لماذا يكذب الشعراء …. ؟!
سؤال يتردد كثيرا في أوساط المهتمين بدراسة الشعر العربي قديما وحديثا …
ولا أريد في هذه العجالة أن أجيب عن هذا الموضوع إجابة أكاديمية متبحرة، وليست لدي القدرة الكافية لمجاراة من تصدوا لهذا الموضوع من عمالقة البلاغيين العرب الذين أفنوا شطرا من حياتهم في استكشاف أسرار إعجاز الكلام المنظوم والمنثور. وعلى رأسهم الإمام العلامة عبد القاهر الجرجاني الذي أجمل في فصول جميلة وعميقة من كتابيه: (أسرار البلاغة) و(إعجاز القرآن) خلاصة الآراء النقدية والفكرية والنفسية حول هذا الموضوع، مما لا مجال لبسطه هنا.
وقد حاول كثير من البلاغيين ملاءمة البحث في هذا الموضوع مع ما ورد في القرآن الكريم من الآيات التي تخص الشعر والشعراء بالإضافة إلى سورة الشعراء.
كما أنني لا أريد أن أخوض في تفاصيل هذا المبحث الذي كثر حوله المتجادلون والمتناظرون بقدرما سأسعى إلى بسط فكرة جوابي الشخصي عن هذا السؤال الذي جعلناه عنوانا لإدراجنا هذا.
ولإجابة توضيحية تقريبية أود أن أضرب مثالا واحدا من الشعر العربي. ويتعلق الأمر بشعر الغزل.
فمن المعروف أن هذا النوع من الشعر يمثل الحيز الأضخم من مجموع الشعر العربي القديم. فمعظم الشعراء لهم نصيبهم فيه سواء أكان قليلا أو كثيرا، عميقا أو سطحيا، عفيفا طاهرا أو مفضوحا مكشوفا.
وبما أننا مقبلون بعد بضعة أيام على يوم ثامن مارس الذي اختير ليكون عيدا عالميا للمرأة فقد وجدت من المناسب استباق ذلك اليوم الموعود بهذا الإدراج.
ترى أية امرأة يصفها الشاعر …؟ ، وهل هي امرأة حقيقية لها نسخة مطابقة لأصل واقعي يحاكيه الشاعر بكلامه وإيقاعاته، أم هي مجرد واحدة من بنات أفكاره ونسج خياله…؟
وفي العادة فإن الشعراء خصوصا والأدباء عموما عندما يتناولون العوالم المحيطة بهم كعوالم المرأة والأشخاص والطبيعة وغير ذلك من الموضوعات فإنهم يسعون قبل كل شيء إلى خلق مسافة أخرى جديدة فاصلة بين تلك العوالم والموضوعات الخارجية المنظورة وبين عوالمهم الداخلية الفسيحة المحجوبة غير المنظورة.
ومن هنا تغدو عوالم الشاعر الداخلية أكثر رحابة وأكثر قدرة على استيعاب الموضوعات الخارجية مهما اتسع نطاقها ومداها، فتصبح عوالم الشاعر هي المكتسِحة لكل شيء بدل أن تكون هي المكتسَحَة، على عكس ما يتصور البعض ممن لا يملك القدرة على التغلغل في بحار الشعر العميقة.
وبعبارة أخرى أوضح فإن الشاعر عندما ينعت امرأة ما فإنه لا ينعت كائنا من لحم ودم ومن أوصاف وخصال، وإنما هو ينعت ظلها القابع تحت شموس وأضواء عوالمه الخاصة.
ومن المعلوم أيضا أن ظل الإنسان يظل ملازما له ويكون امتداد له في السكون أو في الحركة، ولكنه يختلف عنه لأنه يبقى بدون ملامح ولا لون ولا رائحة مهما بلغ صاحبه من الوسامة والوجاهة.
ولكن، لهذا الظل قدرة هائلة على التمدد والتشكل حسب مصادر الضوء وقوة إشعاعه. ويعجز عن ذلك جسم الإنسان المحدود زمانا ومكانا.
وعلى هذا، فلا أعتقد أن الشاعر يصف في شعره امرأة حقيقية ماثلة أمامه في الواقع الحقيقي الطبيعي، وإنما هو يصف أطيافها وظلالها المرتسمة في سماء مخيلته. وبعبارة أخرى أوضح فإنه لا يصف المرأة كما هي في ذاتها وصفاتها، وإنما كما يريدها أن تكون في خياله أو في أوهامه أوفي أحلامه أو حتى في هلاوسه.
فالنساء في دنيا الشعر غير النساء، إنهن بملامح الظل، تماما كما النساء على شاشات السينما أو التلفاز. حيث تغادر الممثلة ذاتها لتحل في ذات البطلة الافتراضية …!!
فهل كانت مخيلة الشعراء أقدم دور العرض السينمائية الخيالية أو المواقع الافتراضية…؟!.
فلأمر ما قالت العرب قديما، في سياق قريب مما نحن بصدده : أعذب الشعر أكذبه، وفي سياق آخر قالت: أعذب الشعر أصدقه.
عبد اللطيف المصدق