مدارس الاستشراق ـ المدرسة الفرنسيةـ : د. أنور محمود زناتي
اهتمَّت الدراسات الاستشراقية بجميعِ الجوانب الحضارية، والسياسية، والفلسفية، والدينية، والاقتصادية.. إلخ، وكانت هناك توجُّهات خاصَّة لكلِّ مدرسةٍ من مدارس الاستشراق؛ فالاستشراقُ الفَرنسي والهولندي مثلاً اهتمَّ بالجوانب اللغوية والأدبية، واهتمَّت المدرسة الألمانية والفَرنسية أيضًا بتحقيق ودراسة المواضيعِ العلمية في الحضارة العربية، واهتمَّ الاستشراق البريطاني والألماني بدراسةِ العقائد الإسلامية والدين الإسلامي، أما المدرسة الروسية فقد اهتمَّت بدراسة التراث، ولمزيد من التفاصيل نُورِد تطوُّرات وخصائص كلِّ مدرسة في مقالات منفردة؛ فنبدأ بالمدرسة الفرنسية؛ وهي على النحو التالي:
يمثِّل الاستشراق الفرنسي لوحةً كبيرة، رسمت ملامحها في القرن السادس عشر، وقد لعبت فرنسا دورًا هامًّا في الاستشراق، منذ تأسيس مدرستي "ريمس" و"شارتر" لتدريس اللغة العربية في باريس، وكرسي للدراسات الإسلامية في جامعة السوربون، والتي ألحق بها معهد الدراسات الإسلامية[1]، ومنذ الثورة الفرنسية 1789 أُنشِئت مؤسسة جديدة هي مدرسة اللغات الشرقية، وكانت اللغات التي تدرس - بموجب تلك المعاهدة - هي العربية الفصحى والعامية، وبوسعنا أن نعتبر أن العقدَ الأخير من القرن الثامن عشر انطلاقةٌ حقيقية للدراسات الشرقية الفرنسية[2].
وبدا الاهتمام بالمؤلَّفات الشرقية واضحًا في المصنف الشهير (وصف مصر Description de L'Egypt)، وهو جهدٌ ضخم للعلماء المرافِقين للحملة الفرنسية على مصر.
ولم يكن أساتذةُ مدرسة اللغات الشرقية أساتذةً فحسب، بل علماء حقيقيين، ومن أشهرهم "سلفستر دي ساسي" - "جوبير" - "رينوه" - "د يفريمري".
وقد دفع احتلال فرنسا للجزائر 1830 نحو توسيع دائرة الاستشراق الفرنسية، ولا سيما العناية باللغة العربية، كما تضاعف الأمر بعد احتلال تونس ومراكش؛ إذ صار حتميًّا التعرف على اللغة والتاريخ والديانة، فترجمت ونشرت نصوصٌ عربية كثيرة.
وبدخول القرن العشرين ظهر تحول واضح في الاستشراق الفرنسي؛ فقد سمح بإنشاء المدرسة العلمية للدراسات العليا في باريس، مما أدى إلى تجديدِ المواد المتنوعة والمتخصصة في الدراسات الاستشراقية، وظهر أساتذة متميزون؛ من أمثال: "لويس ماسينيون"، "وليم مارسيه"، و"جورج مارسيه"، و"جان داني"[3].
وتأسست بعد الحرب العالمية الثانية عدَّة كراسيَّ لتدريس اللغة العربية والأدب والحضارة والتاريخ والفلسفة الإسلامية.
ومن أهم أعلام تلك المدرسة:
• أرنست رينان:
ولد عام 1822 بمقاطعة (بريتاني) بفرنسا، ووهب جلَّ اهتمامه للبحث العلمي العقلي الذي تركه أتباع محمد، لقد وضع (أرنست رينان) كتابًا عن العملاق (ابن رشد)، وكيف أثَّرت فيه فلسفته، حتى لقِّب هو وأتباعه بأبناءِ المدرسة الرشدية، وهذه المدرسة هي حقيقة واقعة، وقد انقسمت إلى قسمين، القسم الأول: هو المدرسة الرشدية اللاتينية، وحمل القسم الثاني لقب المدرسة الرشدية العبرية، بينما بقي (ابن رشد) أستاذًا للجميع على مختلف مللِهم ونِحَلهم ومختلف عقائدهم.
وقد كتب (أرنست رينان) بعض الافتراءات على الدين الإسلامي، مما جعل (جمال الدين الأفغاني) يتصدَّى له، مناقشًا ادعاءاته التي افتراها على الدين الحنيف في كتابه: (الإسلام والعلم)؛ حيث رد بحججٍ علمية وأسانيد ثابتة جعلتِ المستشرق الفرنسي يقرُّ آخر الأمر بضعف مصادره التي استقى منها معلوماته عن الإسلام.
والمهم أن هؤلاء الأربعة - (ميشيل سكوت)، و(ألبير الكبير)، و(توماس داكوين - الأكويني)، و(رينان) - لم يخلوا من هوى وتعصب في كثير من آرائهم، إلا أنهم لم يستطيعوا إنكار الحقائق بعظمة (محمد)، وما خلَّفه للحضارة الإنسانية عبر أتباعه.
• لويس ماسينيون (1883 - 1962):
يعتبر "لويس ماسينيون" من أكبر مستشرقي فرنسا وأشهرهم؛ فقد شغل عدَّة مناصب مهمة كمستشار وزارة المستعمرات الفرنسية في شؤون شمال أفريقيا، تعلَّم لويس العربية، والتركية، والفارسية، والألمانية، والإنجليزية، وعُنِي بالآثار القديمة، وشارك في التنقيب عنها في العراق (1907 - 1908)؛ حيث أدَّى ذلك إلى اكتشافِ قصر الأخيضر.
درس في الجامعة المصرية القديمة (1913)، وخدم في الجيش الفرنسي خمس سنوات خلال الحرب العالمية الأولى.
استهواه التصوُّف الإسلامي، فدَرَس "الحلاَّج" دراسةً مستفيضة، ونشر "ديوان الحلاَّج" مع ترجمته إلى الفرنسية، وكذلك "مصطلحات الصوفية"، و"أخبار الحلاج"، و"الطواسين"، كما كتب عن "ابن سبعين" الصوفي الأندلسي، وعن "سلمان الفارسي".
تولَّى "لويس" تحرير "مجلة الدراسات الإسلامية"، وأصدر بالفرنسية "حوليات العالم الإسلامي" حتى عام 1954.
رغم الدراسات الكثيرة التي قدَّمها "ماسينيون" فإن ارتباطاتِه الفرنسية قد جعلتْه موضعَ شكٍّ؛ فهناك الكثير من الآراء السلبية عنه وعن تصرفاته وأقواله، وهذا موقف عامٌّ من الاستشراق والمستشرقين في أحيان كثيرة.
يَجِب ألاَّ ننسى أن "ماسينيون" هو ابن بيئته ومجتمعه، ورغم بعض أقواله التبشيرية التي تبدو سمجةً وغير مقبولة في يومنا الحاضر - وهنا لستُ بصدد الدفاع عنه - فإنه قدَّم أعمالاً أدبية كثيرة، وأعاد اكتشافَ الكثير من التراث العربي والإسلامي بتقدير واحترام كبيرين.
أما ارتباطه بالاستعمار الفرنسي للشرق العربي، وكذلك حملات التطهير للبسطاء والأميِّين؛ فهو مثارُ جدل، وقد يكون حقيقيًّا.
درس ماسينيون حياة "الحسين بن منصور الحلاَّج" دراسة مستفيضة، وله فضل كبير في إعادة اكتشاف ذلك المتصوِّف الإسلامي.
الأبعاد الروحية لاستشراق ماسينيون:
يذكر ماسينيون أنه قد تعرَّض للخطر من قِبَل السلطات العثمانية في 1908، واتُّهم بالجاسوسية، وسُجن وهدِّد بالموت، ويذكر أيضًا نوعًا من الرؤيا الروحية؛ حيث يقول: "رأيت نارًا داخلية تُحَاكِمني وتحرق قلبي، وكأنني أمام حضورٍ إلهي لا يمكن التعبير عنه، حضور خلاَّق يوقف إدانتي بصلوات أشخاصٍ غير مرئيين، زوَّار لسجني، التمعت أسماؤهم فجأة في مخيلتي"، ولأول مرة أصبح قادرًا على الصلاة - وكانت تلك الصلاة باللغة العربية - حين أفرج عنه بفضل عائلة من العلماء العرب المسلمين في بغداد توسَّطت له، قرَّر أن يلتزم بدراسة الإسلام دراسة عميقة وجدية.
من الأفكار المهمة التي آمن بها ماسينيون كانت فكرة "البَدَليِّة"، وتفهم كشفاعة الأنبياء والمُخلِّصين، ومثالُها: "الحلاَّج"، الذي درسه ماسينيون بعمق، وأنجز أطروحة الدكتوراه عنه عام 1914، وقد أظهر فيها تطور المراحل في حياة المتصوف عبر التوبة، ونكران الذات، والتطهر، إلى نوع من تجرِبة الاتحاد في ذات الله، وقد طبَّق على الحلاج فكرة البدليَّة، وهو يرى أن حياة الحلاَّج وشفاعة موته من أجل أمته تمتد إلى ما بعد إعدامه، واعتبر أن موت الحلاَّج نوع من الألَم البطولي، تحمَّله من أجل الأخرين، منتميًا بذلك إلى سلسلة البدائل أو الشواهد.
أما بالنسبة للإسلام، فكان ماسينيون يعتقد أنه تعبير حقيقي عن الإيمان التوحيدي المنحدر من إبراهيم عن طريق إسماعيل - عليهما السلام - وأن له رسالة روحية إيجابية.
• ليفي بروفنسال: (1894 - 1955):
إيفارست ليفي بروفسال Evariste Lévi - Provençal:
مستشرق فرنسي الأصل، كثير الاهتمام بتصحيح المخطوطات العربية ونشرها، ولد وتعلم في الجزائر، وحضر حرب "الدردنيل" في الجيش الفرنسي، فجُرِح ونقل إلى مصر، ثم أعيد إلى فرنسا، وعُين سنة 1920 مدرسًا في معهد العلوم العليا المغربية في الرباط، فمديرًا له (سنة 1926 - 35)، وانتدب في خلال ذلك (سنة 1928) لتدريسِ تاريخ العرب والحضارة الإسلامية في كلية الآداب بالجزائر، كما انتدب لتدريس تاريخ العرب وكتاباتهم بمعهد الدراسات الإسلامية في السوربون (بباريس)، واستقال من إدارة معهد الرباط (سنة 35)، ودُعِي لإلقاء محاضراتٍ في جامعة القاهرة (سنة 1938)، وألحقه وزير التربية الفرنسية بديوانه في باريس (سنة 1945)، وعيِّن في السنة ذاتها أستاذًا للغة العربية والحضارة الإسلامية في كلية الآداب بباريس، ووكيلاً لمعهد الدراسات الساميَّة في جامعتها، وكان من أعضاء المجمعين: العلمي العربي بدمشق، واللغوي بالقاهرة، ومات بباريس.
تعاون مع محمد بن أبي شنب، على تصنيف "المخطوطات العربية في خزانة الرباط"، ومما نشر "كتابات عربية في إسبانيا"، و"نص جديد للتاريخ المريني"، و"إسبانيا المسلمة في القرن العاشر"، و"الحضارة العربية في إسبانيا"، و"وثائق غير منشورة عن تاريخ الموحدين"، و"منتخبات من مؤرخي العرب في مراكش"، و"البيان المُغرِب" لابن عذاري، و"مقتطفات تاريخية عن برابرة القرون الوسطى"، و"أعمال الأعلام، القسم الثاني، في أخبار الجزيرة الأندلسية" لابن الخطيب، و"مذكرات الأمير عبدالله آخر ملوك غرناطة"، و"صفة جزيرة الأندلس" اختزله من الروض المعطار، و"سبع وثلاثون رسالة رسمية لديوان الموحدين"، و"جمهرة أنساب العرب" لابن حزم، و"نسب قريش" للزبيري، وكان يكتب اسمه بالعربية: "إ. ليفي بروفنسال"، وأحيانًا: "إ. لابي بروفنصال".
• مكسيم رودنسون:" 1915 - 2004 " M.Rodinson:
ولد رودنسون في عائلة متواضعة في السادس عشر من يناير 1915، من والد روسي وأم بولندية، وعَمِل في مطلع حياتِه كمستخدم جوَّال في أحد المكاتب، ونجح رودنسون العصامي في السابعة عشرة في مسابقة للدخول إلى معهد اللغات الشرقية، ونجح لاحقًا في شهادة البكالوريا، وفي 1937 تزوَّج ودخل المركز الوطني للبحوث العلمية، وانتسب إلى الحزب الشيوعي.
"وكان شخصًا شديد التدقيق والتمحيص وموسوعيًّا كبيرًا"، ومن أهم أعماله: كتاب "محمد" (1961)، وهو قراءة لحياة النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - وساهم في تعديل القراءة الغربية للإسلام إلى حدٍّ ما.
ويمكن لنا إيجاز أهم خصائص هذه المدرسة في الآتي[4]:
• تمتاز تلك المدرسة بالشمول والتعدد؛ فهي لم تتركْ ميدانًا من ميادين المعارف الشرقية إلا وتناولته بحثًا أو نقدًا أو تمحيصًا، سواء في جانب اللغات، أو آدابها، أو التاريخ والجغرافيا، أو مقارنة الأديان، أو الآثار والفنون، أو القانون.
• تعرَّضت هذه المدرسة للشرقِ بأكمله على امتداده الجغرافي كاملاً، ولم تقتصر على بقعة واحدة منه.
• اهتمَّت كذلك بفقهِ اللغة العربية ونَحْوِها، ولهجتها العامية؛ كما عَمِلتْ على الدعوة إلى تمجيدِ العامية، ومحاولة إحلالها بديلاً للفصحى.
• لم تقتصرْ هذه المدرسة على دراسةِ تراثِ العرب فحسب، ولكنها تناولت تراثَ الفرس والأتراك أيضًا.
*************
[1] ساسي: ج1، ص 107.
[2] روبير منتران: سلسلة الثقافة المقارنة "الاستشراق"، ج2، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 1987، ص34.
[3] روبير منتران: نفسه، ص35.
[4] لمزيد من التفاصيل؛ انظر نجيب العقيقي: المستشرقون، دار المعارف 1964؛ عبدالرحمن بدوي: موسوعة المسشترقين، دار العلم للملاييين، 1984.
منقول عن منتديات الألوكة