نظرية اللسانيات النسبية ونحو العربية من اللغات التوليفية
الدكتور محمد الأوراغي جامعة محمد الخامس - كلية الآداب
تقديم
في سياق الندوات العلمية يصعب على المتدخّل أن يُحيط، في عرضِه لنظرية جديدة، بأهم ما ينبغي قولُه في الجواب عن أربعة أسئلة رئيسية. أولُها ما الداعي إلى إقامة نظرية لسانية جديدة؟ وثانيها كيف هي بنيةُ النظرية المستحدثة بالقياس إلى مثيلاتها القائمة أو المنقرضة؟ وثالثُها ما توقعاتُها في مجال النماذج النحوية؟ ورابِعُها ما جدوى النظرية والمتوقَّعِ في إطارها من النماذج النحوية. والسؤالُ الأخيرُ يمكن صوغه بالعبارة المألوفة لدى الباحثين بقولنا هل نظرية اللسانيات النسبية أحدث حقّاً ثورةً علمية في حقل الدراسات اللغوية؟
في الجواب عن السؤال الأول لن يقبل أهلُ الاختصاص بغير أن نُثبتَ بأدلة حاسمة أن الفكر اللغوي عموماً يعيش أزمةً في الوقت الراهن، وأن نظيرَه العربي اشتدّت أزمته حديثاً بسبب احتكاكه بتأمُّلات الغربيين في لغاتهم. وبعبارة أخرى يجب عُلومياً الاستدلال على أن ما بأيدي الباحثين في اللغة من نظريات لسانية ونماذجَ نحوية قاصرٌ عن حل الكثير من مشاكل اللغات البشرية التي ظلت إلى الآن مستعصية على الجميع.
وفي سيق الجواب عن السؤال الثاني لن يَقبَل الأثباتُ بغير التصريح بالأُنْمُوذَج أو المحور الاستبدالي الذي يجعلُ اللغةَ تبدو لأول مرة في صورة مغايرةٍ لِحُلِلها في الأعمال اللسانية السابقة. وعندئذ لابد من التصريح بفرضية العمل المؤسِّسة للنظرية، وبيان أن كلَّ لبنةٍ في البناء يجب منطقياً اشتقاقُها من فرضية الانطلاق، وإلا انتفى الانسجامُ الداخلي أحدُ الشروط الضرورية لقبول النظرية وضمان استمرارها. وبما أنه ليس بين المادة والصورة شيءٌ ثالث يلزم أن تنضوي فرضية العمل إلى أحد القطبين في هذه الثنائية.
مما يعرفه معظم المشتغلين بعلم اللغة أن نظرية اللسانيات الكلية قامت أصلاً من أجل تقليص أنحاء اللغات البشرية إلى نحوٍ واحدٍ، يجده صاحبُ النظرية في لغته، ويتوَسَّل بمبدأ التعميم لِيُعدِّيَ مبادئَ هذا النحوِ الكلي وقواعدَه إلى باقي اللغات. كما يَتَّخذ من الاختبار المراسي وسيلة للتحقق من صدق ما يتوقُّعُه نحوُه لكل اللغات، ويساعدُه لسانيون يُلقَّنون قواعد النحو الكلي لِيُطَبِّقوها في وصف لغاتهم الخاصة. وإذا قَضَتْ نظريةُ النحو الكلي مبدأً أو قاعدةً ليس للأنحاء الخاصة إلا الاستجابةُ، وإلا اعتُبِرتْ لغاتُها غير طبيعيةٍ وشاذَّةً.
وما كانت نظريةُ اللسانيات النسبية لِتُقَلِّصَ الأنحاء إلى واحد، ولا أن تُكَثِّرَها بعدد اللغات، وإنما يلزمُها، تحقيقاً لشرط المطابقة، أن تتقيَّد بالمبادئ الأربعة التي تُقَوِّمُ اللغاتِ وغيرَها من الموجودات. منها المبدأ الوضعي للوسائط اللغوية؛ محتواه إمكاناتٌ متقابلة على جهة التضاد، يحكمُها مبدأ الثالث المرفوع. وكلُّ اللغات البشرية مجبرةٌ على اختيار إمكان أو وسيط لغوي وإهمال مقابِلِه. وعندئذٍ يتحتَّم على اللغات التي اشتركت في اختيار نفس الوسائط أن تشترك في نفس الخصائص البنيوية، وأن تُشكِّلَ نفس النَّمط اللغوي. كما يَشَكِّلُ باقي اللغات نمطاً آخرَ لاشتراكها في خصائص بنيوية ثانية بسبب اختيارها لما بقي من الوسائط اللغوية.
يترتَّب عن المثبت هنا أن تتوقَّع نظرية اللسانيات النسبية نموذجين نحويين نمطيين لا غيرُ؛ أحدُهما يُبنى على وسائط اللغات التوليفية ويصلح لوصف هذا النمط، والآخر مبنيٌّ على وسائط اللغات الشجرية، ويصلح لوصف هذا ليس إلاَّ.
عند المسألة عن رتبة مكومات الجملة مثلاً يُجيب أصحاب اللسانيات الكلية بقولهم: لكل لغة بشرية رتبةُ أصلية، وهي مخيرة لتأصيل واحدٍ من هذه التراتيب (فع فا مف) أو (فع مف فا)، أو (فا فع مف)، (فا مف فع)، أو (مف فع فا)، أو (مف فا فع)، ومنه تشتق بقاعدة حرك الألف ترتيباً آخرَ، وتمنع الباقي. أما في اللسانيات النسبية فجوابها عن نفس المسألة تفصيليٌّ على النحو التالي، لكل لغة شجرية رتبةُ أصلية، ولغات هذا النمط مخيرة لتأصيل واحدٍ من هذه التراتيب الستة، إلى آخر ما قيل آنفاً. والرتبة في اللغات التوليفية حرَّةٌ، فجوَّز تركيبُ هذا النمط كلَّ التراتيب (فع فا مف) و(فع مف فا)، و(فا فع مف)، و(فا مف فع)، و(مف فع فا)، و(مف فا فع)، من غير تأصيلٍ لأحدها واشتقاقِ الباقي، ولا احتياجٍ إلى قاعدة تحريكٍ أو نقلٍ، إذ كل التراتيب الستة تُؤخذ مباشرة من توليفة قاعدية في تركيب اللغات التوليفية.
وهكذا احتاجت اللسانيات النسبية إلى مبدأ تنميط احتياج اللسانيات الكلية إلى مبدأ تعميم. وقامت نظرية اللسانيات النسبية أصلاً على المبدأ الوضعي للوسائط اللغوية من أجل المقارنة بين اللغات البشرية في مستوى فصوصها الأربعة: الفص النَّصْغِي فالفص المعجمي، فالفص النَّسْلي، فالفص التركيبِي. في حين ألحقت نظريةُ اللسانيات الكلية البرمترات بها في مستهل الثمانين من القرن الماضي من أجل حمايتها من الانهيار بعد أن كثرت الطعونُ واشتدت القوادح.
من مبادئ النحو الكلي مبدأ أحادية الوظيفية القاضي بأن لا يُسنَد للموضوع الواحد أكثر من وظيفة واحدة، والوظيفة الواحدةُ لا تُسند لأكثر من موضوع واحد. لكن هذا المبدأ في إطار اللسانيات النسبية يصدق مطلقاً في لغات ذات معجم مسيك أفعالُه إساس لا غيرُ، ويصحُّ نسبياً في لغات ذات معجم شقيق، لتوفُّره فضلاً عن الأفعال الإساس، على أفعال شقائق تسمح بالازدواج الوظيفي.
ومن المبادئ التي قامت عليها عملية سيبويه اعتبار الفعل والفاعل مركباً واحداً وقد عمل الأولُ الرفعَ في الثاني، فامتنع، بموجب سَبْق العلَّة على المعلول في الطبيعة، أن يتقدَّم الفاعلُ على فعله([1]). ولما وجد في المعطيات مثل ]الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ[، اضطرَّ إلى اختراع مفهوم العامل المعنوي، وسماه الابتداء، وبه وصف معمولَه (الرحمنُ) بالمبتدأ، وبقيَ معه (عَلَّمَ) الفعلُ العامل للرفع بدون معمول فاضطرَّ سيبويه مرة أخرى إلى اختراع مفهوم الضمير المستتر المنقول إلى نحو شومسكي تحت مصطلح «السَّوْجِ الشاغر»([2]). وكلُّ هذا يمكن الاستغناء عنه، إذ يكفي نقل العوامل من الألفاظ، كما في نحوَيْ سيبويه وشومسكي، إلى العلاقات كما في نظرية اللسانيات النسبية لتكون العلاقة عاملةً في طرفيها بغض النظر عن رتبة أحدهما بالقياس إلى الآخر. وهو ما سيتضح في موضعه بحول الله.
1. شروط التأسيس
إن التفكير في استحداث نظرية لسانية يجب أن يكون مبرَّراً، وأورد البواعث على عملٍ من هذا القبيل ثبوتُ أن ما بأيدي اللغويين من نماذج نحوية ونظريات لسانية قديمة أو جديدة لا يُسعف الباحثين المتخصصين في دراسة اللغات على تطوير معرفة الناس بلغاتهم. وبعبارة أخرى لا يُقبلُ أحدٌ من اللسانيين المؤهَّلين علمياً على إنشاء نظرية لسانية إلا إذا قام الدليل على أن علم اللغة في أزمةٍ فكرية لا يمكن تجاوُزُها بغير إقامة نظرية لساني جديدة، من شأنها أن تحتفظ بصواب ما في النظريات السابقة، وتُصوِّب أخطاءها؛ بحيث تُحدث النظريةُ الجديدة نَقلَةً علميةً في ميدان اللسانيات، وطفرةً معرفية بالموضوعات اللغوية.
فلابد إذن من وجود مبرر معقول يحمل واحداً من مجتمع اللسانيين أو أكثر على بناء نظرية لسانية، ويُرغِّب الباقي في بذل جهد ثقافي إضافي لاستيعاب النظرية المستحدثة والوقوفِ على خصائصها وجدواها بالقياس إلى غيرها. ولا مبرر أقوى من تأزُّم الفكر اللغوي القائم، بحيث يكون تجاوزُ هذه الأزمة هدفاً مباشراً لنظرية اللسانيات النسبية. ولا يحدث التجاوز إلا بتضافر شروط.
أولها أن تتأسَّس النظريةُ اللسانية المستحدثة على أُنْمُوذَج([3]) استبدالي يُوجِّهها وجهةً علمية تُقدرها على أن تشقَّ إجماع اللسانيين على الاحتفاظ بالنظرية اللسانية القائمة، إذ لم يعد في الإمكان الاستمرارُ في مناصرتها.
ثانيها أن تُقدِّم النظرية اللسانية المستحدثة نظرةً جديدةً إلى اللغة مغايرةً لما هي عليه في النظريات اللسانية السابقة، فإذا كانت اللغة في تقدير اللسانيات الكلية ملكةً طَبْعِيَّةٌ تنتقل من السلف إلى الخلف بمورثات بيولوجية فهي في تصور اللسانيات النسبية ملكة كَسْبِيًّةٌ، تنشأ بالوضع الاختياري وتنتقل بالاكتساب، كما سيتضح في موضعه.
ثالِثُها يخصُّ النظريةَ في حدِّ ذاتها؛ بأن تكونَ لها بنية منطقية، ومنهجيةً علمية، ومعرفة نسقية، فيمنعها كلُّ ذلك من الالتباس بغيرها من النظريات اللسانية المتقدِّمة عليها. من أوليات اللسانيات الكلية مبدأ التعميم، ومنهجيتُها تتألَّف من الفرض الاعتباطي وقواعد البرهان الرياضي؛ ونتائجُها معرفةٌ نظريةٌ تُغلّب اليقينَ الرياضي على التفسير العلمي. وفي المقابل يكون مبدَأ التنميط من أوليات اللسانيات النسبية، وتكون منهجيتها مؤلَّفةً من قواعد الاستدلال الاستقرائية المنتجة لفرضية مراسية ومن قواعد الاستنباط البرهانية المنتجة لمعرفة نسقية تُغلّب التفسير العلمي على اليقين الرياضي.
رابعها أن تكون لنظرية اللسانيات النسبية توقُّعاتٌ ليس بعضُها في حسبان ما قبلها من النظريات. فنظرية اللسانيات الكلية القائمة حالياً مجبرةٌ على التكهُّن بنحوٍ واحدٍ لجميع اللغات البشرية يُقدَّم في نموذج النحو التوليدي التحويلي أو في صيغة النحو الوظيفي المشتقِّ من الأول. بينما نظرية اللسانيات النسبية المستحدثة مؤخراً تَضْطَرُّها بنيتُها المنطقية إلى التنبُّؤ بأكثرَ من نموذج نحوي واحد، لكن في حدود ما يسمح به مبدأ الثالث المرفوع. وعليه يجب منطقياً أن تنحصر توقعاتُ اللسانيات النسبية في نموذجين اثنين لا ثالث لهما؛ نحو توليفي يصلح لوصف نسق اللغات التوليفية كالعربية ونحوها اليابانية والكورية والفارسية واللاتينية، ونحو شجري لوصف نسف اللغات الشجرية كالفرنسية ومثلِها الأنجليزية وغيرِهما الكثير.
خامسها أن يتحوَّل النحو التوليدي التحويلي وليدِ اللسانيات الكلية إلى بعض ما تُنتجه اللسانياتُ النسبيةُ، وبعضُه الآخر متمثِّلٌ في نموذج النحو التوليفي تعامت عنه نظريةُ اللسانيات الكلية. وبعبارة أخرى كلُّ ما تتكهَّنُ به اللسانيات الكلية متضمَّنٌ في توقعات اللسانيات النسبية، وبعضُ تنبُّؤات هذه الأخيرة لا يكون في حسبان السابقة. ولتحرير العبارة بالمثال التوضيحي نجد العبارة التالية؛ «لكل لغة بشرية رتبة أصلية»، تصدق في نظرية اللسانيات الكلية مطلقاً، وهي أيضاً في نظرية اللسانيات النسبية صادقةٌ لكن بالتقييد التالي؛ «لكل لغة شجرية رتبة أصلية»، وتضيف هذه الأخيرة و«الرتبة في اللغات التوليفية حرة»، لكن هذه الإضافة غيرُ داخلة في حساب النظرية السابقة.
وقد يفيد التذكيرُ في هذا الموضع بالخصائص الضرورية لكل نظرية لسانية حتى تكون مقبولة من مجتمع اللسانيين، وسنذكرها مختصرةً على النحو التالي:
أولاً يجب منهجياً على كلِّ نظرية لسانية أن تتأسَّس على فرضية عمل لا تُبرهَنُ من داخل النظرية، وإنما يُسلَّمُ تسليماً أو يُستدلُّ على صدقها من علم مجاور، ولا تُقبَل نظريةٌ غيرُ مؤصَّلةٍ. وتكون المفاضلة بين فرضيات العمل بنتائج النظرية المؤسَّسة عليها، وبوجود مؤشِّرات مرجِّحةٍ أو عدم وجودها.
ثانياً يلزمُ النظريةَ ببنائها المنطقي أن تكون منسجمةً داخلياً؛ بحيث تكون جميعُ مفاهيمُها أو الحدودُ مشتقةً بقواعدَ برهانيةٍ محدَّدةٍ سلفاً من فرضية العمل أساسِ النظرية. وكل نظرية فقدت خاصية الانسجام الداخلي ولو نسبياً فوَّتت عليها إجماعَ اللسانيين وعجَّلت بتجاوزها. وكذلك حالُ نظريةٍ ألحقت بها؛ في إحدى مراحل استكمال بنائها، مفهوماً ليس منها، ولا يُشتقُّ من مقدماتها الأصلية. وفي نظرية النحو التوليدي التحويلي مثالٌ على هذا الإلحاق حينَ أدخل عليها شومسكي البرمترات؛ وهي متغيرات تتحدَّد قيمُها من خارج النظرية وبكيفية مراسية، وكان إدخالُها في مستهلِّ الثمانيات من القرن الماضي، وبعد مُضَيِ رُبْعِ قرنٍ من العمل المتواصل في بناء نظرية النحو الكلي وتهذيبها المستمر إلى وقت قريب.
ثالثاً يلزم كلَّ نظرية أن تكون على جانب كبير من البساطة؛ ومن غير الدخول في عرض التصورات المختلفة لهذا المصطلح فإن المفهوم منه يتكوَّنُ هنا من تضافر شرطين: الأول أن تتقوَّم النظرية من أبجدية محصورة العدد واضحة المعنى، يمكن بسهولة الإحاطةُ بها. ونظرية اللسانيات النسبية تنحصر أبجديتُها، فضلاً عن فرضية العمل الأولية، في أربعة مبادئ متتالية؛ المبدأ الدلالي فالمبدأ التداولي فالمبدأ الوضعي للوسائط اللغوية فالمبدأ القولي. أما الشرط الثاني فكامنٌ في استخدام تلك الأبجدية لا غيرُ من أجل التفسير العلِّي لسلسلة من الظواهر الملحوظة، بل لكل وصف يمكن إسنادُه لأيِّ موضوع لغوي.
رابعاً يُفترَضُ في كل نظرية باعتبار وظيفتها أن تكون متوافقةً خارجياً بنسبة عالية تكون معها القوادحُ؛ (أي الأمثلة المضادة التي تطعن في النظرية وتدلُّ على فشلها)، في درجة الصفر. وتكون النظرية كذلك إذا جاء وصفُها مطابقاً تمامَ المطابقة للموضوع الموصوف. وفي هذه المسألة تفصيل، لأن المفهوم من الموضوع الموصوف مختلفٌ تبعاً لتقديرات الفلاسفة والعلوميين المهتمين بمناهج المعرفة العلمية، ونحوهم من المختصين في علم النفس المعرفي، ومع هذا التنوع في الاختصاص وتعدُّد الباحثين يمكن إرجاعُ تقديرات الجميع إلى تصورين اثنين:
I. موضوع الوصف، لدى الطبعيين وفريقِ الاصطلاحيين منهم شومسكي من اللسانيين، وهميُّ يُبنى بناءً بالنظرية وليس له وجودٌ مستقلٌّ عنها، وإنما يتقوَّمُ بها وداخلَها؛ فوظيفةُ النظرية إذن تنحصر في تحديد خصائص عالم من الموضوعات الاصطناعية. والتطابق في هذه الحالة مضمون ما دامت الموضوعات الخارجية فاقدةً لبنيتها الداخلية ومتشكِّلَةً بنسق النظرية. ويترتَّبُ عن هذا التصوُّر ضرورةُ الالتزامِ بمبدأين وضعيين؛ أي من وضع الطبعيين ضمنهم الاصطلاحيين.
أول المبدأين يخصُّ تفاعلَ النظرية وموضوعها، ويُحدِّد ما إذا كان التأثير متبادلاً أم أحادياً وفي أيِّ اتجاه يكون. وقد اختار الطَّبْعِيُّونَ لنظريتهم الاصطلاحية أن يكون التأثير أحاديَ الاتجاه؛ من النظرية نحو موضوعها، إذ منها تنبعثُ الخصائصُ التي ينبغي إسنادُها إلى أيِّ موضوع إلى أن تتشكَّل ماهيتُه.
وثانيهما مبنيٌّ على المبدأ الأول يمتنع بمقتضاه أن تقبل النظريةُ المحكمةُ البناء إدخالَ أيِّ تغيير على بنيتها الداخلية حتى وإن ثبت من جهة أخرى وتأكَّد بالتجربة أن النظرية لا تستجيب لشرط التوافق الخارجي بدرجة مقبولة. وفي مثل هذه الوضعية يرخِّص الطبعيون للنظرية أن تُساعدَ نفسها على الاستمرار بواسطة فرضيات مساعدةٍ أو البرمترات، فتُعلِّقُ بفرضيات عينية كلَّ ما ثبتَتْ صحَّتُه بمنهجية علمية صارمة ولم يكن في حسبان النظرية.
ولا أحدَ من غير المنخرطين في جماعة الطبعيين انخراطَ الحزبيين يقبل الترقيع النظري، فيُساير الواضع في اختلاق برمترات أو فرضيات عينية من أجل طمس ثغرات النظرية المتميزة بتوافقها الخارجي الضعيف. ولا مبرِّرَ لهذا الإصرار على المحافظة على النظرية المتأزِّمة سوى الكسل الفكري، لأن التخلي عنها يقتضي تَعلُّمَ غيرها من رأس. وفي ذلك تكليف قد لا يُطيقُه الكثيرُ ممن يشتغل بالبحث العلمي على القدر الموصِّل إلى الشهرة وما يتبعها من الربح المادي أو المنصب الإداري.
II. موضوع الوصف في تقدير الكسبيين والمراسيين واقعي؛ تسعى النظريةُ المقامة إلى الكشف عن خصائصه الذاتية؛ فوظيفة النظرية تبعاً لهذا التيار تنحصر في استرفاد المعرفة من مظانِّها، إذ النظريات عندئذ بمثابة شباك لاقتناص العلوم. فإذا جاءت تَنَبُّؤَاتُها موافقةً تمامَ الموافقة للصفات التي تُشكِّلُ ذاتَ الموضوع الموجود في العالم الخارجي فقد استجابت النظريةُ لقيد الموافقة الخارجية، وكانت نظريةً ناجحة يتعيَّن الاحتفاظ بها. أما إذا توقَّعتْ لموضوع ما ليس منه أو وُجِدَ فيه ما لم يكن في حسبانها فإنَّ إعادة التوافق واجبٌ معرفي، ويحصل بإدخال التعديلات المناسبة على النظرية. ويلزم منطقياً عن تصوُّر الكسبيين هذا للموضوع الموصوف التقيدُ بالمبدأين التاليين:
أولهما يفيد وجودَ تأثيرٍ متبادلٍ بين النظرية وموضوعها، يبدأ أولاً من موضوعاتِ العالم الخارجي في اتجاه النظرية، ويظهر بادئ ذي بَدْءٍ في تكوين فرضية العمل أساسِ النظرية، كما سيتضح في موضعه. وينقلب التأثير منها نحوَ موضوعها وهي تكشفُ عن خصائصه الواقعية وتصوغها صياغةً مفهومية.
ثانيهما يُرخِّصُ بمواصلة ضَبْطِ مكوِّنات النظرية وإحكام بنائها، كما هو الحال في كل عمل بشري، وذلك بإدخال التعديلات الضرورية عليها حتى تستجيبَ النظريةُ كاملَ الاستجابة لشرط التوافق الخارجي؛ بحيث يمتنع عليها أن تُولّد خاصيةً ليستْ في موضوع الوصف امتناعَ أن تَغْفُلَ عن بعض خصائصه الذاتية. وفي كلتا الحالتين تكون النظرية قاصرةً أي لا تكون قادرةً على تشكيل عالمٍ من التصورات مطابقٍ لعالم من الموضوعات الواقعية.
وإجمالاً لما ذكرناه لا تحظى النظرية اللسانيةُ المستحدثة بقبول حذّاقِ اللسانيين إلا إذا استوفت لكافة الشروط المتداولة في مجتمع أهل العلم أخيراً، كأن يوجدَ الفكر اللغوي في أزمة بسبب عجز اللسانيات الكلية الرائجة منذ نصف قرن ونيف عن اقتراح وصفٍ واردٍ لكثير من الظواهر الملحوظة في مختلف اللغات البشرية، وأن تكون اللسانيات النسبية بديلاً للسانيات الكلية إذا خرج بها الفكرُ اللغوي من أزمته، بشقِّ طريق للتفكير في اتجاه آخر مثمرٍ معرفياً وغيرِ مستعصٍ منهجياً. ويُفترض في النظرية البديل أن يكونَ بناؤُها المنطقي أكثرَ إحكاماً من النظرية المتجاوَِزَة، وأن تكونَ منهجيتُها مُنتجَةً بمعرفة علمية تطلعنا على واقع اللغات البشرية، وليست كمنهجية اللسانيات الكلية التي تنتج اليقين الرياضي الذي يمكن تحققُه في عوالم لغوية محتملة.
ويُشترط في نظرية اللسانيات النسبية أن تكون أيضاً بديلاً للنحو السيبويهي، إذ تحتفظ بصوابه، وتكشفَ عن ثغراته المنهجية، وتُعيِّنَ هفواتِه المعرفية، وتحلَّ ما استعصى عليه، وتُبسِّط ما كان معقَّداً فيه. وقد بيَّنا في دراسات سابقةً([4]) أولاً مقدارَ الاحتباس الفكري في تراثنا النحوي، وثانياً درجةَ التقليد في الدرس اللغوي العربي المعاصر. وخلصنا إلى أن أزمة التراث اللغوي العربي لا تنحلُّ بتركه من أجل الانخراط في مدرسة لسانية غربية، ولا بمحاولة التوفيق بينه وبين تأملات لسانية منبثقة من لغات مغايرة نمطياً للعربية. إذ كل ذلك يزيد من تعميق أزمة الفكر اللغوي العربي المعاصر، وأن تخطي هذه المرحلة مرهون بشروع أهل الفكر من اللسانيين العرب في إقامة النظرية اللسانية التي تتجاوز كلَّ ما بأيدي الباحثين في اللغات البشرية من نظريات لسانية ونماذجَ نحوية سواء كانت قديمة أو حديثة؛ بحيث تستطيع أن تجلب إليها مجتمعَ اللسانيين الباحثين في اللغات البشرية والمتخصصين في دراستها وصفاً وتفسيراً. علماً أن الباحثين في أيِّ حقلٍ من حقول المعرفة يُكوِّنون مجتمعاً محافظاً؛ إذ يكادون يخضعون خضوعاً جماعياً للنظرية السائدة في عصرهم، ويتقيدون في تفكيرهم بمعاييرها، ولا يبدأ تزحزُحهم الثقافي والابتعاد التدريجي عن النظريات والنماذج التي نَشَّأوا تفكيرَهم في إطارها إلا إذا اشتدَّت أزمتُها، وتفشَّت فيها ثغرات يُفترَض في النظرية الجديدة المنافسة أن تسدَّها.
2. أوليات اللسانيات النسبية
فرضية العمل المؤسِّسة لهذه النظرية كسبيةٌ، ويلزم عنها أن اللغة البشرية ملكة وضعية([5])، وكلُّ ملكة وضعية قابلةٌ أصلاً للتغاير ظاهرياً وفي مستوى المبادئ المقوِّمة أيضاً، وكل تغايرٍ يلزمه التناهي، وكل تغاير متناه يلزمه الانحصارُ بين قطبين؛ أقلُّهما عدداً اثنان يستجيبان منطقياً لمبدأ الثالثِ المرفوع، وكل ما تَثَنَّى بمبدأ الثالث المرفوع وجب أن يكون نمطياً واقعاً على طَرَفَيْ النقيض، وبالتالي لا يمكن أن يكون كليّاً ولا خاصّاً.
وكل ملكة وضعية فهي تاريخية؛ أي لها ماض وحاضرٌ مغايرٌ نسبياً لماضيها، وهي تنتقل من السلف إلى الخلف بالاكتساب. يلزم عنه أن يكون في ذهن الإنسان عضوٌ مهيّأٌ خلقةً للتشكُّل ببنية لغة المنشأ، وأن هذا العضو في بدْء وجوده ليس سوى برنامج طبيعي لتثبيت المكتسبات التي تصله من خارج ذاته. وكذلك حال باقي الملكات المعرفية المحمولة في خلايا الأعضاء الذهنية، إذ في كلٍّ منها برنامج طبيعي لاقتناص المعارف الجزئية والعلوم الأولية من العالم الخارجي وتثبيتها. وهو الاحتمال الذي يُرجِّحُه الكسبيون عموماً كابن سينا قديماً والْجِشَتَّلْت حديثاً، كما يتضح من قول أحدهم: «إن حضور الشيء في الذهن حملٌ للمخِّ على تكوين خليَّة من الألياف العصبية وقد تشكَّلت تبعاً للبنية الذاتية للشيء المدرَك. وعليه يكون إنجاز الدماغ متمثلاً في إنشاء البنية الأصل لمصدرٍ متكوِّنٍ من تجارب الدماغ مع الشيء خلال عدد من الإدراكات. فالألياف العصبية عموماً تكتسب عادات عند اتصالها بأشياء العالم»([6]). حتى إذا حلَّت فيه أكسبتْهُ القدرةَ على توقُّع علوم مستنبطة منها([7]). وعليه لا يمكن الارتداد من القدرة المكتسبة إلى برنامج التثبيت الطبيعي([8]).
ومن مستلزمات الفرضية الكسبية، كما وصفت، اعتبارُ اللغة موضوعاً ثابتاً تكتشفه النظرية اللسانية، وليس موضوعاً متشكِّلاً تبنيه النظرية كما يعتقد الاصطلاحيون ومنهم شومسكي في مجال اللغة([9]). وأن التأثير بين النظرية اللسانية وموضوعها اللغة متبادلٌ، ينطلق من اللغة لتصور بنية النظرية، ويرتدُّ إليها من هذه الأخيرة لصياغة نسخة مطابقة للغة.
3. المبادئ المقوِّمة للغات
اللغات البشرية، كسائر الموجودات الوضعية بالاختيار، تتقوَّمُ ذاتُها بتضافر أربعة مبادئ متتالية:
أولها مبدأ دلالي يضم؛ 1) علاقات دلالية كلية، بمعنى لا تخلو منها لغةٌ ولا أيُّ موضوعٍ في العالم الخارجي. وعددها محصورٌ في بضع علاقات، وهي السببية، والعلية، والسبلية المركبة من الأوليين، واللزوم، والإضافة والانتماء.
2) كلمات غير متناهية لكنها تتجمَّع في بضع مقولات؛ وهي مفرداتٌ معنوية قبل اقترانها بالرموز الدالة عليها، تُشكِّل طَرَفَيْ العلاقة الدلالية.
ثانيها مبدأ تداولي؛ يضم بدوره؛ 1) علاقات تخاطبية كليَّة لا يخلو منها مجتمع لغوي، كوجود المتكلم داخلاً مع مخاطب في علاقة تُلزِمه بالإخبار على قدر الافتقار، أو بالأمر على قدر الاستطاعة، أو بالسؤال على قدر العلم ونحو هذا مما سرد نحاة العربية قديماً تحت أنواع الكلام ومعانيه([10]). 2) اقتضاءات محدودة؛ وهي عبارة عن قيودٍ يلتزم بها المتكلم وشروط تتوفَّر في المخاط. فالمستفهِم «ينبغي له أن يقصد قصد المستفهِم المتعلِّم.. وأن يستفهم عما ثبت في الاستبهام.. والمسؤول ينبغي أن يكون أهلاً ما يُسأل عنه»([11]). فمثل السؤال (كم نجماً في السماء) سليم باعتبار المبدأ الدلالي، فاسدٌ باعتبار المبدأ التداولي لأن المستفهَم ليس أهلاً. والآمر ينبغي أن يكون مقيَّداً بإصدار الجملة على جهة العلو والتجبٍُّر وإرادة تحقق الفعل من المخاطب المجبر على الامتثال، وقد توفَّر فيه شرطُ القدرة على الإتيان بالفعل على الوجه المطلوب. وبغير هذه الاقتضاءات لا تفيد الأمرَ عبارة (اُخْرُجْ) أو ما قد يقوم مقامها في كل لغة لغة. فقول ذي السلطة، أيّاً كان لسانُ قومِه: (اسمعْ أَيُّها الأصمُّ البئيس)، لا يفيد الأمر، مع إرضاء قيد التجبُّر في المتكلم وشرط الإجبار في المخاطب، لأن شرطَ القدرة في هذا الأخير مخروم.
ثالثها مبدأ وضعي للوسائط اللغوية؛ وكل وسيط عبارة عن أحد الإمكانين الواقعين على طرفَيْ النقيض، وبالتالي لا يجتمع الوسيط ونقيضُه في اللغة الواحدة، ولا يرتفعان من اللغات جميعها. بالوسيط تتحقَّقُ المبادئ الدلاليةُ والتداوليةُ الكليةُ في اللغات التي اختارته على نحوٍ معيَّنٍ، وبالوسيط النقيض تتحقق نفس المبادئ في الباقي من اللغات التي اختارته على نحوٍ آخر مخالف للأول، وليس بين ذينكم النحوين نحوٌ ثالث.
وللوسيط تصرُّفٌ معيَّنٌ في واحدٍ من الفصوص الأربعة التي تتشكَّل منها اللغةُ البشرية. أولها الفص النَّصْغِي؛ محتواه نطائقُ([12]) اللغات وقواعد التأليف بينها. ودوره محصورٌ في إنتاج قَوِلاتِ([13]) المداخل المعجمية. وثاني الفصوص الأربعة الجزءُ الأول من الفص العجمي؛ محتواه عدد محصور من المداخل المعجمية الأصول المكتسبة استقراءً. وثالثُها الفص النَّسْلي؛ محتواه قواعدُ اشتقاق بعض الكلم من بعض، وقواعد تصريف الْقَوِلَة لتضبط انتقالِها من بنية إلى أخرى، ودورُه محصور في توليد الجزء الثاني من الفص المعجمي الذي يضم المداخل المعجمية الفروع المتميزة بالاكتساب استنباطاً. ورابعها الفص التركيبِي؛ محتواه قواعد تأليف المداخل المعجمية وترتيبها لتوليد جمل تامَّة التكوين.
واللغات البشرية لا يكتفي فصُّها النصغي بالصوائت الأساسية؛ أي الضمة، والفتحة، والكسرة، والسكون. ولإضافة صوائت أخرى تكون مخيَّرةً بين طريقتين: إما أن تتوسَّل بوسيط التضعيف لإنتاج مدود ثلاثة، كما فعلت اللغة العربية، وإما أن تتَّخذ وسيط التشطير لإنتاج من الكسرة كسراتٍ متغايرة، وكذلك تفعل بالضمة والفتحة، وبه أخذت اللغة الفرنسية. وليس بين الوسيطين وسيط لغوي ثالث.
والفص النصغي المكلَّف بأن يُنتج للفص المعجمي قولات لمداخله الأصول يضطرُّه المعجمُ إلى أن يختار بين وسيط الْجِذْع ووسيط الْجَذْر. بالأول يبني صوامتَ بالصوائت فيكن الخرجُ جِذعاً مرتَصّاً لا يُختَرق، وعندئذٍ تنحل قَوِلَةُ المدخل إلى متوالية من المقاطع. وبه أخذت لغاتٌ كالفرنسية ونحوها. وبالوسيط الثاني يبني بالصوامت جذوراً رخوةً ويسبك بالصوائت صيغاً، ويسكب الجذر الرخو في الصيغة القالب، فيكون الْخرجُ قولةً تنحل إلى الجذر والصيغة، وبه أخذت العربية ونحوها. وليس أمام اللغات جميعها غير هذين الوسيطين.
ولتوليد المداخل المعجمية الفروع من أصولها السابقة يتعيَّن على الفص النَّسْلي في كل لغة لغة أن يختار وسيطاً منسجماً مع اختيارِها السابق. فاللغات التي سبق أن اختارت لفصها المعجمي وسيط الجذع مجبرةٌ على أن تختارَ لفصِها النَّسْلي وسيط الإلصاق، ويكون إنتاجُه لِقَوِلاتِ المداخل المعجمية الفروع عن طريق إضافة سوابق إلى الجذع المرتص أو لواحق أو هما معاً. وعندئذ يكون التحليل الصرفي للمدخل الفرع سلسياً بالضرورة، كما في الأنجليزية ونحوها الكثير. أما اللغات التي اتَّخذت من الجذر وسيط لمعجمها فمضطرَّةٌ إلى اتخاذ الوزن وسيطاً لفصها النسلي، بحيث يُنتج هذا الفصُّ قولاتِ المداخل الفروع بسكب نفس الجذر الرخو في عددٍ من الصيغ الصرفية المنضبطة بقواعد الاشتقاق. ويتعيَّن إذّاك تحليل المدخل المعجمي الفرع تحليلاً هرمياً([14]). فمثل (استدرج) ينحلُّ إلى (درج+استفعل). والذين خلطوا بين الأنماط اللغوية إرضاءً لمبدأ التعميم المعتمد في اللسانيات الكلية فككوا تقليداً (استدرج) إلى (استـ+درج)([15]).
ولا تخلو لغةٌ بشرية من فصٍّ تركيبِي، دخلُه خرجُ الفص المعجمي فبلَه، ومحتواه قواعدُ تركيبية لتأليف المداخل وترتيبها، ودوره إنتاج جملٍ تامَّة التكوين صالحة للاستعمال ضامنة لحصول التواصل. وإنَّ أولَ ما يواجه كل اللغات لهو اضطرارُها جميعاً إلى التمييز بين العوارض التي تعرض للمداخل المركبة بسبب ما يقوم بينها من العلاقات. إذ كلُّ متعالقين لابدَّ من أن يعرض لهما بسبب العلاقة القائمة بينهما عارضٌ لم يكن لهما في حالة الانفراد.
والعوارض محصورة في أصناف ثلاثة؛ 1) أحوال تركيبية كالرفع والنصب، 2) وظائف نحوية كالفاعل والمفعول، 3) انتظامات موقعية كتقديم ما يستحقّه وتأخيرِ غيره. ولإنجاز البيان دفعاً لالتباس العوارض ليس أمام اللغات جميعها سوى وسيطين اثنين: (أ) وسيط العلامة المحمولة،
(ب) وسيط الرتبة المحفوظة. الوسيط الأول أنسب لتركيب اللغات التي سبق أن اعتمدت لمعجمها وسيطَ الجذر ولصرفها وسيطَ الوزن. والوسيط الثاني يناسب تركيبَ الطائفة الثانية من اللغات التي سبق أن اختار لمعجمها وسيط الجذع ولصرفها وسيط الإلصاق.
وللفص التركيبِي المؤسِّس على وسيط العلامة المحمولة بنيةٌ قاعديةٌ ذات رتبة حرة، إذ في مستوى هذه البنية يتم التمييز بين عوارض المركبات بعلامةٍ حسية([16]) تُلصق بالمركب إعراباً عما اعتراه من الأحوال التركيبية والوظائف النحوية من غير إدخال تلك المركبات في علاقات موقعية. ويلزم عن ذلك ما يلي:
1) كل التراتيب المحتملة بالقسمة العقلية جائزةٌ في مستوى البنية القاعدية، وأن تحقيق مكونات البنية على ترتيبٍ معيَّنٍ دون باقي التراتيب الخمسة المسموح بها قاعدياً ينبغي أن يكون مبرَّراً بمفسِّرٍ علِّيٍّ غيرِ الإعراب عن الأحوال التركيبية والوظائف النحوية.
2) من المبادئ المقوِّمة للغات التي لم نلحظ لها أثراً في البنية إلى الآن المبدأُ التداولي، ومن عمل هذا المبدأ تحقيقُ مكونات البنية القاعدية الحرَّة على ترتيبٍ موافقٍ للعلاقة القائمة بين المتخاطبين. فبالعلاقات التداولية يتأتَّى إذن تفسيرُ تحقُّقِ الجملة على ترتيب دون الباقي المسموح به قاعدياً في اللغات التوليفية التي اختارت لفصِّ التركيبِي وسيطَ العلامة المحمولة([17]).
3) جميع التراتيب الستة التي يسمح بها الفصُّ التركيبِي في اللغات التوليفية متولِّدةٌ مباشرة من البنية القاعدية، وبذلك يكون الفص التركيبِي لهذا النمط من اللغات محتاجاً إلى قاعدة تنضيدية ذات طبيعة تداولية وإجراءٍ تركيبِي إذ تُرتِّب ما تألَّف.
4) نسبةُ تردد التراتيب الستة في الكلام ليست واحدة، بل بعضُها أكثرُ استعمالاً من الباقي، ولكن ليس في كل زمان. وفي هذا السياق أشار ابن يعيش([18]) إلى غلبة ترتيب (فع فا مف) في عهد الزمخشري، وقبله غلَّب سيبويه مثل (فا فع مف). ولا شك في أن نسبة التردد متعلِّقةٌ بمقدار الشَّحن التداولي؛ فالأكثر حملاً للأعراض التداولية الأقلُّ استعمالاً([19]). وأبسطها الترتيب (فع فا مف) لمناسبته لمخاطبٍ خالي الذهن ووقوعه ابتداءً عند إخباره. يليه الترتيب (فع مف فا)، لاشتراك الترتيبين في الانتماء إلى الخبر الابتدائي. يليه الترتيب (فا فع مف) لأنه الأبسط في قسم الخبر الطلبِي. وإنْ تَبَيَّنَ بمعيارٍ آخر عيرُ هذا التدرُّج فإنّ الثابت ثبوتاً قطعياً هو أن لمكونات الجملة في نمط اللغات التوليفية ترتيبٌ غالبٌ مأخوذٌ مباشرةً من البنية القاعدية ذات الرتبة الحرة كما يؤخذ منها الترتيبُ الأقلُّ استعمالاً.
وفي الطرف الآخر تقع الطائفة الثانيةُ من اللغات التي سُمِّيت شجريةً، وهذه تتميّز بالاضطرار إلى اختيار وسيط الرتبة المحفوظة لفصِّها التركيبِي، فاستخدمت المواقعَ الرتيبة أو علاقاتِ الجوار للإعراب عن الأحوال التركيبية والوظائف النحوية. وعندئذ يكون للرتبة في تركيب اللغات الشجرية حكمُ اللاصقة في تركيب اللغات التوليفية، إذ كلاهما معربٌ عن نفس العوارض لكن في نمطه اللغوي لا غير. فالإعراب عن الأحوال والوظائف لا يكون باللاصقة في تركيب اللغات الشجرية، ولا بالرتبة في تركيب اللغات التوليفية. ولا يلجأ أحد النمطين إلى استخدام إتاحات النمط الآخر إلا في الضرورة القصوى([20]). ويلزم تركيبَ اللغات الشجرية المؤسَّسَ على وسيط الرتبة المحفوظة بنيةٌ قاعديةٌ ذات رتبة قارة، يُمثَّل لها في اللغة الأنجليزية ونحوها الفرنسية بالترتيب (فا فع مف) ([21]). ويترتب عن مثل هذه البنية القاعدية ما يلي:
1) يتحتَّم على تركيب كلِّ لغة شجرية أن يُؤصِّلَ واحداً من التراتيب الستة المحتملة منطقياً من الثلاثي، وليكن مثل (فا فع مف) كما في الأنجليزية والفرنسية. وأن يسمح بترتيب آخر، من قبيل (مف فع فا)، يُشتَّق مباشرة من الترتيب الأصلي، وأن يمنع سائر التراتيب الباقية.
2) يحتاج تركيب كل لغة شجرية إلى قاعدة تحويلية، مهمَّتها تحريك مكوِّنات الجملة من مواقعها الأصلية إلى أماكن مسموحٍ تركيبياً بالإقامة فيها([22]). وبدون تحويل النقل المنفَّد بقاعدة التحريك لا يتأتى لنمط اللغات الشجرية من اشتقاق جملة فرعية من أخرى أصلية.
3) لا يسمح تركيبُ اللغات الشجرية للمبدأ التداولي بعمل الترتيب في مكونات الجملة، إذ مثل هذا العمل يُناط في النمط الشجري إلى المبدأ الدلالي.
وبعد المقارن المجراة أخيراً في مستوى الفص التركيبِي للغات البشرية يَتبَيَّن لكل واحد بشكل واضح مختلف النتائج التي يمكن استخلاصُها، من أهمها.
أولاً. لا يجوز علمياً تطبيق نموذجٍ نحويٍّ منبثق من أحد النمطين اللغويين في وصف النمط الآخر، فلا نحو اللغات الشجرية يصلح لوصف بنية اللغات التوليفية، ولا العكسُ بصحيح. وغلا جاز في اللغات الشجرية ما يجوِّزه نسقُ اللغات التولية. وفي ذلك من خلط الأنماط ما لا يقبله باحث مبتدئ في اللسانيات.
ثانياً. استعمال نماذج نحويٍّ منبثقٍ من لغة شجرية في وصف العربية من اللغات التوليفية لا يكتسب مشروعيته العلمية إلا في إطار الاختبارات المراسية لتوقعات نظرية اللسانيات الكلية. وإذّاك تقتضي الصرامةُ العلمية والموضوعيةُ مدى التوافق بين توقعات النظرية وواقع اللغات البشرية. ولا يجوز علمياً تصويبُ واقع اللغة موضوع التطبيق كي ينسجم نسقُها مع توقعات النظرية، وأن يُبنى مثل هذا العمل الذي يقوم به الكثيرُ في وقتنا الراهن على طروحات ظاهرُها العلم وباطنُها الافتراء إما على النظرية وإما على اللغة. فمن الأول القولُ بالتأثير الأحادي المنطلق من النظرية نحو اللغة، وإن كانت جميع مبادئ النحو الكلي مستخلصةً في الأصل من الأنجليزية. والاعتقاد بانقسام اللغات إلى مركزية كالأنجليزية تلتزم النظريةُ اللسانية بمبادئها، ولغات هامشية ليس للنظرية أن تأخذها بعين الاعتبار. ومن الثاني القول بشذوذ العربية عن اللغات الطبيعية إذا أظهرت معطياتُها ممانعةً لتنبُّؤات آلة الوصف المستعارة، وهو ما يُرخِّص بردِّها إلى حضن النظرية ولو بالتعجرف. وإذا أمعنت في الممانعة بدعم من نحاتها نعتوها بالقدم والاضطراب، ورمُوْا نحاتَها بالغفلة وقصور النظر، فكرروا الدعوة إلى أن تُستبدَل بها اللهجاتُ، وإلى الاستغناء عن فكر القدماء.
ثالثاً. كلُّ المفاهيم الأساسية التي تقوم عليها اللسانياتُ الكلية ليس لها سندٌ من واقع اللغات البشرية، منها:
(أ). الفرضيةُ الطَّبْعِيَّةُ القاضية بوجود «علوم أولية» منسوجة خِلقةً في خلايا العضو الذهني المسمى «ملكةً لغوية»، وبأن هذه الملكة وراثية لا تكتسب بالتعلم وإنما تنتقل من السلف إلى الخلف بمورِّثات، وأن مصدر هذه العلوم الأولية منضبطٌ بمبدأ من الأميبا إلى أينشتاين تبعاً لنظرية أصل الأنواع.
(ب). مبدأ التعميم الذي يحكم بأن يصحَّ في سائر «اللغات الطبيعية» ما ثبتت صحَّتُه خلال دراسةٍ دقيقة لإحدى اللغات الشجرية خاصة. والعكس لا يجوِّز صاحبُ النحو الكلي برأي غريب مفاده أن توسيع إطار النمط الشجري ليشمل غيرَه ممكنٌ، لكن توسيعَ إطار النمط التوليفي ليستغرق النمط الشجري غيرُ ممكن، علماً أن الواقع اللغوي يشهد بخلاف ذلك، بدليل أن تركيب اللغات التوليفية يُجوِّز من التراتيب ما يصح في تركيب اللغات الشجرية وما لا يصحُّ، وبذلك يكون أولى بالتوسيع.
(ج) استقلال الصورة عن المادة، أو محتوى المبدأ القولي، كما سيأتي في بحث خاص، عن المبدأين الدلالي والتداولي في الوضعيات خاصة، لا يستقيم أبداً. بدليل أنه ليس في إمكان أية نظرية لسانية أو نموذج نحوي أن يُميِّز ولو بين النطائق والبدائل([23]). ولا أحدَ من ذوي الفكر الصوري يستطيع أن يُفسِّر لِمَ جاز (كينَ الرجلُ) صرفياً وتركيبياً وامتنع اشتقاقياً، ولا أن يضبط العلاقة القائمة بين الاشتقاق والتصريف، ولا أن يُفسِّر بغير المبدأ التداولي الانقطاعَ أو الاتصالَ في بنية الاستثناء من قبيل: (ما حضر المدعوون إلا واحداً)، و(ما حضر المدعوون إلا واحدٌ).
رابعاً. من مبادئ علم اللغة يستقيم مبدأُ التنميط لا غير، وبه أخذت نظريةُ اللسانيات النسبية، وتأسست رأساً على الوسائط اللغوية المنتظمة بمبدأ الثالث المرفوع في شبكتين متقابلتين، وتأهَّلت دون غيرها للمقارنة بين اللغات البشرية، وأجرتِ المقارنةَ أولاً في مستوى المبادئ المقومة للفصوص منحدرةً إلى الظواهر خرجِها، فكانت المقارنةُ قالبيةً حتى يكون التنميط قَصِّيّاً. وخلصت إلى أن اللغات البشرية لا تخلو من فصٍّ تركيبِي، وهو ليس كلياً خلافاً لنظرية اللسانيات الكلية، ولا خاصّاً كما قد يبدو للسانيات الخاصة، وإنما هو نمطي تبعاً للسانيات النسبية، إذ ليس له أكثر من بنيتين نمطيتين، إحداها تناسب نسق اللغات الشجرية، وبنيةُ النموذج الآخر يطابق موضوعاً ووظيفةً نمطَ اللغات التوليفية، كما سيتضح في مباحث لاحقة.
([1]) في رتبة العامل والمعمول نفل الفارسي عن البصرية قولهم: «الاسم لا يرفعه إلا ما قبله، لأن الرافع عامل، والمرفوع معمول فيه، ورتبة العامل التقدم على ما يعمل فيه.. فمن رفع الاسم بما بعده أحال لأن الأثر لا يسبق المؤثر»، (أبو علي الفارسي، «أقسام الأخبار»، مجلة المورد، العدد 3، 1978، ج 3،
صص. 201-220).
([2]) السوج الشاغر مستعمل بمعنى sujet nul، في نحو شومسكي.
([3]) الأُنْمُوذَج مستعمل هنا في مقابل paradigme بمعناه الاصطلاحي لدى Thomas Samuel Kuhn كما جاء في كتابه بنية الثورات العلمية المنشور سنة 1962La structure des révolutions scientifiques.
([4]) انظر الأوراغي، «من أنماط الفكر اللغوي بالمغرب»، ضمن مجلة التاريخ العربي، العدد 3، 1997. ونظرية اللسانيات النسبية، شروط التأسيس، ضمن مجلة التاريخ العربي، العدد 34، 2005. ومن تحولات المغرب الثقافية، ضمن نفس المجلة، العدد 35، 2005.
([5]) اللغة البشرية ملكة صناعية في مقابل لغة الحيوان الطبيعية، هذه الأخيرة عبارة عن برنامج منسوج خلقة في عضو من دماغ الحيوان، ينتقل إلى الخلف بمورِّثات بيولوجية، لا يتغيَّر في الزمان كله، ويدلُّ بالتسخير والإلهام على عدد محصور من الأغراض.
([6]) راجع: Robert Marty, Sémiotique de L'Obsolescence des formes, in Desiggn-Recheche n° 6 (1994), Université Technologique de Compiègne, pp. 31-45.، وفي موضع آخر من نفس البحث يضيف مارتي: «يسمح نموذجاً بتصور فَرْدٍ جَمْعِيٍّ يمكِّن من فهم الطابع الكلي لبنيات الجواهر ويكفي لهذه الغاية أن نأخذ بعين الاعتبار مجموعَ البنيات الجوهرية المتصلة بنفس الشيء في العالم الخارجي والتي كَوَّنها في ذهنه كل واحد من أفراد المجتمع... وهكذا فإن الصورة التي يُسندها إلى الشيء كلٌّ واحدٍ من أفراد المجتمع تكون ثابتةً في إدراك كلّ واحد لذلك الشيء. وبذلك تمثّل تلك الصورة إحالةً مشتركة وتصوراً كليّاً. وتكوِّن مجموع هذه الإحالات مع علاقاتها العالم المبني، أو العالم الجمعي الذي يفكر داخله كل أفراد المجتمع، فيقود ويوجه أعمالَهم التي يوقعونها فيه».
([7]) للمزيد من التفصيل انظر القسم الأول من كتاب الأوراغي، اكتساب اللغة في الفكر العربي القديم.
([8]) أحد مواطن الخلاف بين شومسكي الذي يرى إمكان الوصول من دراسة القدرة اللغوية إلى الكشف عن الملكة اللغوية باعتبارها أوليات طبعية منسوجة خلقةً في خلايا العضو الذهني، وبين بياجي الذي لا يسلم بإمكان الفصل داخل القدرة بين الطَّبْعِي والكسبيّ. للمزيد من التّفصيل انظر المناظرة التي نظمها بينهما ماسيمو بياتيلّي - بالماريني ونشرها في كتاب نظريات اللغة ونظريات الاكتسابMassimo Piattelli-Palmarini, Théories du langage Théories de l'apprentissage, Seuil, Paris, 1979..
([9]) للتوسع في الموضوع راجع الفصل الأول في الجزء الأول من كتاب الأوراغي، الوسائط اللغوية.
([10]) ذكر ابن هشام أن الكلام منقسم «إلى ثلاثة أنواع: خبر، وطلب، وإنشاء... وهذا التقسيم تبعت فيه بعضَهم، والتحقيق خلافه، وأن الكلام ينقسم إلى خبر وإنشاء فقط، وأن الطلب من أقسام الإنشاء»، شرح شذور الذهب، ص. 40. وفي باب معاني الكلام سرد ابنُ فارس عشرة أضرب «حبر، واستخبار، وأمر، ونهي، ودعاء، وطلب، وعرض، وتحضيض، وتمنٍّ، وتعجب.»، الصاحبي، ص. 289.
([11]) ما أوردناه أعلاه ذكره أبو البركات الأنباري في تحليله للأصول الأربعة التي يصح به الاستفهام في «أحدها سائل، والثاني مسؤول به، والرابع مسؤول عنه. ولابد لكل أصل من هذه الأصول من وصف يصح به السؤال عند وجوده ويفسد عند عدمه»، لمع الأدلة في أصول النحو، ص. 37.
([12]) نستعمل النطائق في مقابل البدائل، تتميّز الأولى بالجمع بين القيمة الصوتية الخلافية ووظيفة التباين الدلالي، بينما الثانية تقتصر على الخاصية.
([13]) القولة مستعملة للدلالة على الوجه الصوتي للمدخل المعجمي، وهي الوحدة التي ينحل إليها القولُ. كما تدل الكلمة على الوجه المعنوي للمدخل المعجمي وتشكل الوحدة التي ينحل إليها الكلام.
([14]) للتوسع في الموضوع راجع الفصل السابع في الجزء الثاني من كتاب الوسائط اللغوية للأوراغي.
([15]) انظر تطبيقات الدكتور عبد القادر الفاسي الفهري للنحو التوليدي التحويلي على اللغة العربية في مختلف أعماله الكثيرة.
([16]) من اللغات التي اختارت لفصها التركيبِي وسيط العلامة المحمولة نذكر 1) العربية إذ جعلت الضمةَ علامةً تُلصقها بذي الرفع والفاعلية، والفتحة علامةً أخرى تُلصقها بذي النصب والمفعولية، كما في مثل (فقهاً نَظَمَ مالكٌ). 2) الفارسية إذ خصَّت ذا النصب والمفعولية باللاحقة (را)، وعلَّمت بالعلامة العدمية ذا الرفع والفاعلية، كما في نحو (كتاب را خواند رضى) بمعنى (كتاباً قرأ رضى). 3) اللاتينية التي أفردت المركب الذي تلقى الرفع والفاعلية باللاحقة (a) وجعلت لذي النصب والمفعولية اللاحقة (em) إعراباً عن عوارضه. كما في مثل (hominem videt fimina) بمعنى (الرجلَ رأتِ المرأةُ).
4) اليابانية بالمعربة باللاصقتين (وَ)، (أُ) تباعاً عن وظيفتي الفاعل والمفعول، كما في المثال (موسى أُكمثرى وَأَكل). 5) الكورية التي تعرب باللاصقتين (نُونْ) و(رُولْ) بهذا التتابع عن فاعلية مركب ومفعولية الآخر، كما في نحو (موسى نون كمثرى رول أكلَ).
([17]) للتوسع في الموضوع راجع مبحث فواعل الرتبة في اللغات التوليفية أصول تداولية في ص. 169 من كتاب الوسائط اللغوية للأوراغي. وبأغراض بلاغية وأسلوبية برر إدوار سابير تحقق الجملة الواحدة في اللاتينية من اللغات التوليفية على واحد من التراتيب التالية: videt fimina - videt hominem fimina - hominem fimina videt - hominem videt fimina - fimina hominem videt - fimina videt hominem - hominem.
وللمزيد من التفصيل انظر: ص. 63 من: Edward Sapir, Le langage, introduction à l'étude de la parole, Payot, Paris.
([18]) انظر شرح المفصل، ج 1، ص. 73 تجده يقول: «ذهب سيبويه وابن السراج إلى أن المبتدأ والخبر هما الأول والأصل في استحقاق الرفع، وغيرهما من المرفوعات محمول عليهما... وصاحب هذا الكتاب ذكر الفاعل أولاً وحمل عليه المبتدأ والخبر».
([19]) للوقوف على الأغراض المحمولة في الترتيب (مف فا فع) راجع تحليل الزمخشري للآية ]وبالآخرة هم يوقنون[ في ص 42 في الجزء الأول من الكشاف.
([20]) تضطر اللغات الشجرية كالأنجليزية ونحوها الفرنسية إلى استخدام اللاصقة، (par, by) للإعراب عن الوظيفة النحوية إذا تبادلت المركبات مواقعها الأصلية كما في بنية الفاسف Le passif. وكذلك العربية من اللغات التوليفية، إذ تلجأ في حال استفاد جميع وسائلها إلى استخدام السَّبَقِ واللَّحَقِ كعلامتين، كما في (هدى دعت ليلي) و(دعت هدى ليلى)، و(هدى ليلى دعت). فللمركب (هدى) حالةُ الرفع التركيبية ووظيفةُ الفاعل النحوية من حيث هو سَبَقٌ، وليس لوقوعه في رتبة تتحدَّد عادة بعلاقة الجوار.
([21]) انظر شومسكي حيث يتناول الرتبة order في ص 334 من الفصل الرابع في كتابهThe Minimalist Program، وقبله تطرق إلى ترتيب المكونات في مواضع كثيرة من كتابهThéorie du Gouvernement et du liage المعبَّر عنها أحياناً بمطالع الأحرف SVO أو بالصيغة P¦SN-FLEX-SV.
([22]) انظر مختلف المنقولات التي تطرَّق إليها شومسكي في مباحث عملية التحريك في ص 249 وما بعدها من كتابه The Minimalist Program.
([23]) نستعمل النطائق والبدائل بمعنى الحروف الأصول والحروف الفروع في كتاب سيبويه، انظر ص 404 من الجزء الثاني، وهي لا تختلف في الأساس عن ثنائية Phonèmes et Variantes لدى Troubetzkoy في ص 36 من كتابه Principes de Phonologie.