الشجى يبعث على الشجى.... والموت واحد
سأعترف أني قلتُ، أنا الذي لم أؤذ، في حياتي، نملة على عمد. أنا الذي ما كنت أتصور أني قادر على قتل ذبابة.
كنت يومها مع صديقي في سيارته كان ينهب الطريق في اتجاه النهر المجاور للمدينة، لنلتقي الربيع المبكر الذي طال انتظاري لقدومه، بفرح اختزنته مع كل مطرة من أمطار الشتاء الراحل. كنا نطوي الطريق لنلتقي أزهار شقائق النعمان وقد طرّزها آذار حمراء، بيضاء، بنفسجية. وأعديت صديقي بلهفتي فصار هو أيضاً يتلهف ، ويرجوا أن تطوى الطريق في غمضة عين. فجأة... فوجئنا برف عصافير ينفلت من أمام السيارة باحثاُ عن النجاة في هبّة واحدة. لكن عصفوراً واحداً قصّرت به همتّه عن اللحاق بأترابه، فضرب بزجاج السيارة، وتهاوى غير بعيد على إسفلت الطريق. وصرّ صديقي المكابح بضغطة مفاجئة قوّية توقفت السيارة على أثرها. عدوتُ إليه وحملته. كان خيط دم رفيع، لا يكاد يُرى، ينسرب من منقاره الصغير. فتح عينيه، ونظر إليّ في عتب، ثم أغمضهما إلى الأبد.
يومها لم تمض الرحلة كما كانت رحلاتنا تمضي. بقي شبح العصفور الهامد، وهو يرقد في يدي، يخيّم على حركاتي، وكلماتي وحتى على ألوان شقائق النعمان التي زهدت في قطفها.
من يومها، بدأ يأخذني فكري، فأتخيل في طريقي، وفي كل منعطف، رفاً من العصافير، يهمّ بالطيران نحو الفضاء الأزرق، وأبقى في يقظة حتى لا يداهم سائق بسيارته عصفوراً قصّرت به همته عن اللحاق بأترابه.
ستقولون لي: تكتب عن عصفور صغير نفق بغير قصد، وتنسى آلاف الأطفال يموتون جوعاً ومرضاً وبرداً وصبراً، وتنسى دماء الضحايا تسيل هنا وهناك في المجازر والأوبئة والأحقاد؟ أقول لكم: لا.. لا أنسى، ولكنه الشجى يبعث الشجى، وطعم الموت واحد في كل الأحوال..
لقد كان الشاب، ذو النعمة والجاه، على عجل من أمره. وكان لا يريد أن يفوته الموعد الأخضر مع فتاته على باب الحديقة في الحي الراقي، فترك العنان لسيارته الحمراء الأنيقة تنهب ما تبقى له من شوارع تفصله عن مكان اللقاء. لم يكن آبهاً بالمارين يهربون كالفئران من أمام سيارته الأنيقة، ولا سلاح لديهم سوى خطواتهم المذعورة، وبعض الشتائم التي لاتصل إلى أبعد من أفواههم. ولم يكن عابئاً بإشارات المرور الحمراء، ولا بصفارات الشرطة الغاضبة.
ومن أحد الأزقّة الفرعية خرجت عبير الصغيرة ذات الأعوام السبعة، راكضة. لم تكن تريد اجتياز الشارع العريض، لكنها أرادت أن تتوقف على طرفه تنادى أباها الذي يجتازه بهمة.
كانت تريده أن يعود إليها، لتهمس في أذنه ألا ينسى علبة الأقلام الملونة إذا عاد هذا المساء. لا أتذكر عبير هل نادت: با...با، أو أنها كانت ما تزال تحاول إحاطة فمها الصغير بكفيّها الصغيرين ليكون صوتها مسموعاً؟ فالسيارة الحمراء الأنيقة، ذات الشاب المستفزّ إلى موعده الأخضر، طرحت عبير بعيداً على الرصيف، وخيط رفيع من دم يسيل من أنفها الصغير.
لم يتأخر الشاب المستفزّ إلى موعده عن فتاته ولم يقدّر له أن يرى عبير الصغيرة ملقاة على رصيف الشارع، أو يقرأ ملامح والدها المذعور، وهو يلقي بنفسه عليها. ولعله لم يدر، حتى اليوم، أن عبير الصغيرة، التي كادت أن تؤخره عن موعده، قد ماتت، ولم تعد في هذه الحياة ...كُنت يوم ذاك أنا أيضا في السابعة من عمري...وكنت مع عبير في نفس المدرسة ونفس القسم...وكنت أجلس بجنبها في نفس الطاولة...وإلى اليوم وبعد سبع عشرة سنة ...لازلت أذكر عيناها البرّاقتين تنظران، وذلك الصوت البريء يتردد، وقدميها الصغيرتين المتدليتين من الكرسي و التي كانت تجهد نفسها كي تمس الأرض بهما لتثبت أنها أطول مني ...ولازال في نفسي شيء من المعلم الذي نهرها تلك الأمسية حتى أجهشت بالبكاء و هملت عيناها ...ثم مسحت عيناها ... و اقتربت مني و حلقت يديها على أذني وأسرت لي شيئا : قالت سأقول لك شيئا ..لكن لا تخبر المعلم..."سأطلب من أبي أن يأتي معي غدا ليطلب من المدير أن يغير قسمي لأني لا أحب هذا المعلم فهو ينهرني "
لماذا يصرّ بعض الناس على اطفاء شموع الآخرين بإهمالهم...لماذا يسلبون حياة الناس بقسوتهم...كم من عبير فقدت بعد عبير ...ولكنه الشجى يبعث الشجى
!!!