قبل أن نشرع في علم النحو ومبادئه وكتبه وما يتعلق به، يجدر بنا أن ننبه إلى اللغة العربية تتعدد علومها وتتنوع، ويحتاج إليها أهل الإسلام حاجة أكيدة، لعلاقة تلك العلوم بفهم كتاب الله، الذي نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين، ولعلاقتها بفهم نصوص الحديث النبوي الشريف، الذي نطق به أفصح من نطق بالضاد، وأبلغ من قال أنا عربي من العباد.
قال ابن خلدون رحمه الله في المقدمة: الفصل الخامس والأربعون في علوم اللسان العربي، أركانه أربعة: وهي اللغة والنحو والبيان والأدب، ومعرفتها ضرورية على أهل الشريعة، إذ مأخذ الأحكام الشرعية كلها من الكتاب والسنة، وهي بلغة العرب، ونقلتها من الصحابة والتابعين عرب، وشرح مشكلاتها من لغتهم، فلابد من معرفة العلوم المتعلقة بهذا اللسان لمن أراد علم الشريعة.
وإنما احتجنا إلى هذه المقدمة البسيطة، بين يدي حديثنا عن علوم اللغة العربية، لبيان وثيق الصلة بين العلوم الإسلامية الدينية المحضة وبين العلوم العربية التي تعتبر ـ على حد قول العلماء ـ علوم الآلة والوسيلة، ولندفع وهم من دخله الوهم فظن أنه يستطيع فهم الدين بدون واسطة علوم اللغة، أو يستطيع أن يتفقه في الشريعة دون تضلع من العربية... وكفى بذلك وهماً وضياعا، وصدق من قال:
حفظ اللغات علينا فرض كفرض الصلاةِ
فليس يحفظ ديـن إلا بحفــظ اللغـاتِ
تعريف علم النحو:
ونبدأ بعلم النحو.
ونعرج على تعريفه. فنرى أن صاحب (كشاف اصطلاحات الفنون) قال: علم النحو، ويسمى علم الإعراب أيضاً على حافي شرح اللب، وهو علم يعرف به كيفية التركيب العربي صحة وسقما، وكيفية ما يتعلق بالألفاظ من حيث وقوعها فيه من حيث هو، أو بوقوعها فيه .. والغرض منه الاحتراز عن الخطأ في التأليف والاقتدار على فهمه والإفهام به.
نشأة علم النحو:والحقيقة أن بوادر اللحن قد ظهرت على قلة وندرة أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رجلاً لحن بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أرشدوا أخاكم فقد ضل " .
كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: " أنا من قريش، ونشأت في بني سعد، فأنى لي اللحن " .
فإذا كان اللحن في التخاطب بين العرب هو الدافع الأول إلى تدوين اللغة وجمعها، واستنباط قواعد النحو وتصنيفها، فإننا نتعرف من خلال الحديثين السابقين وجود كلمة اللحن وتداولها، وإن لم ينقل إلينا ما الخطأ اللغوي الذي قصد بها آنذاك.
لكن المصادر في تاريخ علم النحو تذكر لنا أن عمر رضي الله عنه مر على قوم يسيئون الرمي فقرعهم فقالوا: آنا قوم متعلمين ( والصواب أن يقولوا: متعلمون) فأعرض مغضبا وقال: والله خطؤكم في لسانكم أشدُّ علي من خطئكم في رميكم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " رحم الله امرءواً أصلح من لسانه " .
إلا أن أشهر القصص في تاريخ النحو ما أورده الأصفهاني في الأغاني، إذ دخل أبو الأسود الدؤلي في وقدة الحر بالبصرة على ابنته، فقالت له: ياأبت ما أشدُّ الحر؟ فرفعت كلمة (أشد) فظنها تسأله وتستفهم منه أي زمان الحر أشد؟ فقال لها: شهرا ناجر، فقالت: ياأبت إنما أخبرتك ولم أسألك، والحقيقة أنه كان عليها أن تقول إذا أرادت إظهار التعجب من شدة الحر والإخبار عنه ماأشدَّ الحر.
اسباب فشو اللحن:
وقد بدأ اللحن يتسرب والفساد يسري إلى لغة كثير من العرب مع اتساع الفتوحات، واختلاط العرب الفاتحين بالشعوب الفارسية والرومية والأحباش، ومحاولة هؤلاء العجم تعلم مااستطاعوا من العربية، وقليل من يفلح منهم في ذلك. فكان ظهور اللحن وفشوه مدعاةً لأهل الحل والعقد، أن يأمروا بضبط اللغة لضبط الألسن، وبتدوين القواعد واستنباطها لحفظ كتاب الله من اللحن والتحريف في اللفظ ثم في المعنى.
وضع قواعد النحو الأولى:
ويحدثنا ابن خلدون كيف وضعت قواعد علم النحو؟ وكيف فكر العرب في المحافظة على اللغة ونطقها، بعد أن فسدت ملكات النطق السليم لديهم فيقول: فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطردةً، شِبه الكليات والقواعد، يقيسون عليها سائر أنواع الكلام، ويلحقون الأشباه بالأشباه، مثل أن الفاعل مرفوع، والمفعول منصوب، والمبتدأ مرفوع، ثم رأوا تغير الدلالة بتغير حركات هذه الكلمات، فاصطلحوا على تسميته إعراباً، وتسمية الموجب لذلك التغير عاملاً، وأمثال ذلك، وصارت كلها اصطلاحات خاصة بهم.
أوائل النحويين:
وقد اختلف العلماء فيمن تكلم أولاً بعلم النحو من حيث هوعلم، وفيمن وضع له بعض قواعده.
ولعل أول من أرسل فيه كلاماً أبو الأسود الدؤلي، الذي اخترع الحركات المعروفة بالفتحة والضمة والكسرة عندما اختار كاتباً، وأمره أن يأخذ المصحف وصبغاً يخالف لون المداد، وقال له: إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة فوقه على أعلاه، فإن ضممتُ فمي فانقط نقطة بين يدي الحرف، وإن كسرت فاجعل النقطة تحت الحرف، فإن أتبعتُ شيئاً من ذلك غنة فاجعل مكان النقطة نقطتين.
وقيل: إن علياً رضي الله عنه وجه أبا الأسود إلى ذلك وقال له: انحُ نحوَ هذا... فمن هذا أخذ اسم النحو.
يقول الأستاذ سعيد الأفغاني في كتابه (من تاريخ النحو): أخذ عن أبي الأسود يحيى بن يَعْمر وعنبسة الفيل وميمون الأقرن ومضر بن عاصمٍ وعطاء بن أبي الأسود وأبو نوفل بن أبي عقرب، وعن هؤلاء أخذ علماء البصرة طبقة بعد طبقة، ثم نشأ بعد نحو مائة عام من تلاميذهم من ذهب إلى الكوفة فعلم بها، فكان منه ومن تلاميذه مايسمى بمدرسة الكوفة.
وقد كان للخليل بن أحمد الفراهيدي فضل كبير في هذا المجال، وهو ـ لاننسى ـ أستاذ شيخ النحو سيبويه، أخذ عنه، وكمل من بعده تفاريع النحو، وأكثر من أدلته وشواهد قواعده، ووضع فيه كتابه المشهور.
ثم وضع أبو علي الفارسي، وأبو القاسم الزجاج كتبا مختصرة في النحو، حَذَوَا حَذْوَ سيبويه.
من مسائل النحو وقضاياه:
وإذا أردنا أن نطلع على جملة واسعة من علم النحو فلنتصفح كتاباً مرجعاً فيه هو (مغني اللبيب عن كتب الأعاريب) على سبيل المثال نجد أن مؤلفه ابن هشام الأنصاري قد جعله على قسمين:
أدار القسم الأول على الأدوات في اللغة العربية، فحصرها وبين العامل منها وغير العامل ، وأكثر من الشواهد ونسق معانيها المختلفة، وأحكامها تبعا لهذه المعاني
وكان معظم اعتماده في استنباط معاني الحروف وأحكامها على القرآن الكريم، فهو المنبع الصافي من كل شائبة، والمرجع البعيد عن كل دخيل.
أما في القسم الثاني فكان فيه ثمانية أبواب، الأول في تفسير المفردات، وتشمل الحروف والأفعال والأسماء وأحكامها، والثاني: في الجملة وأقسامها، والثالث: في شبه الجملة وأحكامها، والرابع: في ذكر أحكامٍ يكثر دورها، والخامس: في ذكر الجهات التي يدخل الاعتراض على المعرب من جهتها، والسادس: في التحذير من أمور اشتهرت بين المعربين والصوابُ خلافها، والسابع: في كيفية الإعراب، والثامن: في ذكر أمور كلية يتخرج عليها مالاينحصر من الصور الجزئية.
ويعلق على ذلك الأستاذ سعيد الأفغاني بقوله: ألف الكتاب ـ أي ابن هشام ـ لطبقة حظيت من العلم بقسط وافر في ثقافتها العامة .... وهو مستوى يعلو كثيراً على المستوى الميسر لطبقة المثقفين اليوم ثقافة رسمية ( بدرجة الدكتوراه مثلاً).
أشهر كتب النحو:
وكتب علم النحو كثيرة جداً متنوعة متعددة، وبعضها ـ وهو الأكثر ـ نثر، وبعضها الآخر شعر.
ومن تلك الكتب: (الكتاب) لسيبويه، و(التصريف الملوكي) و(المنصف) وهما لابن جني، و(المفصل) للزمخشري و(الإنصاف في مسائل الخلاف) و(لمع الأدلة) وهما لكمال الدين الأنباري، و(ألفية ابن مالك) وشرحها و(كتابه شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح)، و(شرح شذور الذهب) لابن هشام.
ومن آخر ماكتب في النحو (جامع الدروس العربية) للأستاذ الغلايينى.
قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: إن الرجل ليكلمني في الحاجة يستوجبها، فيلحن فأرده عنها، وكأني أقضم حب الرمان الحامض لبغضي استماع اللحن، ويكلمني آخر في الحاجة لايستوجبها، فيعرب فأجيبه إليها، إلتذاذاً لما أسمع من كلامه.
يمكنك تحميل الرابط التالي:
الإقتراح في علم أصول النحو