بداية شكرا لك أستاذ "معراض الطاهر"، بكل فخر وصدق أقول:
إشكالية النهضة في الفكر العربي المعاصر ( البدايات والإنشغالات )...بقلم: موقاي بلال
تمهيد:
إذا كان التنوير أو فلسفة التنوير خاصية امتاز بها الإوربيون عن غيرهم، فإن المقصود بها هو تلك الفلسفة التي تتجاوز الأوضاع القائمة في كل المجالات من أجل نقدها وتغييرها بل ومسائلتها، لا من أجل تبريرها وتثبيتها مؤديا بذلك إلى قلب الموازين في أوروبا معلنا عهدا جديدا عنوانه "العقل سلطان كل شيء" .
وبما أن مقياس التقدم والتخلف بين الدول يقاس بمدى تطور هذه الاخيرة في شتى ميادينها، فإن الدارس للفكر العربي سيصطدم بمجموعة من التساؤلات كثيرة هي في عددها، صعبة في منالها، يسيرة في القيل والقال عنها.
وإذا كان لأي نهضة عوامل وأسباب، فإننا وبهذا المعنى نتساءل عن ماهي المبادئ والأسس التي بنى عليها رواد النهضة العربية حركتهم التنويرية ؟ ومن أين استمدوها ؟ هل من إدراكهم لواقعهم العربي الاسلامي؟ أم من إدراكهم لواقع غيرهم ؟وهل يمكن القول بوجود حركة تنويرية في الفكر العربي ؟ وهل يمكن القول أن معيار تقدم العرب أو تخلفهم يعود إلى تقدم الغرب أو تخلفهم ؟ ام بماذا ؟ اين أنا وأين أنت ؟ من أنا ومن أنت ؟ ما التراث وما الحداثة ؟
إذا كان الوطن العربي عند مفكري التنوير هو مكان الإلتقاء وتحديد الإنتماء، فإن هذه الإخيرة خصوصية تبناها الغرب وجسدها في مشروعه إنطلاقا من سمات التنوير الغربي، وانطلاقا من الحركة التي تبناها مفكروا عصر النهضة العربية يمكن القول أن بدايات حركة التنوير قد كان نتيجة لذلك كله، ومن ثم فإن جذور التنوير في الفكر العربي تعود في أساسها إلى الغرب ، وقد تعددت أشكال هذا التنوير بين الرفض والقبول وبين التوفيق.
ومن أبرز التيارات التنويرية نجد: العلمانيون - الإصلاحيون - التحرريون - الاجتماعيون - السلفيون، وبناء عليه كان الفكر العربي أمام ثلاثة أختيارات أساسية وهي ممثلة على النحو التالي:
1 - التيار الإصلاحي:
شعاره:
لا يتغير شيء في الواقع إن لم يتغير فهمنا للدين أولا.
2 - التيار الليبرالي:
شعاره:
لا يتغير شيء في الواقع إن لم نبني الدولة الحديثة اولا.
3 - التيار العلمي والعلماني:
شعاره:
لا يغير شيء في الواقع إن لم يتغير فهمنا للطبيعة ونبدأ بالعلم أولا.
وما يمكن قوله أن كل هذه التيارات كانت تسعى بالأساس إلى هدف واحد وهو إيجاد الطرائق والوسائل لتحقيق الاصلاح والنهضة بالمعنى العام، لاسيما على مستوى الذات ووعيها باعتباره أساس كل عملية تنويرية.
لكن وبالرغم من مجودات رواد النهضة العربية النهوض بالوطن العربي إلا أن أفكارهم بنظرنا ظلت حبيسة الورق والنظر الفلسفي كونها كانت مفصولة عن واقع العرب أو الجمهور الذي لم تجد الحركة التنويرية صدى عاما عنده، ولعل هذا بنظرنا راجع إلى:
أولا: بداية التأسيس التنوير في العالم العربي
ثانيا: عدم الإنطلاق من عمق الواقع العربي المشخص وتحليله ونقده ومجاوزته.
وبذلك يقول كمال عبد اللطيف: " حالات من تمزق الوعي العربي أمام واقعه التاريخي بأساليب النظر الفلسفي "(1)
يقول خير الدين التونسي: " إن التمدن الأورباوي تدفق سيله في الأرض فلا يعارضه شيء إلا استأصلته قوة تياره المتتابع فيخشى على الممالك المجاورة لأروبا من ذلك التيار إلا خذو حدوده وجرو مجراه في التنظيمات فيمكن نجاتهم من الغرق "(2)
إن في نظري المداخل الرئيسية لكل تنوير وتقدم تكمن في : الفكر - العلم - النقد ، وهذا ما كان يطالب به رواد النهضة العربية ، ذلك لأن " الطهطاوي " حمل مسؤولية كبيرة على عاتقه وهي تشجيع الكتابة والقراءة وطباعة الكتب خاصة، فقد ألف حوالي 20كتابا و 26 ترجمة بينما الكتب ( منتجات عثمانية ) بين 1728 - 1830 لم تتعد 20 كتابا أغلبها في الشعوذة والخرافات، وبهذا الإنتاج الضخم لـ"الطهطاوي" ارتاد الفكر العربي آفاقا جديدة، وبه عبرت الثقافة العربية من العصور المظلمة إلى عصر اليقظة والتنوير.
يقول الطهطاوي: " إن الكتب هي ثمرات الأفكار والعقول تأليفا ونظما ونثرا وموضوعه حفظ المعارف البشرية...".
من هنا نلحظ مدى تأثر " الطهطاوي " بالكتب تأليفا وطباعة ونشرا وبيعا، وبناء عليه فإذا أراد المسلمون مسايرة الفرنسيين والأوربيين بصفة عامة هو ضرورة إستيراد المعارف والفنون والكتب بل والمظاهر الحضارية البرانية ( الأجنبية ) وأن الرافضين لهذه الفكرة هم واهمون ولم يستيقظوا بعد من سباتهم مستدلا في ذلك بقول " ابن خلدون " بدورات التاريخ، فالحضارة تنتقل من أمة إلى أمة أخرى ولا وطن لها.
وما لاحظه الطهطاوي هو أن ضعف الأمة العربية يكمن في إهتمامها بالعلوم النقلية أكثر من العلوم العقلية، عكس ما هو الحال في فرنسا .
تقريب للفهم:
فيما مضى ( عصر الطهطاوي ) كان يطلق مصطلح " علم " على العارف بأمور الدين، لكن في العصر المعاصر أو في فرنسا ( عصر الطهطاوي ) عندما يقال " عالم "، فإنه يقصد به أنه يعرف علما من العلوم الأخرى، هذه هي المفارقة التي أراد " الطهطاوي " التأكيد عليها.
وعلى درب الطهطاوي سيسير " خير الين التونسي " ويظهر في مؤلفه " أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك ".
على أن النهضة الفكرية التي تولدت من هذه الدعوات هي في إعتقادنا لم تستطع أن تصنع مجتمع جديد مناقض تماما للمجتمع القديم بل لقد صنعت مجتمعا هجينا ، وذلك من ناحية الثقافة، إن كلامنا هذا يمكننا تأكيده من خلال مقولة " عبد العزيز حمودة " حيث يقول " أخطأنا حينما جمعنا بين الإنبهار بالعقل الغربي ومنجزاته ، وبين احتقار العقل العربي والتنكر لمنجزاته والتقليل الكامل من شأنها ".
إذا ما دام أنه من المعروف أن المقياس الحضاري لأي أمة يقاس بالمستوى الذي وصلت إليه الدولة ، فإن التنوير قد نشأ في بداية عصر النهضة العربية وفي كنف الدولة وفي مؤسساتها متأثرة في ذلك كله بالغرب، ويعتبر " الطهطاوي " من أبرز الرواد الاوائل الذين ساهموا في حركة التنوير العربية وحاولوا تجسيدها في الدولة ومؤسساتها في كتابه " تخليص الإبريز في تلخيص باريز ".
كذلك لا ننسى ونغفل إسهامات " خير الدين التونسي " الذي كان أحد الأعمدة الكبار في الدولة، وبحكم منصبه حاول أن يحدث تغييرات في الدولة وأجهزتها، حيث وضع في 1867م دستورا جديدا، لكن وبالرغم من هذه المجهودات الخلاقة غزل من الوزارة...الخ.
أن خير الدين التونسي حيرته أسئلة وتساؤلات عديدة حاول الإجابة عليها والتي تجسدت في كتابه " أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك " أهمها:
هل يمكن أن يتحقق تقدم وتطور من دون إحداث تغييرات على الدولة واجهزتها ؟
الحركة والتنوير:
كلا من الطهطاوي وخير الدين التونسي يشيدان بمبدأ الحرية باعتباره عامل أساسي وضرورة ملحة لكل عملية تنويرية، فـ" الطهطاوي "يعرفها على أنها " رخصة العمل المباح من دون مانع غير مباح ولا معارض محظور "(3) ، وهو يقسمها الى خمسة اقسام وهي:
( طبيعية- سلوكية - دينية - مدنية - سياسية )والهدف الاساسي لهذه التحديثات هو السعادة.
وعلى درب " الطهطاوي " سار " خير الدين التونسي " حيث يرى أن الحرية شيء طبيعي في الإنسان باعتبار النفس الانسانية مجبولة عليها، ومنه فالحرية والعدالة خاصة السياسية هما في نظره العوامل الأساسية في التقدم.
التنوير والدين:
إن ما هو ملاحظ هو أن المجتمعات البشرية ( الانسانية ) كانت تقسم قبل عصر النهضة ولا سيما في عصر الانحطاط والتعصب الديني ، عصر التعصب والأنغلاق والجمود الفكري إلى مؤمنة وكافرة الآمر عائد بالأساس الى العامل الديني ، وهنا أخص بالذكر أصحاب الديانات السماوية ( يهودية - مسيحية - إسلامية ) وخاصة الأمة الإسلامية ، لكن الطهطاوي قدم لنا تقسيما مغايرا حيث قسم البشرية على أساس التحضر والتمدن والإنحطاط، وهو بذلك يرى أنهم مراتب ثلاث وهي:
المرتبة الأولى:
مرتبة الهمل المتوحشين
المرتبة الثانية:
مرتبة البرابرة الخشنين
المرتبة الثالثة:
مرتبة أهل الأدب والظرافة والتحضر والتمدن والتمصر المطرقين
وبناء على هذا التقسيم يمكن أن يكون بعض المسلمين في مرتبة أدنى من الأوربيون أو العكس ، ومن أجل ذلك دعى الطهطاوي إلى مخالطة الأوروبيون في حضاراتهم والأخذ عنهم بما لا يخالف الشريعة أو الدين ، لانهم في رأيه اعلى مرتبة في التحضر من المسلمين في عصره.
أما خير الدين التونسي فهو يرى أن النهضة الأوربية لم تقم لولا اعتمادها على سلطان العقل بوجه خاص، وبذلك حاول تقريب الشريعة من العقل التي هي في أساسها لا تتعارض معه بل تؤيده وتعتمد عليه .
بالإضافة إلى ذلك اعتمد "خير الدين التونسي" على الحجج العقلية والمنطقية كثيرا خاصة مبدأ العلية والمماثلة، بالإضافة إلى اعتماده على الحجج النقلية.
وبهذه المناهج أقام موازنة بين العقل الغربي الذي يستند في نسقه على معطيات الواقع واسبابه، والعقل العربي الذي يبتعد كثير من تفسيراته عن الواقع وتحدث شرخا في عدم تطابق الذهن مع شخصياته.
خلاصة وأمل:
إن التنوير العربي الذي جاء به رواد النهضة الاوائل ،أو بالأحرى ألافكار التنويرية ما كان لها لتنتج لولا التطبيق العملي لها أي الجمع بين نظرياتهم وواقعهم الملموس ، كما أنه لا يجب أن يمارس بصورة عكسية أي رفض الآخر وإقصائه واستبعاده ، أي أننا ندعوا إلى الحوار لأنه عنوان كل تنوير .
ولعلني أفسر وبتواضع مني بأن فشل مشروع التنوير في العالم العربي بعد عصر النهضة يعود إلى:
أولا: أن السبب الأول في رأي هو تنافيه مع التأسيس والتشريع الإسلامي ، أي عدم التطابق بين ما هو نظري وما هو عملي.
ثانيا: السبب الثاني في رأي هو اقتصار عملية التنوير على المثقفين وحدهم دون إشراك الجمهور الذي كان مفصولا عن مثقفيه بل ومعزولا ومنزويا عنهم مما يجعل من حركة التنوير إلى أن تنقطع ولا تستمر.
إننا نأمل، نأمل وفقط ،ونحلم بوطن عربي في يوم من الأيام مزدهر، ويتحقق فيه التقدم والتطور المنتظر ، ولعل في هذا الجيل ، أو في الأجيال القادمة إن شاء الله من هم أقدر على ذلك وبالتالي صناعة إبداع جديد وتحقيق ما عجز عنه رواد النهضة العربية الاوائل أمثال : الطهطاوي وخير الدين التونسي، جمال الدين الافغاني، محمد عبده...الخ أو المتأخرون أمثال: عبد الله العروي ناصيف نصار محمد شلبي عثمان أمين أو محمد أركون ومحمد عابد الجابري أو حسين مروة ، أو علي حرب....الخ
تحيات أ.بـــلال.