بسم الله الرحمن الرحيم
انجلاء
جن عليه الليل واشتد الظلام ، فصار يقلب وجهه في السماء المكبدة بالغيوم السوداء ، عصفت به الريح العقيم حتى جعلته كالرميم يترامى نقعا مع أجنحة هبوبها ، فتحول قطعة من الظلم الحالكة ، وراح يصيح من عمق سحيق ظلمات بعضها فوق بعض ، ويبرقق عيناه عله يصادف شعلة نور أجذوة من النار، عله يصطلي بها ويضيء عمق ذلكم اليم من الظلمات المتلاطمة أمواجه ، المتراكمة همومه وفواجعه
استسلم وخر صريعا يتقلب في الظلمات ، يصيح ويبكي ويشكى وحده في ذلكم البحر العميق ، تلقفته الهموم وصارت تمزقه ، تقطعه ، تحرقه ، وهو يتمنى الموت { وما هو بميت ولكن عذاب الله شديد }
توقف لحظة ، فكر وقدر ، تأمل وتدبر ، وتيقن أن استسلامه ليس بمزحزحه من العذاب والهلاك والبوار ، استوى قائما في حيرة من أمره ، يتخبط خبط عشواء ، يدور مع قطع الليل المظلم ، يتقدم يتأخر ، يدور ، ويدور ، يجري ، يركض .....،
جثم على ركبتيه يحثو الرغام وهو لا يسمع ولا يرى { وتركهم في ظلمات لا يبصرون صم بكم عمي فهم لا يرجعون } صاح صيحة الحائر التائه أين المفر؟؟ أين الخلاص ؟ أين النجاة ؟ النجدة النجدة النجدة ....؟
ردت صدى صيحته الجبال والأحجار والأشجار والمفاصل والعظام ، سكت وهدأ لحظة ، ثم سمع صوتا بجانبه ، ألقى سمعه وبصره وهو يتحسس مصدر الصوت المحاذي في ظلمات بعضها فوق بعض ؟
ثم أجابه ذلكم الصوت الخافت الشجي الندي اسمع نداء ربك : { يأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه }
فأجاب بلوعة وحرقة والسهاد يحترق على محياه : كيف النجاة وأين السبيل ؟
فأجيب : إن الله يدعوك إلى الطريق الصحيح {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه }
فأجاب : كيف أعرف السبيل وأنا في بحر لجاج متلاطم الأمواج من الظلمات ؟
فأجيب : اهتدي بنور الله فإن الله يقول { أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات }
فأجاب : ولكني في { بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض } {فهل إلى خروج من سبيل }
فأجيب : اهرب إلى الله عبر طريق الله فإن الله يقول { ففروا إلى الله }
فأجاب : كيف ؟ وبما ذا؟
فأجيب : إن الله قد بين لك الطريق { وهديناه النجدين فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة }
فأجاب : أي عقبة ؟ وكيف أقتحمها ؟
فأجيب : إن الله يبين لك ذلك { وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤتي كل ذي فضل فضله }
فلما سمعها ووعاها أصابته قشعريرة ، ثم ذابت الدموع الجامدة على جفنيه ، خر ساجدا يتمرغ في التراب يردد استغفر الله العظيم إن الله غفور رحيم ، وبعد حين رفع رأسه فوجد الظلمات قد انجلت وانتشر النور والأنوار ، والأنسام ، ثم استوى قاعدا يشكر الله ويردد ربي لقد عظمت ذنوبي كثرة أني أسألك العفو والمغفرة
ومرة أخرى طفق يسمع ذلكم الصوت الخفي الشجي يردد { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إن الله هو الغفور الرحيم }
ثم صار يرد سبحان الله نعصيه في كل لحظة وحين ، يتودد إلينا ولا يبالي ؟
فأجابه ذلكم الصوت بقول الله تعالى { إن رحمتي وسعت كل شيء }
ثم رفع رأسه إلى السماء حامدا الله تعالى قد انجلت الظلمات والهموم . فلم ير إلا النور الساطع يغطي الأفق ، بل وسار كل شيء نورا ، ثم سمع مرة أخرى ذلكم الصوت العذب الشجي يردد : { الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء } ثم قال : { ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا }
ثم نادى ذلكم الصوت بالله عليك قل لي من أنت ؟ ومن أين جئت ؟ فأجابه قائلا : أنا منك وإليك :{ فطرة الله التي فطر الناس عليها } وهكذا استجاب القلب الغافل لنداء الفطرة بعد تأمل في كتاب الله تعالى ، حيث فكت الأقفال وانجلت الظلمات وتلاشت الهموم وسار يتفكه في ظلال أنواره القرآن ، { والله نزل أحسن الحديث كتابا متا شابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب }