** متى يجبُ الصبرُ ...؟! على أيَّ شئٍ يكونُ ...؟! و متى يُسمَّى الصبرُ صبراً ... ؟
*** الصَّبرُ من الرسائلِ الإيمانيَّة التي تحملُها لنا سورةُ الكهف حيثُ يطرحُ اللهُ - سبحانه - المواضع الأوجبُ للصبرِ والأحقُّ به ... وهي المواضعُ التي تُختبرُ فيها قُوى اليقينِ الإيمانيّة ...
الأولُ : الصَّبرُ على الدعوة في سبيل الله تعالى ... الصبر على الفتنة التي تواجِه أصحابَ الرسالات والدُّعاةِ في سبيلِ نشر العقيدة والدعوة إلى الحقّ ... هذه الفتنةُ التي تُوجبُ الصَّبرَ وتستلزمُه تتمثّلُ في القدرة على تمحيص أنماطِ النّاس واستغوار نفوسهم ومعادِنهم الحقيقيّة دونَ تأثّر أو اغترارٍ بظاهرِهم الذي قد لا يُماثلُ حقيقتَهم ولا يدلُّ عليها ... !
يأمرُ اللهُ - سبحانه - رسوله الكريمَ - صلّى اللهُ عليه وسلّم - بهذا النوع وهذه الرّتبة من الصّبر في قولِه - في سورة الكهفِ - :
واصْبِرْ نفسَكَ مع الذين يَدْعُونَ ربَّهُم بالغَدَاةِ والعَشِيِّ يُريدُونَ وجهَهُ ولاتَعدُ عيناكَ عنهُم تريدُ زينةَ الحياةِ الدُّنيا ولا تُطِعْ منْ أغْفَلْنَا قلْبَه عن ذكرِنا واتَّبعَ هواهُ وكانَ أمرُهُ فُرُطَا 28 "
*** يؤسّسُ اللهُ في هذا الخطاب المُوجّه للرسولِ الكريمِ - ولنا مفهوماً وتعريفَاً للصبرِ يدعونَا لتمثّلِه في نفوسِنا وضمائرِنا ... يدعونا للاعتداد به واعتبارِه أوّل ما يستحقُّ من الصّبرِ أنْ يُسمّى صبرا ... وأولُ ما يستحقُ أن نعتبره جهادا للنفسِ في سبيلِ دعوة الحقّ ...
*** يأمرُ اللهُ نبيّه الكريم - ويأمُرنا من خلالِه - بالصبرِ في ملازمةِ الصادقين في إيمانِهم وتقواهم الذين يدورون في فلكِ اللهِ - بالغداةِ والعشيِّ - ويجعلونَ من الغَداةِ والعَشيّ فَلكاً زمنيَّا يتوجَّهونَ فيه إلى اللهِ ... حبَّا في اللهِ لا لسؤالِ الله شيئاً من متاعِ الحياة الدنيا ، فهم يُريدون وجهه ...
في مقابلِ هذا يأمرُ اللهُ نبيّه الكريمَ ألاَّ يغترَّ بالباذخة مكانتُهُم ... وهُم الوجهاءُ والسّادةُ والأشرافُ الذين تتقدّمهم زينتُهم الطَّاغية والذين أغفلتهم زينةُ الحياة الدنيا عن خالق الزينة واتّبعوا هواهم وأمّارَتَهم بالسُّوءِ فجزاهُم اللهُ بأنْ أمدّهم في غفلتهم وختمَ على قلوبهم ...
وهكذا يكونُ الموضعُ الأولُ المُوجبُ للصَّبرِ موضعا يُهذِّبُ به اللهُ النفسَ الإنسانية في مجالِ الدعوة إليه ، كما يضعُ لها قانوناً نبراسيَّا تهتدي به في مجال المعاملات و يمكِّنها من تمحيصِ الغثّ من السمين من النّاس والحكم عليهم ... هذا القانونُ أو المقياسُ هو المرتبةُ في التقوى وليس المرتبة في المجتمع أو في المالِ أو الجمالِ ... أو غير ذلك ... ، بما يتّسقُ مع قولِه سبحانه : " إنّ أكرمكُم عند اللهِ أتقَاكُم "
*** الموضعُ الثَّاني للصبرِ في السورة الكريمة هو :
الصَّبرُ على الحكمة الإلهية الخافية قياساً على حكتِه البادِية ...
يريدُ اللهُ من عباده المؤمنين أنْ يزدادوا إيمانا ... ولن يزدادوا إيماناً إلاَّ بأنْ يبلغوا اليقينَ ... , و لنْ يبلُغُوا اليقينَ حتّى يكونَ تسليمُهُم واطمئنانهم إلى حكمة اللهِ الخافية في مرتبةِ تسليمهم واطمئنانِهم إلى حكمته الظّاهرة ...
***هذه الدرجةُ من الإيمانِ الوثوقي بالله هو ما يوجّهنُا إليه اللهُ - سبحانه - من خلالِ قصة موسى - عليه السلام - مع العبدِ الصَّالح ... هذه القصة التي كان الصَّبرُ محورُها وبطلُها الأساسُ وشخصيتها الرئيسة الطاغيةُ على الأحداث ...
*** الصبرُ هو العنصرُ البارزُ في هذه القصة ؛ فقد كانَ الشرطُ الأوحيد الذي اشترطه العبدُ الصالحُ على موسى لاصطحابه : التزام الصبر ... الصبرُ على ماذا ؟ على المغلقِ المجهول ... الصبرِ على المُعمَّى الذي لا تبدو له حكمةٌ واسبابٌ ظاهرة تقنعُ به وتفسّر للنفس حدوثه ... يقولُ تعالى : - سورة الكهف -
" فوجدَ عبداً من عبادِنا آتيناهُ رحمةً من عندِنا وعلَّمناهُ من لَدُّنَّا عِلماَ 65" قالَ لهُ موسى هلْ أتَّبِعُكَ على أنْ تُعَلِّمَني ممَّا عُلِّمتَ رُشداَ 66 " قالَ إنَّكَ لنْ تستطيعَ معيَ صَبراَ 67" وكيفَ تصبرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بهِ خُبْرَا 68" قالَ ستَجِدُني إنْ شاءَ اللهُ صابِراَ ولنْ أعصِي لكَ أَمراَ 69" قالَ فإنْ اتَّبعتَنِي فلاَ تسأَلنِي عنْ شئٍ حتّى أُحدِثَ لكَ منهُ ذِكْرا 70" ...
وردت مفردةُ الصبر في الآياتِ السَّابقة ثلاثَ مرَّاتٍ ... في صورة المصدر: " الصبر" ... والفعل : " تصبر " ... واسم الفاعل : " صابِرا " بما يؤكّد أنّ للصبرِ دورُ البطولة في هذه القصّة وأنّه الدرسُ التهذيبي وأنّه جدارٌ أساسيٌّ في بناية الإيمان يوجّهنا اللهُ إليه ...
*** اصطحبَ العبدُ الصَّالح النبيَّ موسى - عليه السلام - في رحلته - مشترطا عليه أن يصطحبَ معه صبرَه في هذه الرحلة ... ولكنَّ موسى اطَّلعَ على ثلاثةِ أفعالٍ أدَّاها العبدُ الصالح بأمرٍ من ربِّه ... وهذه الأفعالُ الثلاثة تفتقرُ في ظاهرِها إلى الحكمةِ ... بلْ تبدو مستفزّة للعقل والوجدان الإنسانيين معا ... مستفزةً للعقل لأنها لا تقومُ على منطقهِ ...، ومستفزّة للوجدان لأنَّها تُخالفه وتخالفُ هواه ومسيرته ...
** قامَ العبدُ الصالحُ على مرأىً من موسى - عليه السَّلامُ- بخرقِ سفينة قومٍ من المساكين وإتلافها ... ، كما بادرَ بقتلِ غلام صغيرِ السّن دونَ جريرةٍ منه ، ثمَّ نهض ببناءِ جدارٍ قديم آيلٍ للسقوطِ في قريةٍ أهلُها أشحَّاءٌ أبوَا أنْ يُضيِّفوا العبد الصالح وموسى رغم كونهما غرباء ...؟!
*** الأفعالُ الثلاثُة تخالفُ المنطقَ وتخالفُ الحكمة التي توجبُ وضعَ الخير ووضعَ الشَّرّ كلٍّ في مكانه ... وتخالفُ الحكمة التي لها منطقٌ ومسيرةٌ معروفة لدى الفطرة في كيفية الإثابة والعقابِ ... وأنّ جزاء الحسنة الحسنةُ مثلُها وجزاء السيّئة السيّئةُ ... فكيفُ بأفعالِ العبد الصالح ... وما موقعُها من منطق الفطرة والحكمة الخيّرة ؟!
## هذا هو الدرسُ الإيمانيّ الذي يريدُ اللهُ من عبادِه تدبُّره ... وهذه هي المرتبة الشامخةُ من الإيمانِ التي يريد اللهُ من المؤمنين بلوغَها : مرتبةُ التَّسليمُ لله ... مرتبةُ الوثوقِ بحكمتهِ الخافية قياسا على حكمته البادية ...مرتبةِ اليقينِ المطلقِ بأنَّ الله - سبحانه - خيرٌ - لا يصدرُ عنه - ومنه -إلاَّ الخير ... ولا يريدُ لعباده إلاَّ الخير ... وهو غنيٌّ عمّا في يدِ عباده من خيرٍ ...
*** تكشَّفت حكمةُ الأفعالِ الثلاث لموسى عليه السَّلام ... تبدَّى لهُ أنَّ ما قد يكونُ ظاهره الشرّ من أقضية الله وأقداره إنّما هو الخيرُ بعينه ... ، فقد كان خرقُ سفينةِ المساكينِ لإلحاقِ العيبِ بها والحفاظِ عليها من ملكٍ غاصبٍ يقهرُ الضعفاءَ المساكين ويستوليَ على ممتلكاتِهم ، فكانَ خرقُها خلاصُها من يدِه ...
*** كذلك كان قتلُ الغلام بما يعني إزهاقَ نفسٍ زكيّةٍ بغير نفسٍ ... كان إنجاءً لوالديه المؤمنين ممّا سيصدر من هذا الغلامِ في غده من إرهاقٍ لوالديه بالكفر والطّغيان ... فكانَ موتُه إحياءً لإيمانهما ونجاةً له من فتنة هذا الولد ...
*** أمَّا الجدارُ فكانَ بناؤه حفاظاً على كنزِ غلامين يتيمين ضعيفينِ إلى أنْ يبلغَا الرشدَ ويهديهما ربُّهما إلى كنزهِما ... إذن لم يكن بناؤُه إكراما لأشحَّاء القرية، بل رعاية وحدبَا إلهيَّا على حقِّ المستضعَفين ...
### صوّر اللهُ سبحانه نفاذَ الصَّبر الإنساني وتناقصَه في مواجهة الحكمة الخافية من خلال تناقصِ حروف الفعل " تستطيع " المنسوبِ إلى " موسى "- عليه السلام "- فقد ورد على النحو التّالي في خطابِ العبد الصالح لموسى :
1 - "قالَ ألمْ أقلْ إنَّكَ لنْ تستطيعَ معيَ صبرا" الآية 72 )
2 - " "قالَ ألمْ أقلْ لكَ إنَّكَ لنْ تستطيعَ معيَ صبرا" 75 )
3 -" قالَ هذا فراقٌ بيني وبينَكَ سأُنبّئكَ بتأويلِ ما لمْ تستطِعْ عليه صبراَ " 78)
4 -" ... ذلكَ تأويلُ مَا لمْ تسطِعْ عليه صبرَا 82 )
لقد تناقصت حروف الفعلِ " تستطيع " فتحول إلى " تستطع " ثم إلى " تسطع " فكان في هذا التناقص معبّرا عن تناقص الصبر الإنسانيّ في مواجهة الحكمة الإلهية الخافية في مجاليّ الخير والشرّ ... ومن هنا يوصينا اللهُ - سبحانه -بضرورة ترويض نفوسنا ورياضتها على قبولِ جميع أقضيته وأقداره ... سواءً ما يبدو في ظاهره الخير وما يبدو في ظاهره الشر ... لأنّنا على يقين من أن الله هو الخيرُ فيصبح الصبرُ على معطياتِه لنا من لوازم إيماننا به ... ومن موجبات بلوغِ قممِ اليقين ...
### حين نُطَالعُ حالَ الرسولِ - صلى اللهُ عليه وسلم - في الآياتِ الأولى من سورة الكهف ندرك أن الصبرُ رسالةٌ إلهية أساسُ في هذه السورة الكريمةِ فقد وصفه تعالى بأنه في حالٍ شديدة من الهمّ والحزن لما يلاقي من جفاء وإعراض وغلظةٍ ممّن يدعوهم إلى الإيمانِ إلى حدٍّ أوشك فيه على إهلاكِ ذاته ...
يقولُ تعالى :
" فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نفسَكَ على آَثَارِهِم إنْ لم يُؤمِنوا بهذا الحديثِ أَسَفَاً " الآية 6 ) ...
لقد أهدى اللهُ إلى رسوِله رسائلَ من الصّبر ورسائلَ مفعَمة بالصَّبر يتأسّى بها في هذا الحالِ ويستعيدُ قواهُ وأمَله وعزيمتَه ... أهدى إليه قصصَ الذين كابدوا قبله في سبيل نشر كلمة الله العُليا : فتية الكهف ، ذو القرنين ، العبدُ الصَّالحُ ... وغيرهم ... وطمْأَنَ قلبه بوصف المآلِ المخيف للذين جحدوا الدين وأعرضوا عن الحق وصدّوا عن السبيل ... ودعاهُ - ودعانا - إلى الصبرِ ... الصبرِ على مواجهةِ ما يعترضُه ويوجِعهُ في سبيلِ الله ... والصَّبر على ما ليس له حكمة بادية ظاهرة قياسا على ما لهُ حكمة نُعايُنُها ونتلمّسها ... تماماً مثلما نؤمنُ باللهِ ونحنُ لا نراهُ وكأنَّنا نراهُ ... نراهُ ...
***********************
بقلمِ : جاميليـــــا حفني
مدونة " أدركتُ جلالَ القرآن "
http://greatestqoran.blogspot.com/2012/12/blog-p[/size]ost_14.html