } لكن الرسول عليه الصلاة والسلام أرسله الله للعالمين { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } وللإنس والجن أعجمهم وعربيهم ، والإسلام لم يحارب لغة الآخر أو تقاليده أو أخلاقه الحميدة ، بل جاء لإتمامها قال صلى الله علية وسلم " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق "
ومن ثم فإن كل ما يطلق عليه العالم مطالب بإتباع الدين الإسلامي على اختلاف ألوانهم وألسنتهم ، لأن الدين حاجة إنسانية فلا يمكن للإنسان أن يعيش سعيدا ومستقرا في كيانه ومحيطه ومجتمعه في غياب الدين الحقيقي ، لأن فطرته نزاعة إلى التدين ، والدين الإسلامي هو دين الفطرة قال الله تعالى { فطرة الله التي فطر الناس عليها } لأنه لم يأت بشيء يخالف الفطرة أو يكبتها ، والهوية جزء من الفطرة
ولهذا فكل واحد من المسلمين داخل تحت لواء الأمة الإسلامية تصبح هويته الجزئية مثل ــ اللغة المحلية التقاليد والأعراف والثقافة الشعبية ــ تابعة للكلية الإسلامية أي : خاضعة لمبادئ الإسلام وتوجيهاته وإرشاداته في مختلف مناحي الحياة ، ومن ثم يصير التفكير الإنساني تابع للتوجيه الإسلامي ونابع منه وخاضع له قال تعالى { وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون } ويقول أيضا { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت } طبعا فالإسلام لم يسع إلى تذويب الخصوصيات ومحاربتها ، بل حارب ما خالف مبادئه فقط ، وترك ما وفق أصوله ومبادئه واحتواه وصار تحت توجيهه ، كما هو الحال في قضية العرف جعل الفقهاء والأصوليون مراعاته أصلا من أصول التشريع ــ فليراجع في مظان الفقه في بابه ــ
وبما أن القرآن الكريم الذي هو أصل الدين الإسلامي "ودستوره " لا يمكن فهمه إلا باللغة العربية التي أنزل بها كما هو مقرر عند المفسرين والأصوليين والفقهاء فإن إتقان العربية والاهتمام بها من الدين ، لأنه ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، ومن ثم فإن أجدادنا رحمهم الله لما سارعوا إلى إتقان اللغة العربية ليس خوفا من حد السيف أو بطش عدو ـــ كما يتوهم ذلك الكثير من قصار العقول في زمننا هذا ــ وإنما رأوا ذلك من الواجب الديني ، لأنها السبيل الوحيد إلى فهم مقصود الله من كلام الله
ولهذا فكلما زاد جهلنا بالعربية زاد جهلنا بديننا ، وكلما جهلنا ديننا كلما ابتعدنا عنه ، وكلما ابتعدنا عن الدين تداعت أسوار هويتنا وتآكلت أطرافها ، وإذا تآكلت هويتنا تهنا في صحاري الضياع ، لأن التفريط في الثوابت تفريط في الكل الذي تتكون منه الشخصية
والضياع الذي يعيشه الكثير منا ناتج عن هذا التفريط في هذين المكونين الأساسيين اللذان يحدثان التوازن لدى الإنسان في كل مناحي حياته ويجعلانه يحس بذاته وبوجوده ، أضف إلى ذلك بعض العناصر الأخرى الدخيلة التي تجر الإنسان بعيدا عن هذين المكونين الهامين ــ الدين واللغة ـــ مثل بعض التيارات الفكرية الضالة التي تتسم في ظاهرها بالحداثة والموضوعية والواقعية والسلاسة ، لكنها تحمل في باطنها كل المكائد والأشرار والأحقاد ، وكذلك المسلسلات والأفلام خاصة المدبلجة منها وبعض القنوات الإعلامية والموضة التي تساهم في تشويه تنشئتنا الاجتماعية ، وتنشر بين أبناء مجتمعاتنا بعض السلوك والتصرفات التي لا صلة لها بواقعنا وتاريخنا وحضارتنا وثقافتنا وهويتنا بصفة عامة ، بطريقة تدريجية مدروسة بكل دقة وإحكام
إذن إذا أردنا الحفاظ على هويتنا فعلا واسترجاع مجدنا الضائع وما علينا إلا أن نسارع إلى إصلاح العلاقة بيننا وبين لغتنا وديننا بشكل تدريجي " فأوغلوا فيه برفق " ولنبدأ بأنفسنا أولا " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " ثم أسرنا " وأنذر عشيرتك الأقربين " ، ثم نسد الثغرات والفرج التي تتسرب عبرها مجموعة من السلوكيات المنحرفة الغريبة عنا البعيدة منا وفق سنة التدرج في الإصلاح " وتلك سنة الله التي قد خلت في عباده " وما دمنا بتسرعنا نخالف سنن الله في الكون فلا نستطيع الوصول إلى مبتغانا والله أعلى وأعلم وأقدر
طلب : المرجو إصلاح الأخطاء والمفاهيم " من الخطأ يتعلم الإنسان " والله المستعان