- حنين 89 كتب:
- أريد أن أسألكم أين توجد قصيدة ابن زريق ( لا تعذليه فإن العذل يولعه ) في أي المصادر موجودة
اليك طلبك مع التحية
«نحن في سنة 471 للهجرة. وقد مر على وفاة ابن زريق البغدادي أكثر من خمسين عامًا. وأنا لست سوى كاتب صغير في ديوان وزير الدولة أعزه الله. ومنذ أن كلف الخليفة - أدام الله ظله على الأرض - مولاي الوزير بهذه المهمة وأنا مرتحل في بلاد الله أبحث عن طلب الخليفة. ذرعت العراق والشام ومصر وإفريقيا كلها حتى بلغت الأندلس نفسها طلبًا للحقيقة، وأي حقيقة؟».
يضعنا الكاتب تدريجيًا بعد ذلك في مناخ الرواية وعوالمها الغريبة، حيث يذهب أبو العباس الجرجاني بتكليف من مولاه وزير الدولة للبحث عن حقيقة ابن زريق واستجلاء الألغاز الكثيرة التي أحاطت بذلك الشاعر، الذي قضى بعيدًا عن الفتاة التي شغف بها، وعن مدينته بغداد التي لم يتح له حظه العاثر أن يدفن في ترابها.
على أن الجرجاني لم يعد من رحلته إلى الأندلس بما يشفي غليل الوزير ولا الخليفة العباسي، ولم يعرف من حقيقة صاحب «العينية» الشهيرة إلا ما تناهى إلى أهل بغداد من معلومات شحيحة لا تشفي غليل الباحث عن حقيقة الشاعر أو الملمين بأخباره. على أن الطريف في الأمر هو أن الجرجاني لا يكتفي بالشك بحقيقة وجود ابن زريق البغدادي من الأصل، وبالتفكير بأن أحدًا من الشعراء العرب قد انتحل اسمه، ونسب القصيدة إليه لأسباب غامضة، بل يذهب إلى الشك بوجوده هو الآخر، وبخاصة بعد أن عاد إلى بغداد بعد سنوات ثلاث من الغربة ليجد منزله مسكونًا من قبل أناس آخرين ينكرون عليه ملكيته للمنزل، وليفقد الصلة بزوجته وأولاده الثلاثة في الوقت نفسه.
لم يكن أبو العباس الجرجاني ليتجرأ على مقابلة الوزير أو الخليفة وهو خالي الوفاض، لذلك، يقرر الاستمرار في بحثه عن حقيقة الشاعر الذي يحفظ الناس قصيدته الشهيرة «لا تعذليه فإن العذل يولعه/ قد قلت حقًا ولكن ليس يسمعه» عن ظهر قلب. ثم تقوده المصادفات من مكان إلى مكان ومن شخص إلى آخر، حتى يحط به المطاف أخيرًا في المدائن القريبة من بغداد حيث يلتقي بشيخ طاعن في السن اسمه صائد الكوفي ما يلبث أن يعترف له بأنه رافق ابن زريق في رحلته إلى قرطبة وفي معاناته المريرة التي قادته عبر مصر وصقلية إلى تجشّم المخاطر لكي يجد المال اللازم للاقتران بابنة عمه هند، التي رفضت أمها تزويجها له بسبب فقره المدقع. هكذا يسلمنا المؤلف إلى راوية آخر هو صائد الكوفي الذي ينصت الجرجاني مذهولاً إلى حكايته مع ابن زريق الذي ربطته به صداقة عميقة الوشائج دفعته إلى ترك أمه وحيدة في بغداد، ومرافقة الشاعر الذي عانى اليتم والفاقة، كما لم يحدث لشاعر آخر إلى الأندلس لكسب المال اللازم لزواجه المأمول.
روح السرد العربي
ثمة بالطبع تفاصيل وجزئيات كثيرة تحفل بها رواية أحمد الدوسري المشوقة والمؤثرة في آن واحد. واللافت هنا أن المؤلف يترك للمصادفة المحضة أن تدفع تراجيديا ابن زريق إلى نهاياتهاالمؤلمة. فالأمير أبوعبدالرحمن الأندلسي الذي مدحه الشاعر البغدادي بغية الحصول على خمسة آلاف دينار، هي قيمة المهر الذي طلبته أم هند الجشعة والقاسية من عاشق ابنتها المولّه، لم يكن يهدف حين قصرعطاءه لابن زريق على ثلاثين دينارًا سوى امتحان الشاعر في تعففه وإحساسه بالكرامة حتى إذا آنس منه هذا التعفُّف نقده بقية المبلغ المالي بعد أيام. لكن ابن زريق الذي شعر بجرح بالغ في كرامته لم يستطع تحمل الموقف، فقضى نحبه من الألم والغم، تاركًا تحت وسادة غربته إحدى أشهر القصائد العاطفية والوجدانية في التاريخ العربي. ثمة في هذا المصير الفاجع الذي واجهه ابن زريق ما يتصل بما يمكن تسميته بسخرية الأقدار التي تقلب الطرافة إلى مأساة، والموقف العابث إلى مأزق كابوسي، وهو ما نجد نظائر له في التراجيديا الشكسبيرية وبخاصة في مسرحية روميو وجولييت التي كان يمكن لها أن تشهد نهاية مغايرة لو تمكن حامل الرسالة من إيصالها في الوقت المناسب وإلى الشخص المناسب. ولو لم يخطر للأمير الأندلسي أن يمتحن ابن زريق بعد مدحه له ليرى ردة فعله إزاء المبلغ الشحيح الذي منحه إياه لتغيّر مصير الشاعر وعاد إلى حبيبته وهو يحمل لها المهر وخاتم الزفاف والسعادة المنتظرة، إلا أن نهاية سعيدة كهذه لم تكن لتمكّنه من كتابة رائعته الشعريةالتي ظلت تتلألأ كالماسة في معاصم الزمن. وهذاالمأزق الإشكالي لا ينحصر بابن زريق وحده، بل ينسحب على مجمل الشعراء العذريين الذين كان عليهم أن يخسروا الحياة لكي يربحوا القصيدة.
يتيمة إبن زريق البغدادي
لا تعذليه فإن العذل يولعه = قد قلتِ حقا ولكن ليس يسمعه
جاوزت في لومه حدا أضر به = من حيث قدّرتِ أن اللوم ينفعه
فاستعملي الرفق في تأنيبه بدلاً =من عذله فهو مضنى القلب موجعه
قد كان مضطلعا بالخطب يحمله = فضيقت بخطوب الدهر أضلعه
يكفيه من لوعة التشتيت أن له =من النوى كل يوم ما يروعه
ما آب من سفر إلا وأزعجه = رأي إلى سفر بالعزم يزمعه
كأنما هو في حل ومرتحل = موكلٌ بفضاء الله يذرعهُ
إن الزمان أراه في الرحيلِ غنى = ولو إلى السند أضحى وهو يزمعه
وما مجاهدة الإنسان توصله =رزقا، ولا دعة الإنسان تقطعه
قد وزّع الله بين الخلق رزقهمُ = لم يخلق الله من خلق يضيعه
لكنهم كلفوا حرصا ، فلست ترى = مسترزقا وسوى الغايات تُقنعه
والحرص في الرزق-والأرزاق قد قسمت = بغي ألا إن بغي المرء يصرعه
والدهر يُعطي الفتى من حيث يمنعه = إرثا ويمنعه من حيث يطمعه
أستودع الله في بغداد لي قمراً = بالكرخ من فلكِ الأزرار مطلعه
ودّعته وبودي لو يودعني =صفو الحياة ولا أني أودعه
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى = وأدمعي مستهلات وأدمعه
لاأكـذب الله ثـوب الـصبر مـنخرق= عـنـي بـفـرقته لـكـن أرقـعـه
أنــي أوسـع عـذري فـي جـنايته= بـالـبين عـنـه وجـرمي لايـوسعه
رزقـت مـلكاً فـلم أحـسن سـياسته= وكـل مـن لايـسوس الـملك يـخلعه
ومن غدا لابسا ثوب النعيم بلا = شكر عليه فإن الله ينزعه
اعتضت من وجه خلي بعد فرقته = كأسا أجرع منها ما أجرعه
كم قائل لي ذقت بين ، قلت له: = الذنب ذنبي فلست اليوم أدفعه
ألا أقمت فكان الرشد أجمعه؟ = لو أنني يوم بان الرشد أتبعه
إني لأقطع أيامي ، وأنفذها = بحسرة منه في قلبي تقطعه
بمن إذا هجع النوام بت له = بلوعة منه ليلي لست أهجعه
لا يطمئن لجنبي مضجع ، وكذا =لا يطمئن له مذ بنت مضجعه
ما كنت أحسب أن الدهر يفجعني = به، ولا أن بي الأيام تفجعه
حتى جرى البين فيما بيننا بيد = عسراء تمنعني حظي وتمنعه
قد كنت من ريب دهري جازعا فرقا = فلم أوق الذي قد كنت أجزعه
بالله يا منزل العيش الذي درست = آثاره وعفت مذ بنت أربعه
هل الزمان معيد فيك لذتنا = أم الليالي التي أمضته ترجعه
في ذمة الله من أصبحتَ منزله = وجاد غيث على مغناك يُمرعه
من عنده لي عهد لا يضيعه = كما له عهد صدق لا أضيعه
ومن يُصدع قلبي ذكره، وإذا = جرى على قلبه ذكري يصدعه
لأصبرن لدهر لا يمتعني = به ولا بي في حال يمتعه
علما بأن اصطباري معقب فرجا = فأضيق بالأمر إن فكرت أوسعه
عسى الليالي التي أضنت بفرقتنا =حيناً ستجمعني يوما وتجمعه
وإن تغُل أحدا مناً منّيته =فما الذي بقضاء الله يصنعه؟
دمعة الفراق لـ (قمر) في بغداد!
سعد بن ضيدان السبيعي
في مرض وفاته ترك رقعة لزوجته ( قمر بغداد) عند رأسه؟! الأديب الشاعر المشهور أبو الحسن علي بن زُرَيْق الكاتب البغدادي المتوفى سنة 420هـ رحمه الله أجبره شظف العيش ..ومر الحياة..على وداع زوجته أو(القمر) كما سمها في قصيدته!
رحل من بلده (دار السلام) بغداد لطلب الرزق والمعيشة لرفيقة دربه ..فما كان منها حين ودعها ... إلا أن تشبثت به ..وتعلقت بثيابه...وقد علاها النحيب ..وكاد يقتلها الآسى... وسار هو الأخر والألم يعتصر قلبه ...عاشت بعده بين أمل يحدوها لرؤيته مرة أخرى..وهم وحزن لفراقه..
وهناك في بلد الغربة بلاد (الأندلس) وضع ابن زريق رحله ...وتقلبت به الدنيا.....وصوادف الدهر .....ودارت به الأيام... ولم يغب عنه صورة حليلته التى خرج من أجلها.. يرى خيالها...ويستنشق عبق ريحها..تردد على أبواب السلاطين لطلب النوال ...فلم يحصل على طائل! فقد قصد أبا عبد الرحمن الأندلسي وتقرب إليه بنسبه فأراد أبو عبد الرحمن أن يبلوه ويختبره فأعطاه شيئا نزرا فقال ابن زريق: إنا لله وإنا إليه راجعون سلكت البراري والقفار والمهامه والبحار إلى هذا الرجل فأعطاني هذا العطاء النزر فانكسرت إليه نفسه وعتل [1].
...وحس بدنو الأجل ...ودنت ساعة الصفر....وهجم عليه الموت.... وهو في دار غربتة بعيدا عنها... ووقع ماكانت تخشاه(قمر)بغداد ...وصح حدسها!
فكتب قصيدة يتيمة رنانة وجدت بعد وفاته في رقعة جعلها عند رأسه .
وشغل عنه الأندلسي إياما ثم سأل عنه فخرجوا يطلبونه فانتهوا إلى الخان الذي هو فيه وسألوا الخانية عنه فقالت: إنه كان في هذا البيت ومذ أمس لم أبصره فصعدوا فدفعوا الباب فإذا هو ميت وعند رأسه رقعة فيها مكتوب:
لا تعذليه فإن العذل يولعه ** قد قلت حقا ولكن ليس يسمعه
وذكر أبياتا من القصيدة غير تامة[2] .
فيها حسن السبك...وقوة المعنى...وصدق العاطفة...ودقة التصوير...وكأني بابن زريق وهو يعاني من غصص الموت وكربه..مرة حياة (قمر)بغداد في مخيلته..... وتذكر الأيام الجميلة التي قضاها معها..وتذكر دموعها التي كانت يكفكفها بيده وهى تودعه حين علا نحيبها ...وتذكرها وهى تنظر إليه بعد أن فارقها راحلا عنها حتى زال به السراب ...فخرج من الدنيا من دون شيء إلا هذه القصيدة التي خلدت اسمه ...بل هى أرووووع ماقيل في الفراق...تداولها الناس ...وسارت بها الركبان ....ووقف لها التاريخ وصفق لها..قالها في زوجته التي تغرب من أجلها ...وألمه فراقها ....مصورا حالها حين ودعها ...ملتمسا منها العذر والمسامحه في تركه لها ....وهى موسمة بـ (عينية ابن زريق)أو( قمر في بغداد) .
وروى الحافظ أبو سعد في الذيل أن الإمام أبا محمد بن حزم قال من تختم بالعقيق وقرأ لأبي عمرو وتفقه للشافعي وحفظ قصيدة ابن زريق فقد استكمل ظرفه[3]
وقال السبكي: قصيدة علي بن زريق الكاتب البغدادي غراء بديعة[4]
لا تعذليه فإن العذل يولعه ** قد قلت حقا ولكن ليس يسمعه
جاوزت في لومه حدا يضر به ** من حيث قدرت أن اللوم ينفعه
فاستعملي الرفق في تأنيبه بدلا ** من عنفه فهو مضني القلب موجعه
قد كان مضطلعا بالبين يحمله ** فضيقت بخطوب البين أضلعه
يكفيه من روعة التشتيت أن له ** من النوى كل يوم ما يروعه
ما آب من سفر إلا وأزعجه ** رأى إلى سفر بالعزم يجمعه
كأنما هو من حل ومرتحل ** موكل بفضاء الأرض يذرعه
ان الزمان أراه في الرحيل غنى ** ولو إلى السند أضحى وهو يزمعه
تأبى المطامع إلا أن تجشمه ** للرزق كدا وكم ممن يودعه
وما مجاهدة الإنسان واصلة ** رزقا ولا دعة الإنسان تقطعه
والله قسم بين الخلق رزقهم ** لم يخلق الله مخلوقا يضيعه
لكنهم ملئوا حرصا فلست ترى ** مسترزقا وسوى الفاقات تقنعه
والحرص في الرزق والأرزاق قدقسمت ** بغى ألا إن بغى المرء يصرعه
والدهر يعطي الفتى ما ليس يطلبه ** يوما ويطعمه من حيث يمنعه
أستودع الله في بغداد لي قمرا ** بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودعته وبودي أن يودعني ** صفو الحياة وأني لا أودعه
وكم تشفع بي أن لا أفارقه ** وللضرورات حال لا تشفعه
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى ** وأدمعي مستهلات وأدمعه
لا أكذب الله ثوب العذر منخرق ** عني بفرقته لكن أرقعه
إني أوسع عذري في جنايته ** بالبين عني وقلبي لا يوسعه
أعطيت ملكا فلم أحسن سياسته ** وكل من لا يسوس الملك يخلعه
ومن غدا لابسا ثوب النعيم بلا ** شكر عليه فعنه الله ينزعه
اعتضت من وجه خلي بعد فرقته ** كأسا تجرع منها ما أجرعه
كم قائل لي ذقت البين قلت له ** الذنب والله ذنبي لست أدفعه
إني لأقطع أيامي وأنفذها ** بحسرة منه في قلبي تقطعه
بمن إذا هجع النوام أبت له ** بلوعة منه ليلى لست أهجعه
لا يطمئن لجنبي مضجع وكذا ** لا يطمئن له مذ بنت مضجعه
ما كنت أحسب ريب الدهر يفجعني ** به ولا أن بي الأيام تفجعه
حتى جرى البين فيما بيننا بيد ** عسراء تمنعني حظي وتمنعه
قد كنت من ريب دهري جازعا فرقا = فلم أوق الذي قد كنت أجزعه
بالله يا منزل القصر الذي درست ** آثاره وعفت مذ بنت أربعة
هل الزمان معيد فيك لذتنا ** أم الليالي التي أمضت ترجعه
في ذمة الله من أصبحت منزله ** وجاد غيث على مغناك يمرعه
من عنده لي عهد لا يضيعه ** كما له عهد صدق لا أضيعه
ومن يصدع قلبي ذكره وإذا ** جرى على قلبه ذكرى يصدعه
لأصبرن لدهر لا يمتعني ** به كما أنه بي لا يمتعه
علما بأن اصطباري معقب فرجا ** فأضيق الأمر إن فكرت أوسعه
عسى الليالي التي أضنت بفرقتنا ** جسمي تجمعني يوما وتجمعه
وإن ينل أحد منا منيته ** فما الذي في قضاء الله يصنعه
فلما وقف أبو عبد الرحمن الأندلسي على هذه الأبيات بكى حتى خضب لحيته وقال: وددت أن هذا الرجل حي وأشاطره نصف ملكي ،وكان في رقعة الرجل ابن زريق ببغداد في الموضع الفلاني المعروف بكذا والقوم يعرفون بكذا فحمل إليهم خمسة آلاف دينار وعرفهم موت الرجل.
فرحم الله غربة ابن زريق البغدادي ،وآنس وحشته..
----------------------------------------
[1] مقدمة طبقات الشافعية الكبرى .للسبكي..ونقل القصة عن ابن السمعاني الذى رواها بسنده..وفيه أنه رجل بغدادي..وقد ذكرها السبكي بسنده من طريق أخر منسوبه إلى ابن زريق.
[2] مقدمة طبقات الشافعية الكبرى .للسبكي..ونقل القصة عن ابن السمعاني الذى رواها بسنده
[3] مقدمة طبقات الشافعية الكبرى للسبكي،والوافي بالوفيات للصفدي.وقد نقل هذا أيضا عن ابن حزم الحميدي صاحب كتاب جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس.
[4] مقدمة طبقات الشافعية الكبرى للسبكي.