حتى الحجارة تبكي
تراها جامدة ، تخالها بكماء صماء لا تسمع ولا ترى ، لا تملك حسا ولا تحمل شعورا ، لا تذرف دمعا ولا تتقطع ألما وحزنا ، فقط لأنها لا تملك في نظرنا قلبا رهيفا أو كبدا رطبا ، هذا حكمنا نحن فقط ، لأننا ننطلق من حالنا وطبيعتنا ، لأننا نعلم أن البكاء والحزن لذوي القلوب الرهيفة والأعين الكريمة .
مرت عليها الأيام وتوالت عليها السنون والأزمان ، إلا أنها لم يتغير لونها ولا حالها ، عاشت أزمات ونكبات ، تلقت لكمات وكدمات من لدن الإنسان والأزمان ، والحال والأحوال والأيام .
ركينة في مكانها حيث هي ، في شعبة بين الضفة والقطاع ، عجماء ، بكماء ، صماء تحمل في ذاكرتها قصصا طوالا ، وأخبارا وحكايات وذكريات ، وتواريخ وسير وملاحم ، وعلى خديها رسوما لأظافر الخطوب والحدثان ، هي أطول عمرا منا ، وتعرف أكثر منا ، إلا أنها لا تملك قدرة التبليغ ، ولا تحمل لسانا ناطقا ، أو عقلا ذاكرا ؟
ولكن لو تصفحت وجهها وتمعنت حالها ، لعرفت الكثير من همومها وآلامها ، ولتبدت أمام عينيك مسراتها وملذاتها ، ولكلمتك وسمعت شكواها وأنينها دون لسان ، ولحدثتك دون شفاه ، ولرأيت دموعها سائرة دون أجفان ؟
ركينة ، جامدة ، سكينة ، ساجدة ، في مكانها منذ أمد بعيد ، لها تاريخ وعمر يمتدان في عمق الزمن السحيق ، عاشرت أمما وشعوبا وقبائل بائدة ، لم يبق منها ولها إلا ذكريات منفوثة في بطون الكتب والأسفار، أو لحظات راسخة في ذاكرة هذه الحزينة التي تزدحم فيها النكبات واللكمات والمسرات والملذات ، مع عبارات العز والفخر التي عز نظيرها في زمن الحزن والبكاء ، في زمن الذل والقهر والحرمان ، في زمن الظلم والغصب والاغتصاب .
طال بها الأمد ، وامتدت بها الأيام والسنون ، حتى طالها بطش الأيادي الخبيثة والقلوب الغاشمة التي لا تفرق بين الصغير والكبير والفطيم والرضيع والمتهم والبريء ، وحتى الحيوان والحجر والشجر والأرض والسماء ، تعيث في الأرض فسادا وخرابا ودمارا .
ركينة في مكانها ، تحس بألم شديد في عمقها السحيق ، تسترجع ذكرياتها الهادئة والجميلة ، تذرف الدموع بالتراسل كالثكلى الوحيدة في شاهق جبل ، ليس على حالها المنشطر ، ولا على وجهها الجميل الذي فقد رونقه وجماليته ومحاسنه ، ولا على أجزائها المتناثرة التي أضحت إربا متباعدة يستحيل تجمعها مرة ثانية بعد أن ظلت مجتمعة لمئات السنين عبر الزمن والمكان .
ولكنها تردد نحيب الثكالى وأنين اليتامى ، وآهات الشيوخ والعجائز ، وصراخ الأطفال المرضى والجوعى والعطشى ، هي بلا قلب تحزن وتشفق وتحن وترحم ، هي دون لسان تحكي وتشكي ، هي بلا أجفا تذرف الدمع ألما وحزنا ، هكذا هي تحس بنا بلا إحساس ، ونحن بأحاسيسنا لا نحس بها ولا بأهالينا ، وهؤلاء بقلوبهم وأكبادهم يقتلون ويشردون ويجوعون غصبا واغتصابا بلا شفقة ولا رحمة { ثم قست قلوبهم من بعد ذلك فهي كالحجار أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منها الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منها الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون }.
حط على ظهرها طير مغترب غريب مثقل بالهموم والأحزان ، سمع أنينها وبكاءها حزن لحزنها وتألم لآلامها ، وهكذا الطبيعة البريئة النقية تحس ببعضها وتتألم لآلام أجزائها ومكوناتها ، هز جناحيها وخفق ورفرف ثم نزل من عليها إلى الأرض فنظر إليها نظرة المتألم الحائر المتحسر قائلا : سيدتي أراك حزينة تتألمين تتوجعين تتقطعين حسرة وضيما هل تبكين لحالك ؟ أم تبكين على أجزائك المتناثرة ؟ أم ماذا يبكيك سيدتي ؟
سكتت ساعة وأجابته قائلة ، لا ، لا ، لا، أبكاني هذا النحيب ، هذا الأنين هذه الأحزان ، هذه الدموع ، هذه الدماء ، هذه الأشلاء ، هؤلاء المشردين ، هؤلاء المسجونين ،هؤلاء المعطوبين ، هؤلاء الجرحى ، وهذه الجروح التي لا تتوقف ، وهذه القلوب الصغيرة التي خرجت إلى الوجود حزينة ، وهذه العيون التي فتحت جفنيها لأول مرة بدموع الأحزان ، هذه الخدود المحروقة بالسكوب ، هذه الوجوه المصلية بكل أنواع الهموم ، هذه الجباه المعقودة على كل معاني الحزن والحرمان ؟
بكى بكاء شديدا فقلب رأسه في السماء وجد الكل يبكي ، الأرض ، النساء ، الرجال ، الكبار، الصغار، الأحجار، الأشجار، الحشائش ، الأطيار، الأفراخ ، الكل يبكي حتى العظام البالية في لقبور، خفق بجناحيه وعلا في السماء مرددا قول الله { وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون }