إني شاب.. أعطي كل شيء حقه .. الدراسة ، الطاعة ، الشخصية الفذّة ، النشاط ... كل ذلك بمعنى الكلمة ...
كـنت متفوقا في دراستي ، لطيفا في معاملتي مع كل من يحيطني ... أجامل هذا و أثني على ذاك .. لي طرقي في طرح أفكاري الجديدة و لي أسلوب للإقناع ... لا أصرف من وقتي إلا هنيهات أرتاح فيها و أستلقى لأستعيد نشاطي أو آخذ أختاي للنزهة والترويح عن النفس ... أنهيت دراستي و التحقت بالكلية التي طالما كنت أتوق للالتحاق بها ... و كـانت حلما من أحلام والديّ اللذان تركا لي رعاية أختاي ... ..
أرادت لي والدتي التفرغ للدراسة في مرحلة الماجستير وأتخرج بأسرع ما يمكن و من ثم أجاهد لأساعد العائلة في مصاريف ... فأطعت رغبتها ...وسعيت في ايجاد عمل يمكنني من التوفيق بين الدراسة والعمل نفسه ...كنت قد تحصلت قبل أشهر على شهادة في المحاسبة الإدارية...وعمدت إلى أحد أصدقائي في احدى الشركات التجارية وكان رئيس الفرع فيها...فقدمت إليه طلبي مع تلك شهادة فواقف وأبرمت عقدا مع الشركة لمدة ثلاث سنوات... وقد وجدت تلميذا أعطيه دروسا خصوصية تساعدني أجورها على تحمل مصاريفي الشخصية ... لم يـكن ما يعكر سماء حياتي ... كـنت قانعا بما قسمه الرب ... متفائلا دائما .. لكني كلما مررت في ذلك الشارع المليء بالمقاهي الراقية ... و رأى جموع الناس التي ترتادها خفق قلبي و دسسّت يدي في جيبي لأتحسس ما فيها من نقود و أصلح من ثيابي و أتساءل : هل سيمكنني يوما ارتياد هذه المقاهي .. و لو لشرب القهوة أو تناول قطعة حلوى .. لم أكن أعرف كم يكلف ذلك بالضبط .. لكني دائما أشعر أن تلك النقود التي في جيبي تسير إلى أماكن إنفاقها دون توقف فكيف أستغني عن أحدها و كلها ضرورية .. إنني مقتنع بما أفعل .. لـكن ذلك لم يكن ليمنعني من ذلك الشعور بالإحباط كلما مررت في ذلك الشارع أو حتى قريبا منه .. كـنت أعتقد أن ارتياد هذه الأماكن لها متعة خاصة .. لا يمكنني إحساسها .. و هي مقتصرة على طبقة معينة أنا لست منها .. لكنني سأكون .. لا بد أن أكون .
لم أكن أعرف أنّ كل مرة أعاود المرور فيها تزيد مشاعري إحباطا .. حتى كدت أكره الاقتراب .. لـكن أختاي كانتا لبد أن تجتازا ذلك الشارع ذهابا وإيابا للثانوية تحبان أن تتمشيا في ذلك الشارع المليء بالخضرة و المياه المنسابة من نافورة على هيئة شلالات حلوة ، حيث يقصده الجميع و كأنه مهرجان يجتمع فيه الناس...
وأنا لا أحب أن تذهب أختاي إلى هناك بمفردهما ... ثم ما يشجعني أنهما كانتا دائما سعيدتين جدا باصطحابهما ويشعران بأمان تام مع أخ لهما و كم كنت أتمنى لو أن باستطاعتي دعوتهما إلى شرب عصير بارد ينعشهما ويذهب عطشهما ... و كلما وجد مجموعة من الشبان يجلسون بصحبة فتيات صديقات أو أخوات اكفهر وجهي و أحس بذلك الإحباط الشديد ... لكني أبداً لم أظهره لأحد ... لأتذكر بعد قليل بأني قانع بما لديّ و أكتفي بأن أشتري لهما كوزين من الذرة أو حتى قطعة مثلجات ..
ذات يوم كان جيبي يحمل مرتب شهر كامل من العمل و الجهاد مع ذلك التلميذ البليد الذي استطعت بجهودي أن أحسن من أحواله و أرفع من معدله فما كان من والده إلا أن منحني مكافأة مالية ليعبر عن شكره ... جيبي يحمل المرتب و المكافأة .. و مررت في ذلك الشارع ... جيئة و ذهابا .. مرة .. مرتين و وأنا أحدث نفسي و أشاورها في الدخول إلى ذلك المقهى بالذات... أقرر و أتردد ... ماذا لو كلفني ذلك مبلغا محترما ... أليس من الأفضل أن أشتري ذلك القميص الباهظ الثمن الذي أحببته منذ شهرين و كان ثمنه أكبر من المبلغ الذي أمتلكه هل أشتري القميص أم أشرب فنجان قهوة و أدفع ثمن استمتاعي بدخولي عالم الأثرياء ...
أصلحت من ثيابي و شددت أزر نفسي و اندفعت أحث الخطى إلى المقهى ... شعرت أن كل الناس ينظرون إليّ .. ارتبكت .. هل سأحسن التصّرف ؟ هل سيشعرون أنني لا أنتمي إليهم ؟ ، لا إنني في هذه اللحظة مستعد أن أدفع كل ما في جيبي ثمنا لذلك ... اخترت طاولة منفردة أمام النافذة و سعيت إليها .. ربما ليراني الجميع ... جلست على الكرسي و مددت قدميّ لأجبر نفسي على الاسترخاء ... و سويت قميصي .... فجأة خطرت لي فكرة جعلتني ألملم قدميّ و يغزوني الارتباك من جديد .. هل يناسب لباسي مكانا كهذا ؟ . هل كان عليّ ارتداء البدلة الوحيدة التي أقتنيها ؟ ... نظرت حولي ... هذا بدون ربطة عنق ... و ذاك أيضا ... لا بأس إذن .
اقترب النادل ... فاستويت في جلستي محتارا هل أعامله بلطف أم بفظاظة ... ترى كيف يتصرف هؤلاء الناس ... ماذا عليّ أن أفعل لأبدو واحدا منهم ... نفخت صدري و بكثير من الرفعة هممت أن أقول ... و إذا بالنادل يسبقني بالقول : عفوا سيدي الطاولة محجوزة ... تفضل إلى الطاولة المجاورة من فضلك . لا أعرف كيف أتحرك عن الكرسي و أنتقل إلى الطاولة المجاورة ... ألف خاطر دار في رأسي .. لماذا يا ترى فعل النادل ذلك ... هل هي محجوزة فعلا أم تلك حجة اتخذها لإبعادي عن هذه الطاولة .. أهي الطاولة الأهم ! من يكون ذلك الذي حجزها ! أهو أفضل مني ! قد يكون أثرى مني لكنه بالتأكيد ليس أفضل مني في شيء آخر ... ليست الثروة هي المهمة في حياة الإنسان ... الإيمان و الشخصية و العلم و والحب ما يميز الإنسان ... فليكن أثرى مني لكنه ليس أفضل ...
- هل أفسر ذلك للنادل .. لا لزوم لذلك لن يفهمني .. ما هو إلا نادل هنا لماذا أقول هذا .. حتى لو كان كذلك قد يفهم ... هل كونه نادلا يعني أنه لا يفهم .. ربما أكمل تعليمه لكن ظروفه اضطرته للعمل هنا .. سيدي هل تنتظر أحدا أم تريد أن أقدم لك أية خدمة ! كلمات النادل أعادتني إلى الطاولة فاستويت و بكثير من الرفعة طلبت فنجان قهوة ..
لماذا أتعالى على هذا المسكين ... لماذا أحس أني أعلى منه شأنا ... أنا دائما أقول أن الناس سواسية و سواسية يجب أن يعاملوا ... في كل شيء ... لكني أحس بالتعالي و الرفعة أمام هذا النادل المسكين ... شعور لم أستطيع إبعاده ... مهلا .. ماذا لو لم أستطع دفع ثمن فنجان القهوة ... كلا لا يمكن أن يكون باهظا إلى هذه الدرجة .. لم أستطع أن أسأل النادل كم يكلفني ذلك ... فهذا سيدل على أني أقصد المكان للمرة الأولى ... جلست أمعن النظر هنا وهناك ... أفتش عن عيون تحسدني كما كنت أفعل عندما أكون خارجا ... هل يرونني في الخارج ... تلك الطاولة المحجوزة كانت بالتأكيد ستبدو من الخارج ... أما هذه ... فهل يراني أحد !!
كلﱡ منشغل بمن يرافقه ... لا يعيرني أحد انتباها ... ليتني أحضر أختي ربما كنت قد تحدثت معها و لم أحس بطول اللحظات ... لماذا يطول إحضار فنجان القهوة ... لكني لم آت لشرب القهوة فقط ... فلأستمتع بجلستي و أفرد قدمي وأسترخي ...
رأيت النادل عن بعد يحمل الصينية المذهبة و عليها فنجان قهوة و كأس ماء . هو فنجاني بالتأكيد لأنه فنجان وحيد متوجه إلى طاولتي ... ارتبكت .. هل أدفع له مباشرة كلا أنا أرى في الأفلام أن الناس يدفعون عند المغادرة إذن عند المغادرة ... كيف يقولون أن الأفلام غير مفيدة ها هي الإفادة واضحة ..
أخذت الرشفة الأولى .. و بعدها ثانية .. لم أجدها كما توقعت لذيذة لها طعم خاص هل لأنني سأدفع ثمنها غاليا !
كنت أرتشفها و أقول لنفسي –هل هذا كل ما في الأمر ... بماذا يختلف الجلوس هنا عن المشي في الخارج ليتني اشتريت القميص و لم انزلق للدخول إلى هنا ... لا بأس لاستمتع بالرشفة الأخيرة طالما سأدفع ثمنها لا محالة .. ثمنها !! كيف سأسأله عن ثمنها ...
وتذكرت الفيلم ثانية لا بد أن ورقة الحساب هنا في مكان ما .. و هممت أن أفتش كل ما على الطاولة لكني تنبهت ... و بكل رفعة أعدت يدي إلى طرف الطاولة ورحت أبحث بعينيّ .. لا بد أن تكون تحت الفوطة في ذلك الصحن ... فتحتها بكل حذر .. زادت ضربات قلبي .. لا لا تستحق كل هذا الاضطراب ... ليس الثمن باهظا لكنه سيلتهم المكافأة .. لا بأس فهو أقل مما توقعت .. و دسّست يدي في جيبي لأخرج المبلغ بكل رفعة ... فارغ ...جيبي فارغ .. كيف !! الآن وضعت نقودي فيه ... فارغ ... إنه غير مثقوب فقد أخاطته أمي بالأمس و تأكدت من ذلك بنفسي .. هل سرقني أحد هل كنت مضطربا إلى هذا الحد فلم أحس بالسارق يمد يده إلى جيبي !!! مستحيل ... هذا لم يحدث معي مطلقا ... كنت أسخر ممن يحدثونني عن حوادث مماثلة ... لكن جيبي فارغ أين ذهبت نقودي يا للفضيحة .. ترى ماذا سيفعل النادل بي ! لابد أنه سيرسل في طلب صاحب المحل ! أو ربما استدعى شرطيا ... أمي ... أمي ماذا سيكون موقفها .. يا للفضيحة ... ليتني وقعت و كسرت قدمي قبل دخولي ... ليتني ... مهلا .. مهلا ... لقد تذكرت وضعتها في جيب قميصي مع بطاقتي الشخصية .... أوه الحمد الله ... وضعت الحساب في الصحن تحت الفوطة و خرجت مسرعا .. لم أترك حتى شيئا « للبقشيش » فأنا لن أعود ثانية .. خرجت و أنا أضحك من نفسي .. أضحك عاليا من الداخل حتى كادت الضحكات تخرج إلى الملأ و تتحول البسمات المرتسمة على شفاهي إلى قهقهة مصوتة ...
لا بأس تجربة مثيرة .. لكنها تجعلك تضحك من نفسك عندما تعتقد أشياء مشابهة .. لن أفكر بالدخول مرة أخرى ... فالمبلغ الذي وضعته في الداخل كان يكفيني لأشتري لأختاي المرطبات و الذرة أربع مرات و في هذا متعة أكبر .. أو ربما دعوتهما ذات يوم .. لأحتفل بتخرجي لكني من المؤكد أني لن أشعر بذلك الإحباط مجددا .. فقد كسرت ذلك الشعور الزجاجي الذي كاد أن يحطمني ... من المؤكد أني سأقصد ذلك الشارع كلما تسنى لي ذلك و سأستمتع بصحبة من أرافقه و لن أنظر مرة أخرى إلى تلك النوافذ لأرى من فيها و ماذا يفعلون بل سأوافق أختاي على الجلوس أمام نافورة المياه و الاستمتاع .. لا شك أنهما ستفاجآن بموافقتي على الجلوس لكني ربما سأحكي لهما يوما تجربتي .
يحي امحمد