[كان يفكر بنعمة عندما اخترقته...حادةً ساخنة..
كان وقتا ً غريبا ً للتفكير في نعمة...عتمة الليل الطويل المستباحة بضوء الطائرة "الهليكوبتر"..الرصاص المجنون الطائر فوق الرؤوس..وصرخات الأصحاب المخروسة غصباً.........لكن وجهها الهادىء كان أمامه ...يطوّف حوله في خفر...ثم يعود لمواجهته..عيناها تنطقان بأحلام تسللت من وراء القهر...لا تحني رأسها بين الصخور معه..لا تختبىء...لكنها معه...ربما لذلك...لم يتألم كثيراً في البداية...كان خدِراً بنشوة وجهها...لكنه تأوه متفاجئا ً...اختفى وجه نعمة بين الجبال...وبقي لحظة يتوجع بصمت مكتوم متسائلاً عن السبب...
"كلنا كنا نصرخ ونكتم أصواتنا...لهذا لم نسمعه...لم نعرف أنه أصيب إلا بعد انصراف الطائرة..وجدناه يعض على شفتيه الداميتين ويتلوى...ممسكاً بفخذه..مزق أحدنا سرواله...كاد يصرخ لما رأى الجرح الغائر الذي حفرته الرصاصة..."
الألم يشق له خطوطاً وأخاديد يسري فيها في جسده...ثمة نار لاتطاق في فخذه...كان الأصحاب يهمهمون..كان يسمعهم ولا يقدر أن يرد...فتح عينيه...رأى يديه مضرجتين بدم ساخن متفجر...والأصحاب يغطون الجرح ويضغطون...فيندلع الوجع...ويصرخ..فترجع الجبال بالصدى...ويستحيل الوادي كتلة من صراخ ٍ مبهم ٍموجوع.....
"كنا محاصرين بين الجبال...اختبأنا بين الصخور..وتغطينا بأوراق الشجر...لكنهم كانوا يطلقون الرصاص هكذا...كمطر أعمى..نجت مجموعتنا بأعجوبة...لكنه أصيب...والمنطقة مغلقة علينا تماماً ...عندما زال الخطر قليلاً...قررنا أن نحمله ونمشي به..لأقرب نقطة يستطيع أن يعالج فيها...حملناه...تأوه بضعف..وذهلنا لما رأينا تحته..بركة من الدم التمعت بشراسة تحت ضوء الهلال البعيد..."
موج يعلو...يأخذه في مده وجزره..كورقة أرهقها البلل والضياع..نسمات باردة مسحت وجهه...فتح عينيه بضعف..كانت النجوم الخابية في السماء تذكر باقتراب الفجر...وجه نعمة حزين أمامه..عيناها أرضان بنيتان تنضحان المطر... والمطر يغسل جسده...ذهل لغزارة دمعها البارد...أراد أن يستوقف طيفها..أن يقول لها شيئا ً يسعدها...لم يتذكر إلا أنشودة صغيرة عُلِمها في الطفولة...غناها...كان يسمع صوته يتمدد في صمت السَحَر والجبال.....
"تصبب عرقه بغزارة...كانت جبهته تقدح ناراً...لكنه لم يعد يصرخ ألماً...كان يتمايل لحركة أكتافنا المكدودة كخرقة عاجزة....لكنه فجأة فتح عينيه....وبدأ يغني...أنشودة قديمة صغيرة...أصابنا الخوف...عرفنا أنه بدأ يهذي...أنزلناه على الأرض...وبدأنا نبكي... بكينا حتى جرحت شهقاتنا صمت الفجرالمفجوع....."
صفعت موجة باردة وجهه...ثم غابت...وعاد وجه نعمة يبتسم له...عبرت السماء طيور شريدة بيضاء...ورأى نفسه من بعيد...ولدا ً يقف على هوة تطل على جبال الخليل...يقذف حجرا ً...يطير الحجر مرتفعا ً ثم يهوي في عمق الوادي السحيق...انتظر أن يسمع صوت الحجرالساقط ليردد الوادي الصدى...لكنه لم يسمع شيئا ً...أراد أن ينحني ليرى الحجر لكن نورا ً ساطعا ًباغت عينيه...أراد أن يسأل نعمة:هل طلعت الشمس؟!
توقف النشيد ...عرفنا أن كل شيء سينتهي...كانت الشمس تسري بمشقة الى السماء...كان يبتسم....ويحدق إلى الشمس بعيون لا تنام.....