1 - التكرار في النظريَّة اللغويَّة العربيَّة :
لم يغفل علماء العربيَّة ما لظاهرة التكرار من أثرٍ في سبك الكلام وجودته , سواءً أكانوا مفسرين , أم نحاة , أم بلاغيين ؟ فالزَّمخشري يرى أنَّ ((جدوى التأكيد أنَّك إذا كررت فقد قررت المؤكد وما عَلَقَ به في نفس السامع ومكنته في قلبه , وأمطت شبهة ربما خالجته أو توهمت غفلة أو ذهاباً عمَّا أنت بصدده فأزلته))( 1).
ووصفه ابن الأثير بكلامٍ بديعٍ فقال : (( اعلم أنَّ هذا النوع من مقاتل علم البيان , وهو دقيق المأْخذ . وحدُّهُ هو : دلالة اللفظ على المعنى مردَّداً ))(2 ) , ويرى ابن الأثير أنَّهُ صنفان : الأول : المفيد , والثاني غير المفيد , وعنى بالمفيد أن (( يأتي في الكلام تأكيداً له وتشييداً من أمره . وإنمّا يُفعل ذلك للدلالة على العناية بالشيء الذي كرَّرتَ فيه كلامك ؛ إمَّا مبالغة في مدحه , أو في ذمِّه أو غير ذلك ))( 3 ) , أمَّا غير المفيد فهو الذي لا يضيف معنى آخر إلى الكلام , وإنَّما هو (( التكرير الفاحش الذي يؤثِّر في الكلام نقصاً ))( 4).
وقد عَدَّ السجلماسي(ت 704هـ)التكرار الجنس العاشر من أجناس أساليب علم البيان وصنعة البلاغة والبديع , وقد عرّفه بقوله : هو (( إعادة اللفظ الواحد بالعدد , أو بالنوع , أو المعنى الواحد بالعدد أو بالنوع في القول مرتين فصاعداً . والتكرير اسم لمحمول يشابه به شيءٌ شيئاً في جوهره المشترك لهما , فلذلك هو جنس عالٍ تحته نوعان : أحدهما : التكرير اللفظي , ولنُسَمِّه مُشَاكلةً . والثاني : التكرير المعنوي , ولنُسَمِّه مناسبةً , وذلك لأنَّه إمَّا أن يعيد اللفظ وإما أن يعيد المعنى , فإعادة اللفظ هو التكرير اللفظي وهو المشاكلة , وإعادة المعنى هو التكرير المعنوي وهو المناسبة ))( 5 ).
وقد عرّف صفي الدين الحلي (ت 750هـ ) التكرار من حيث الوظيفة فقال : (( هو أن يكرِّرَ المتكلم الكلمة أو الكلمتين بلفظها ومعناها لتأكيد الوصف أو المدح أو غيره من الأغراض ))( 6).
والتفت الزركشي إلى فوائد التكرار فقال
(وله فوائد أحدها: التأكيد ,واعلم أنَّ التكرير أبلغ من التوكيد ...[ ومنه ] قوله تعالى: • (آل عمران42)... الثاني: زيادة التنبيه على ما ينفي التهمة , ليكمُل تلقي الكلام بالقبول , ومنه قوله تعالى: • (غافر38 , 39) فإنَّه كرَّر فيه النداء لذلك . الثالث : إذا طال الكلام وخُشيَّ تناسي الأوَّل أعيد ثانياً تطرية له , وتجديداً لعهده , كقوله تعالى : (النحل110) ...الرابع: في مقام التعظيم والتهويل, ومنه قوله تعالى: (الحاقة1, 2) ... الخامس : في مقام الوعيد والتهديد , كقوله تعالى : (التكاثر3, 4)...السادس : التعجب , كقوله تعالى : (المدثر 19, 20) ... السابع : لتعدد المتعلق , كما في قوله تعالى : ( الرحمن13) فإنَّها وإن تعددت ؛ فكُلُّ واحد منها متعلق بما قبله , وإنَّ الله تعالى خاطب بها الثقلين من الإنس والجن , وعدَّد عليهم نعمه التي خلقها لهم ؛ فكلما ذكر فصلاً من فصول النِّعم طلب إقرارهم واقتضاهم الشكر عليه , وهي أنواع مختلفة , وصور شتى ))( 7) .
يُلحَظُ من عناية العلماء العرب أنّهم وقفوا على نوعين فقط من التكرار هما : التكرار اللفظي والتكرار المعنوي , كذلك إنَّ عنايتهم في التكرار كانت من حيث الوظيفة الدَّلالية وأثرها في فهم النَّصِّ , فضلاً عن أداءه لوظيفة السَّبْكِ النَّصيّ .
2 -التكرار في البحث النصي :
يرى هاليداي أنَّ التكرار( 8 ) يعني : (( إنَّ أيَّة حالة تكرار يمكن أن تكون (أ) الكلمة نفسها , ( ب ) مرادفاً أو شبه مرادف , (ج) كلمة عامة , (د) أو اسماً عاماً ))( 9).
وجعل ( واورزنياك ) التَّكرار ضمن الإحالة الاسميَّة ؛ إذ يشير إلى أنَّ الإحالة الاسميَّة تشتمل (( على تكرير الاسم المحتمل . ويحدث التكرير إمّا في صياغة متساوية في الشكل أو متنوعة صرفياً في مقابل الاسم المنطلق النَّصي . ونَعُدُّ مِن الأسماء المتساوية في الشكل أيضاً تلك الأسماء التي تقدَّم تبعاً لتكرير التعيين الاسمي الانتقالَ من المستوى النَّصّي إلى الجدّة النَّصّية إلى المعلومة النَّصّية))(10 ).
ولا يرى (بوجراند) كبيرَ أثرٍ للتكرار في سبك النَّصِّ وتماسكه , فيقول : (( تُعدُّ إعادة اللفظ في العبارات السطحيَّة التي تتحد محتوياتها المفهومية وإحالاتها من الأمور العادية في المرتجل من الكلام ))( 11 ), ويمكن(( لإعادة اللفظ في العبارات الطويلة أو المقطوعات الكاملة أن تكون ضارة لأنَّها تحبط الإعلاميَّة ))( ) , ومع هذا فـ(بوجراند) لم يسلب التكرارَ التأثير كلَّهُ فقال : (( ومن صواب طرق الصياغة أن تخالف ما بين العبارات بتقليبها بواسطة المترادفات . ولكن قد يحدث ألا يكون هناك إلا اسم واحد للمدلول المطلوب ... وفي التقارير العلميَّة يجب أن يكون هناك استقرار على استعمال المصطلحات المحددة على الرغم ممَّا يتطلبه مبدأ الإعادة ويبدو أن السامعين والقراء يهيئون إرهاصاتهم للاستجابة لهذه العوامل ))( 12 ) , وكذلك يقول (( ويمكن للمخالفة المتعمدة لمبدأي الثبات والاقتصاد أن تزيد في الإعلاميَّة والاهتمام ))( 13 ).
ولا يرى الباحث كبيرَ فرقٍ بين ما رآه ابن الأثير سابقاً وبين ما ذهب إليه (بو جراند) ؛ إذ إنَّ كلاهما كان ينظر إلى التكرار من منحى واحد هو المنحى الوظيفي , ومدى فائدة التكرار لسَّبْكِ النَّصِّ .
ويرى د. الزَّنَّاد أنَّ التكرار هو نوع من أنواع الإحالة القبليَّة وسمّاه بـ(الإحالة التكراريَّة) وهي
( تكرار لفظٍ أو عدد من الألفاظ في بداية كُلِّ جملة من جمل النَّصِّ قصد التأكيد))( 14).
ويمثل التكرار الوسيلة الأكثر فائدةً للربط ؛ إذ إنَّه (( خير وسيلة للتذكير بما سبق , وإنَّه حين يعدل عنه إنَّما يكون ذلك توخياً لمبدأ الاختصار))( ) ويكون القصد الأساسي فيه التذكير والترسيخ فيُشَّدُ التفاتُ السامع بالإلحاح والتأكيد على جانبٍ مهم من اللفظ أو المعنى ,وهو بهذا ذو وظيفة تداوليَّة إعلامية تعمل على إثارة التوقع لدى السّامع للموقف الجديد( 15). وهناك تأثير نفسي لإعادة اللفظ , وهو ثبات العناصر المكررة في الذاكرة , ممَّا يؤدي إلى جعل نقطة الاتصال أكثر وضوحاً عند ذلك( 16 ).
إنَّ للمتكلم أثراً بارزاً في إفادة التكرار سبكَ النَّصِّ ؛ لأنَّ التكرار يحتوي على كُلِّ ما يتضمنه أيُّ أسلوبٍ آخر من إمكانيته التعبيرية , فيستطيع أن يغني المعنى إن استطاع المتكلم أن يسيطر عليه سيطرة كاملة , ويستعمله في موضعه , وإلا فإنَّه سيتحول إلى مستوى مبتذل من الأداء اللفظي( 17), فإعادة الكلمة أو الكلمات مرة أخرى داخل النَّصِّ نفسه يمثل دعماً للربط الدَّلالي . والتكرار عامة يسمح للمتكلم أن يقول شيئاً مرة أخرى بالتتابع مع إضافة بُعْدٍ جديد له , وتكرار التعبير يبقي على نفس المرجع وهذا يعني أنَّه يستمر حتى يرسم الوجود نفسَهُ في عالمِ النَّصِّ ,وحينئذٍ يدعم ثبات النَّصِّ بقوة هذا الاستمرار الواضح( 18).
وإنَّ الغاية من التكرار إحداث أثرٍ دلاليٍّ في الكلام ؛ إذ إنَّ (( القصد بتكرير الاسم إنَّما هو تكرير المعنى , أي المسمى وليس تكرير اللفظ , أيّ إنَّها عملية تقوم على تكرير لفظ أو استبداله بآخر دون تجدد في الخارج , فيكون الأمر من قبيل تجدد الدَّلالة على المعنى وتعطل تجدد الإحالة على الخارج ))( 19 ). ويشترط لتحقيق هذه الوظيفة شرطٌ أساسيٌّ وهو أن يكون لهذا العنصر المكرَّر نسبة ورود عالية في النَّص تميزه عن نظائره , وبالتعرف عليه تنكشف قصدية النَّصِّ وتُدرك كيفية أداءه لدلالته . فالتكرار زيادة على كونه يؤدي وظائف دلاليَّة معينة فإنَّه يؤدي كذلك إلى تحقيق السَّبْكِ النَّصيّ وذلك عن طريق امتداد عنصر من بداية النَّصِّ حتى آخره . وهذا الامتداد يربط بين عناصر النَّصِّ مع مساعدة عوامل السَّبْكِ الأخرى . وإذا كان لكُلِّ نصٍّ محاور رئيسة فيجب أن تقوم ظاهرة التكرار بتدعيم تلك المحاور( 20 ) , كذلك فاللفظ المكرَّر يجب أن يكون وثيق الارتباط بالمعنى العام للنص( 21) .
ولقد توسع النصيّون بأقسام التكرار؛ فتكلموا عن خمسة أنواعٍ هي( 22 ) :
الأول: التكرار المحض أو التام : ويقصد به تكرار الكلمة نفسها .
الثاني : التكرار الاشتقاقي : ويقصد به تكرار عنصر سبق استعماله ولكن بصيغ وأشكال مختلفة , أو هو الاستعمالات المختلفة للجذر اللغوي .
الثالث : التكرار بالترادف أو شبه الترادف : ويسمى أيضاً التكرار غير الصريح , ويعمد إليه المتكلم ؛ لأنَّ الكلام يقتضي وجود حركة بين عناصر الخطاب لا تتكرر أسماؤهم بذات الصيغ , بل بصيغ مماثلة نحوياً ومغايرة شكلاً ( 23). وأسمّاه د. محمد يونس علي بـ( الترادف الإشاري ) وهو (( اتفاق لفظين أو أكثر في المشار إليه , وبناء على ذلك , لا يوصف اللفظان بالترادف الإشاري إلا إذا كان المشار إليه فيهما واحداً ... ولا يتأتى إلا بمراعاة السياق الثقافي , فهو أشد التصاقاً بالبحث التخاطبي منهُ بالبحث الدَّلالي ))( 24).
الرابع : الاسم الشامل ( العام ) : ويقصد به اسم يحمل أساساً مشتركاً بين عدة أسماء , ومن ثم يكون شاملاً لها ( 25 ).
الخامس : التكرار القضوي : وهو تكرار قضية ما بجمل وعبارات مختلفة عن بعضها , فتتكرر القضية أكثر من مرة بكلمات مختلفة , وتفيد الزيادة في الموعظة لا سيَّما في الأمور العظيمة عندها لا يمل المتكلم ولا السامع من التكرار؛ لأنَّ أهمية الموضوع ومقام الموعظة تقتضى ذلك.
المصدر : السبك النصي في القرآن الكريم دراسة تطبيقية في سورة الأنعام
------------------------
( 1) المفصل : 111- 112 .
( 2) المثل السائر : 3 /3 .
( 3) المثل السائر : 3 / 4 .
( 4 ) المصدر نفسه : 3 / 25 .
( 5) المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع, أبو محمد السجلماسي, تحقيق: علال الغازي :476- 477.
( 6) شرح الكافية البديعية في علوم البلاغة , صفي الدين الحلي , تحقيق: د.نسيب نشاوي: 134 .
( 7 ) البرهان : 3 / 11– 16 .
( 8 ) توهم د. صبحي إبراهيم الفقي حينما قال : (( إن (هاليداي) و(رقيّة حسن) لم يجعلا التكرار من وسائل التماسك النصي )) . علم اللغة النصي بين النظريّة والتطبيق : 2 / 19 , والصحيح أنهما أثبتاه في السبك المعجمي . ينظر : الإحالة دراسة نظريّة : 67 .
( 9) لسانيات النص مدخل إلى انسجام الخطاب :237 .
( 10) مدخل إلى علم النص مشكلات بناء النَّصِّ : 137.
( 11 ) النص والخطاب والإجراء : 303 .
( 12 ) المصدر نفسه : 306 .
( 13 ) النص والخطاب والإجراء : 306 .
( 14 ) المصدر نفسه : 304 .
( 15) نسيج النص : 119 .
( 16) مقالات في اللغة والأدب : 1 : 195 .
( 17) ينظر : الإحالة التكرارية وأثرها في التماسك النصي ( بحث ) ميلود نزار :12 .
( 18) ينظر : النص والخطاب والإجراء : 304 .
( 19 ) ينظر : قضايا الشعر المعاصر , نازك الملائكة : 230 – 231 .
( 20 ) ينظر : نظرية علم النص :106 .
( 21 ) أصول تحليل الخطاب : 2 / 1108 .
( 22 ) ينظر : نظرية علم النص : 107 .
( 23 ) ينظر : قضايا الشعر المعاصر :231 .
( ) ينظر : الإحالة دراسة نظريَّة : 67 , ولسانيات النص مدخل إلى انسجام الخطاب : 24- 25 .
( ) ينظر : لسانيات النص نحو منهج لتحليل الخطاب الشعري : 80 .
( ) المعنى وظلال المعنى أنظمة الدلالة في العربية , د. محمد محمد يونس علي: 404 .
( ) ينظر : علم لغة النص بين النظرية والتطبيق : 108 .