حجاجية الصورة الفنية في رسائل هلال بن المحسن الصابئ (ت: 448ه)
قالط بن حجي العنزي - ماجستير في التداولية والحجاج – المملكة العربية السعودية
يقصد بالوظيفة الحجاجية , الوظيفة التي تهدف إلى إحداث تغيير في الموقف الفكري والعاطفي للمتلقي ,والوظيفة الحجاجية من أهم وظائف الصورة الفنية , والأولى بالدرس والاهتمام , لأن الحجاج بالصورة ما هو إلا توخي الأساليب الملائمة للمقام قصد الاستمالة والتأثير والإقناع في المتلقي .
وتكمن الوظيفة الحجاجية للصورة الفنية في دعوة المرسل إليه إلى تعاقد ضمني مشترك يتم فيه إنتاج وتبادل وجهات نظر , وتعزيزها بأساليب وحجج مختلفة في سياق الخطاب .فمفهوم الحجاج متصل بطبيعة الكلام التساؤلية , ذلك أن المساءلة عملية فكرية مؤسسة على سؤال وجواب تستدعي نقاشاً يولد حجاجاً .
وتتصل صياغة مفهوم الحجاج على ضوء نظرية المساءلة باعتبار الحجة جواباً أو وجهة نظر يجاب بها عن سؤال ضمني مقدر , يستنتجه المتلقي ضمنياً من ذلك الجواب , وفق متطلبات السياق والمقام .
ومن الصور الفنية ذات البعد الحجاجي , قول ابن المحسن في رسائله السلطانية عن الخليفة العباسي :" ولقد أراد الله الخير بخلقه إذ وكّلَ أمرهُم إلى ملاحظته , وعلّقَ حفظهم على محافظته , واختارَ لهم منه الشهابَ الذي لا تخبو أنواره , والحسام َالذي لا ينبو غِرارُه , والبحرُ الذي لا يُخاض غِمَارُه ".
فالمتلقي في الرسالة السابقة يتساءل عن المسوغات التي حملت المتكلم على صياغة هذه الصور الفنية , ولا يكون الحل إلا في الجواب المفسر للتماهي البلاغي بين الطرفين في ظل استتار الطرف الثالث الذي يمثله وجه الشبه بين المشبه والمشبه به , والذي يمثل وحدة دلالية صغرى تظهر في الحقل الدلالي للممدوح .فالعلاقة بين الخليفة والشهاب والحسام والبحر هي الوحدة المعجمية الصغرى التي تظهر في الحقل الدلالي للممدوح ,والحقل الدلالي لكل من الشهاب والحسام والبحر , وهي الهداية والقوة والجود على التوالي . وهذه الوحدات المعجمية تقوم بدور فعال في توفير القوة الحجاجية وتوجيهها , مما يضفي على النص ترابطاً واتساقاً واضحاً , ففي غياب ذلك تكون العملية الحجاجية نوعاً من العبث والعشوائية ؛ لأنه حينئذٍ يتم قطع الصلة بين المرسل والمرسل إليه . فنقطة التقاطع بين البلاغة القديمة ونظرية الحجاج , إنما هي المستمع .
اعتمد ابن المحسن على الصور الفنية التي تتضمن حكم قيمة أخلاقياً أو عاطفياً لتوجيه المتلقي لعمل ما بواسطة الترغيب والترهيب, والمخاطب في هذه الصور الفنية هو الذي يقوم بعملية الاستنتاج والتأويل , ومن السهل دائماً أن ينفي الإنسان ما يقوله من يتحدث إليه أكثر مما يسهل أن ينفي ما يستنتجه عن طريق عملية تأويلية .
ومن الرسائل التي اشتملت على حكم قيمة أخلاقية , الرسالة التي يصور فيها ابن المحسن جزاء من اتبع الشيطان وفارق أولياء الله , يقول :"قد عرفت – أيدك الله – ما وسوس به الشيطان لفلانٍ حتى استهواه بأباطيله , واستغواه بأضاليله , واستعره بمكايده , واستجره
بمصايده , وأنه قعد له مابين سحره ونحره , حتى سحره بمكره , وأغرقه في بحره ...وأراه الجور قصداً , والخلاف رشداً , فتهوك في غيه , وتهالك في بغيه , ومضى على وجهه".
صور ابن المحسن المطيع للشيطان بالإنسان المتهور في الهلاك, لتقبيح صورة الخلاف في نفس المخاطب , قصد توجيهه إلى ترك العمل به ؛ لكونه قبيحاً , فالعبارات الكنائية " فتهوك في غيه , وتهالك في بغيه , ومضى على وجهه" تزيد صورة الخلاف قبحاً في ذهن المتلقي تمهيداً لحمله على إتيان فعل الطاعة . فالجور والخلاف والغي والبغي أعمال مستقبحة , وتحمل ضمنياً صفة قبيح , ويُفهم من هذه الأوصاف أن الخروج على الخليفة أمر قبيح .
وقد تتبع البحث الصورة الفنية في كتاب" غرر البلاغة" , فوجدها تملك طاقة حجاجية , جعلت ابن المحسن ينزع في كل مرة إلى توظيفها ؛ لتوجيه المخاطبين , وحملهم على التسليم بما يرد في الخطاب من أفكار وآراء , وتستمد هذه الطاقة قوتها من عوالم المخاطبين وكفاياتهم النفسية والثقافية , كما تستمد كذلك قوتها من الجوانب الضمنية التي تحمل المخاطب على استبعاد المعاني الظاهرة ليسلك مسلكاً استدلالياً حجاجياً يجعله يكتشف بنفسه معانيها المضمرة وأغراضها الخفية , وبهذا يكون تأثير الصورة أقوى , ويصبح المخاطب طرفاً فاعلاً في العملية التخاطبية , ومنتجاً للمعنى في الحدود التي رسمها له المتكلم .