النقـد التّكاملـي وإشكالية تطبيـــقه على الدِّراسات الأدبيّة
بقلم : الأستاذ الباحث: عــامررضــا
إطلع على مواضيعي الأخرى
الأستاذ عــامر رضـــا (أستاذ الأدب العربي الحديث والمـــعاصر)
تكشف هذه المداخلة عن أهميّة النقد التكاملي في تحليل النص الأدبي ،وأهم المشاكل التي تشكو منها المناهج النقدية المعاصرة ،والمنهج التكاملي على وجه الخصوص مع التعرض إلى أزمة هذا المنهج النقدي على مستوى (التنظير)،وعلى مستوى التطبيق على الظاهرة الأدبية،والنتائج التي توصلت لها المداخلة تعطي رؤية نقدية حداثيّة في تناول الظاهرة النقدية في مجال العلوم الإنسانية من خلال عرضها جملة من النقاط التي يجب على الناقد مراعاتها أثناء قيامه بأيّة مغامرة نقدية، وصولا إلى تحقيق تكامل المناهج النقدية فيما بينها، ومن ثم محاولة إبداع نظرية عربية نقدية أصيلة تتناول الظاهرة الأدبية نقدا وتحليلا وهذا من خلال إبراز تظافر الجهود النقدية في هذا الصدد.
*- مـدخــل:
تعدّ الاتجاهات النقديّة وسائل وأدوات مساعدة على سبر أغوار الظاهرة الأدبيّة وليس غاية في حدِّ ذاتها، ففي البدء وجد الخطاب الأدبي ثمّ تلته الممارسة النقدية،التي لازمته وتطورت إلى مدارس نقدية متنوعة سياقية كانت أو نصانية من خلال البحث عن مقصدية الكاتب، واستقصاء تجليات الخطاب الأدبي،واستقراء الظواهر الفنية و الفضاءات النصيّة داخل العمل الأدبي ، لهذا كان فرض أي منهج على خطاب، أو عمل أدبي معين كفيل بتكريس عملية نقدية منحرفة، ولغة تحليلية عقيمة ،فكان النقد التكاملي مغايرا تماما لجلّ المدارس النقدية التي ظهرت على الساحة الأدبية من حيث المعايير النقدية أوالأداء الذي يجمع بين فنيات وآليات عديد المدارس النقدية، واستعاراته لأدواتها النقدية في نقد الظاهرة الأدبية،إذ نجد أن »عمل الناقد يتحدد أساسا في تحرِّي الموضوعية والروح العلمية في التعامل مع الظاهرة الأدبية لأنّه تعامل مع الذات المنتجة وسط بيئة سياسية واجتماعية وتاريخية« (1)
وعليه بات على الدارس النقدي أن يتحرى، ويبحث وسط "النقد التكاملي" عن أنجع الطرق النقدية التي تحقق التكامل المعرفي والتقدي وذلك وفق آليات وأدوات إجرائية تحقق انسجاما نقديا وفنيا وجماليا مع النص الأدبي المراد استنطاقه وتحديد القراءة النقدية المناسبة له، وهذا لن يتحقق إلاّ من خلال الممارسات والتجارب النقدية المتواصلة التى يكتسبها الناقد من خلال تمرّسه على مختلف النصوص الأدبية الشعرية أوالسردية.
وقد وجدنا أنّ "النقد التكاملي" كان من بين مجموع الاتجاهات النقدية التي تعرضت للنقد الشديد رغم محاولة العديد من الباحثين حاليا الدفع به إلى الساحة النقدية رغبة منهم في الخلاص من ظاهرة "أحاديةالرؤية النقدية" التي اتسم بها نقدنا العربي طيلة فترة زمنية طويلة من جهة،وعدم والتمرس الجاد في تحديد الآليات الإجرائية للممارسة النقدية الجادة لهذا النقد الجديد من جهة أخرى، كما ينبغي لنا أن نشير هنا صراحة في هذا المجال أنّ النقد التكاملي يستفيد باستمرارمن جلّ المدارس النقدية أثناء الدّراسات التحليلية،ومع ذلك تبقى هذه المحاولات عقيمة،وغير جادة إذا كان الناقد غير ملم بأدوات وأساليب التحليل النقدي خاصة المعايير والظوبط الخاصة بتلك المناهج والتي تصب في دائرة بحث النقد التكاملي.
1- واقع النــقد التكاملي في مـيزان النقد الأدبي:
وقع الكثير من الباحثين في أخطاء كبيرة عندما افترضوا أن الإنسان في التاريخ القديم كان عاجزاً عن استخدام التفكير العلمي ، وأن المنهج العلمي بدأ مع "فرانسيس بيكون" في أواخر القرن السادس للميلاد ،إن الآثار الباقية من الحضارات القديمة في بلاد ما بين النهرين ووادي النيل والصين والهند واليونان تشير إلى انجازات متطورة جداً اعتمدت بالتأكيد على درجة متقدمة من التفكير العلمي، كما أن البحث وما يرافقه من نتاج فكري وعلمي يعود تاريخه إلى حضارات البابليين والمصريين القدماء، حيث برع هؤلاء في علوم الطب والهندسة والفلك والزراعة والفيزياء والجغرافية بشكل متطور ومتقدم، وقد اعتمد الفلاسفة اليونان اعتماداً كبيراً على التأمل والعقل، ووضعوا قواعد المنهج القياسي والاستدلالي، ودعوا إلى الاستعانة بأسلوب الملاحظة، وتشير الكتب المقدسة للأديان القديمة إلى جوانب عديدة من التفكير الذي يتطلب اكتساب الخبرة ، والتجربة العلمية ، والاستدلال المنطقي الذي يستخدمه أبناء هذا العصر.
لا شك أن العمل الأدبي يساهم في تأسيس لغته أومادته الواصفة، وتطوير صيغة نقدية ذات طابع خاص، وذلك تبعا لما ينفرد به من أرضية واقعية فنية، يجب اعتبارها عند النقد والدراسة، ومن ثم فإن أي عمل أدبي عربي تمتزج معطياته الأصلية وعناصره المتلاحمة في بوتقة واحدة، من أدب وتاريخ وفكر وعقيدة وغيرها من المكونات الرئيسة التي يكمل بعضها بعضا، كماأنّ أحد أهم أركان القراءة المتميزة والفاعلة والمنتجة المتمثل في مسألة اختيار "المنهج النقدي" المناسب لموضوع الدراسة الأدبية، واعتماد رؤية و قراءة نقدية مؤهلة لمحاورة ومعالجة أعمال أدبية لها واقعية محددة، وطبيعة معينة والأحق بالاعتبار حسب اجتهادنا هو الخطاب الأدبي سواء الشعري منه أم النثري بقيمه التعبيرية والشعورية، لأنه أولا وأخيرا يعد بعضا من النسيج الثقافي والفكري الإنساني.
ولا يسع الناقد حاليا الاستغناء عن المناهج النقدية الموجودة على الساحة النقدية، بل هو بحاجة ماسة إلى منهج أو أكثر ليستهدي بها أثناء التحليل، إذا ما أراد أن يكون عمله جاداً تؤطره نظرية واضحة المعالم، ثم من المؤكد أن يظلّ أي عمل أدبي عربي مغتربا إذا ما تعمد الناقد الأخذ بممارسة نقدية غير سليمة، بل سيتم إلغاء هويته ،وطمس أسئلة الذات الكاتبة والمنتجة له، عندما يصير تباهي الباحث بالمفاهيم والأدوات النقدية حاجزا، يحول بينه وبين الاهتمام بالعمل الإبداعي، والإنصات إلى الأصوات والأصداء المترددة فيه، مما يجعله بعيدا كل البعد عن تقديره حق قدره ، إذن فليس الأدب وثيقة ذات بعد واحد، يزج بها البعض مثلا في معالم التاريخ، أوالاجتماع، ويضعها البعض الآخر من الباحثين في دائرة الفن، أو الفلسفة، أوالعقيدة؛ بل إنّ الأدب حياة متشعبة ومستقاة من واقع الإنسان، ثم إن الأدب العربي جزء من الأدب العالمي، لكن بخصوصيات نقدية ومورفولوجية مختلفة تماما عن الآخر،ولايمكنها بأية حال أن تتجاوب وتنسجم باستمرارمع جميع المناهج النقدية الوافدة من خارج البلاد العربية، علما بأن العمل الأدبي العربي كائن لغوي يأبى أن نختزله داخل الوثائق التاريخية تارة، أوفي وصفه بالوثيقة الاجتماعية أوالنفسية تارة أخرى، إذن فهو أدب يستجيب للدراسة النقدية، بشرط أن ننظر إليه على أنه نتاج أدبي ابن بيئة محددة، وذو أبعاد متنوعة ومستويات مختلفة، وخصائص مركبة لا يستغني بعضها عن بعض.
كما أنّه من الخطأ دراسة العمل الأدبي في ضوء منهج نقدي واحد،إن القصد السليم هو أن لا يتم إخضاع أي خطاب أدبي اعتباطا وبالإكراه لسلطة الأداة النقدية، وأن لا نترك الخطاب الأدبي يهيمن على المنهجية النقدية التي سيعتمدها في ممارسته النقدية، وذلك محاولة منه لإقامة حوار نقدي إبداعي بين العمل الأدبي ومنهج الدراسة والتحليل، باعتبار أن العمل الأدبي كائن لغوي حي، له ظروف معينة وخصائص محددة، ثم إنه تجربة مفتوحة باستمرار من أجل القراءة، والمطلوب هو استكشاف ما يزخر به من حياة داخلية وإبراز فاعليته النقدية،وأنه نص يقبل الحوار النقدي بلا عقد تعيق عملية التلاقح النقدي. إنّ النص الأدبي من حيث هو نص إبداعي ذو بنية فنية محددة، موضوعي في وجوده بالنسبة إلى الناقد، غير أنّ الناقد المتمرس »في موقفه من النص الإبداعي يمكن أن يكون ذا رأي موضوعي، مثلما يمكن أن يكون ذا رأي ذاتي« (2) ،فإذا ما فرض الناقد ذوقه أو أيديولوجيته أومنهجه على ذلك النص، فإن موضوعية رأيه النقدي تبدو مشكوكاً فيها أحيانا،وتنقصها الروح العلمية أما إذا تعامل مع النص من منظورنصانيته، فإن إمكانية اتصاف رأيه النقدي بالموضوعية تغدوكبيرة، خاصة إذا تعاطي بشكل منطقي مع الظاهرة الأدبية وفسرها وحللها وفق رؤية نقدية تحترم كلّ القواعد المنهجية والمعنوية للمدرسة النقدية والنص المنقود.
1-1.الظـروف التاريخية في نشأة النقد التكاملي:
عرف النقد العربي في القرن العشرين بروز العديد من المدارس النقدية الغربية التي تأثر بها نقادنا،وحاولوا تطبيقها على الظاهرة الأدبية، فكانت هذه المناهج كلّها تحاكي الغرب في كلّ مفاهيمها النظرية وأدواتها المنهجية الإجرائية التي تبحث في تطبيقاتها كالمنهج التاريخي،والنفسي،والمقارن،والاجتماعي إلاّ أن ذلك لم يُعطِ للدراسات النقدية العربية أثناء معالجتها للظواهر الأدبية نقدا موضوعيا مقبولا من الناحية المنهجية والفكرية،وهذا مايؤكد عليه الباحث "يوسف مراد" عندما» لاحظ أن ثمة منهجين يعتمد عليهما علماء النفس لتفسير السلوك الإنساني هما منهج التفسير التكويني، ومنهج التفسير الشبكي، ورأى عقم المنهجين كلا على حدة في التفسير، وحاول أن يقدم منهجاً آخر جديداً يخلو من عيوبهما فكان المنهج التكاملي « (3) الذي يقدم رؤية تكاملية للدراسات النقدية السالفة للذكر، وأقصى ما يمكن أن نقوم به على صعيد المنهج، هو أن نؤلف من بعض المناهج منهجاً يعكس هويتنا، وهذا ما حصل في أربعينيات القرن الماضي مع مدرسة علم النفس التكاملي، وما يحصل حاضرا في النقد الأدبي ، مع ما اصطلح عليه بـ" النـقد التكامـلي" في حين » أطلق عليه آخرون تسميات أخرى منها النقد المتعدد أو المتكثر و النقد الكلي والنقد الحواري« (4). مع ذلك فقد أولى معظم الباحثين والنقاد العرب والأجانب اهتمامهم بـ"النقد التاريخي" أثناء بدايات دراسة الأدب العربي، باعتباره ظاهرة حضارية لها جذور ونشأة، وتحولات مطردة، تحكمها عوامل وظروف معقدة، وتغذيها سياقات اجتماعية وثقافية، وسياسية، وعقدية وفكرية مختلفة، كذلك المنهج النفسي كان بدوره محط اهتمام بعض النقاد والباحثين، وهو منهج يستطيع أن يغني دراسة الأدب العربي بوجه عام، لكن ثمة من يسرف في اعتماد "النقد النفسي"، فيسقط في كثير من التعليلات والتأويلات المتكلفة، التي يستقيها من "علم النفس" أكثر مما يستخلصها من العمل الأدبي، في حين أن الاعتدال في الدراسة النفسية، يقتضي عدم الخلط بين النقد الأدبي والتحليل النفسي، الذي يجب أن يبقى أداة مساعدة فقط على كشف وتوسيع الآفاق الممكنة في ضوء الإنتاج الأدبي.
كما إنّ مسألة توظيف النقد "النـفسي أوالتاريخي أوالإجتماعي" أمرلا يتعارض وطبيعة سائر الأعمال الأدبية العربية، لكن الاقتصار على منهج واحد أو على عدد من المناهج في معالجة هذا النمط من الكتابة والتعبير،ومحاولة فرضه عنوة هو تقصير وضيق في الأفق النقدي، إذ أنّ الدراسة النقدية لا تقوم فقط على العرض التاريخي، أوبحث التجليات النفسية، أوحتى استقراء العناصر الفنية والقيم التعبيرية والشعورية، بل هي رهينة بتسخير جميع المدارس النقدية المناسبة في تكاملها، وذلك من خلال الاستعانة بأبرز وأهم أدواتها، والاستفادة من أدق أساسياتها قدرالإمكان،أمام تنوع المناهج النقدية المختارة من طرف نقاد الأدب العربي والباحثين فيه.
نعتقد في هذا الصدد أن الحسم في مسألة اختيار المنهج المناسب لدراسة ونقد أي عمل أدبي عربي، يقتضي العودة إلى ما يتمثل فيه من خطاب، وذلك لضبط أهم مرتكزاته، وهذه العودة من شأنها أن تساعد الناقد الجاد على تحديد دعائم المنهج النقدي الملائم، الذي بإمكانه أن يفي بممارسة نقدية علمية، مستوحاة أصلا من طبيعة العمل الأدبي،ولا شك أن الرأي سيستقر بالناقد المتبصر في نهاية المطاف النظري على توظيف منهج نقدي مركب ومتكامل، أوما تم الإصطلاح عليه بالمنهج النقدي التكاملي، الذي يرتكز على رؤية نقدية واسعة وشاملة إلى حد ما، إيمانا من معتمديه في مقارباتهم للأعمال الأدبية العربية، بضرورة الاستفادة من مناهج نقدية مختلفة في نقد ودراسة عمل أدبي عربي معين.
إنّ منطلق النقد الأدبي هو محاولة إنجاز قراءة دقيقة، يطرح ناقد الأدب في مختلف أطوارها العملية أسئلة جد مركزة، بهدف أن يفتح بها آفاقا جديدة وفضاءات مغمورة في أجواء ممارسته النقدية، مستعينا بخلاصة ما انتهى إليه من قراءات نقدية منهجية، فالمنهج النقدي مثل الأدب، يرتكز بدوره على خبرات مكتسبة، وقد تحدث عدد من النقاد والباحثين كثيرا عن الاتجاه النقدي التكاملي، ونذكر من بينهم على سبيل المثال:"سيّد قطب، وأحمد كمال زكي، وشكري فيصل، وشوقي ضيف، وعبد المنعم خفاجي، وجورج طرابيشي، ويوسف الشاروني، وعمر محمد الطالب وعبد القادر القط،وإبراهيم عبد الرحمن "،وغيرهم، كما أنّ هناك عديد الأطروحات الأكاديمية التي استعانت أو تناولت النقد التكاملي بالدراسة و التطبيق، فهذا المنهج النقدي هوأداة تستقي قوتها من ممارسة نقدية مركبة، تجمع بين المعطيات الفنية والتاريخية، والأبعاد النفسية، والاجتماعية، أما الشرط الوحيد في بناء هذا المنهج النقدي، فهو الارتكازعلى رؤية نقدية شمولية واحدة، والأخذ بكل أداة منهجية صغرى تستجيب لهذه الرؤية وتوظيفها.
يعدّ النقد التكاملي من بين المناهج السِّياقية الهامة التي عاد إليها النقاد وأصبحوا يستخدمونها لأنّها أقلّ سلطة وأخفّ وقعاً على النص الأدبي، وهي تسهم إلى حدّ بعيد في تعميق فهم القارئ للنص من خلال فتح حوار تفاعلي بين النص والقارئ، فيستطيع الأخير أن يتعرّف النص، ويكتشف كنوزه وخباياه وأسراره وطبيعة علاقاته، ولعلّ أهمّ شيء ينبغي أن يكون عليه الباحث هو الإلمام الكامل بكلّ حيثيات واستراتجيات جميع المناهج النقدية،ومن ثمة التسلح بمصطلحاتها وأدواتها الإجرائية قبل مقاربة النص الأدبي فالمقروئية النقدية اليوم تقدم للقارئ المعاصر مناهج مختلفة سياقية، ونصانية ، وعليه يجب التمكن فنيا ومنهجيا أثناء التحليل والكشف لكلّ تلك المنطلقات الفلسفية والنقدية التى تصاحب المنهج المراد تطبيقه على النص الأدبي، إذ تحاول تلك » الاتجاهات النقدية الجديدة النظر في المؤثرات النصّية السابقة على النص« (5) .
وإذا كانت اتجاهات النقد العربي قديمها وجديديها تتفاوت في محاكاة نموذج النقد الغربي بكل صورها النظرية والتطبيقية » اقترابا وابتعادا، انقياداواستيحاء، متابعة ولهاثا، فإنّ هذه الاتجاهات تظل متأثرة تأثرا يأخذ شكل الإنصات السلبي والتبني الجاهز«(6) ومن هنا تبقى آراء نقادنا مجرد صدى وتردادا لتلك النغمات النقدية التي يقوم الأخر بعزفها على سيمفونية الآلة النقدية ،في حين يرددها الناقد العربي ويحاول أن يؤسس لها مناخا ترتكز عليه وأنصارا ينتصرون لفكرة الغيرعلى حساب النقد والنص العربي» على أنّ الأصل الأصيل لمناهج البحث الأدبي هو وحدة الحضارة الإنسانية فكل عناصرها الطبيعية والاجتماعية والسياسية متشابكة متفاعلة لا يستقل أحدهما بالحياة منفردا ،وإنما يتصل بسائرها مؤثرا ومتأثرا فإذا أردنا دراسة الأدب كان علينا – منهجيا- أن نلاحظ آثار تلك العناصر في صياغته وتطوره« (7).
1-2.ظاهـرة صراع الاتجاهات النقدية: في ضوء الواقع النقدي، وصراع المدارس النقدية المختلفة نرى أن هناك مشكلة كبرى تتمثل في عدم تحديد المنهاج النقدي والمصطلح والآليات الإجرائية المستعملة في عملية النقد،ومن ثم في بناء نظرية نقدية عربية أصيلة يتفق عليها جميع النقاد المغاربة والمشارقة، فحالة الضعف التي نعيشها على عدد من الصُّعُد تؤكد تبعية التجدد والابتكار في الثقافة عامة والأدب والنقد خاصة، والمثقف الناقد القارئ المدقق هو من يصنع الفكر أمّا ما نراه على ساحة الأدب والنقد فهناك أشكال غير قليلة انتهت إلى الاستلاب الإرادي والثقافي، وإلى بلبلة فكرية وسياسية ودينية وقومية، فكلما اخترع الغرب مصطلحاً ما أو منهجاً أو آليات نقدية ماطفقنا ننتصر لـكلّ ذلك،دون مراعاة لطبيعة أدبنا وخصوصية مجتمعاتنا،ونوظف بنهم المولع بثقافة الغالب كلّ تلك المعايير والقواعد النقدية، وأثناء ذلك نمارس تبعيتنا بلذة مغرية، وشرعنا نعيب على نقادنا القدامى تقصيرهم عما وصلت إليه حركة النقد الحديثة بل كلما ظهرت في الغرب مفاهيم جديدة أقلع نقادنا المحدثون عن السابقة وألغوا ما قاموا به، صحيح إن المقاييس الغربية ـ حتى إن فُهمت أحسن فهم وأصحه ـ لن ينتج تطبيقها على الأدب العربي خيراً،ومنه حاولنا حصر ظاهرة صراع اتجاهات النقد العربي في الآتي:
1- ظاهرة صراع الاتجاهات النقدية ظاهرة صحية في النقد العربي خاصة أثناء دراسة الظاهرة الأدبية التي لاتختص بمنهج واحد دون غيره بل تسعى إلى الإحاطة التامة بعديد المدارس النقدية.
2- مسألة الصراع المنهجي والفلسفي داخل مضامين المدارس النقدية يصنعها النقاد أنفسهم ضمن كليات النقد، ومنطلقاته وجمالياته التي تبحث عن التأسيس المطلق.
3-عدم تحديد الأطر والأدوات الإجرائية بشكل تقني ومنهجي يخلق الصراع النقدي ولوكان بسيطا، وهذا على حساب النقد والناقد اللذين يعالجان الظاهرة الأدبية بشكل تدريجي.
4-عدم الفهم السليم للمدرسة النقدية التي يستعملها الناقد في دراسة الظاهرة الأدبية يعجّل بالصراعات النقدية التي لا يبشر بها النقد العربي.
5- عدم وضع الحدود الموضوعية والتقنية والمعرفية يذكي نار الصراع بين المدارس النقدية والمنتصرين لها.
1-3. ظاهرة التـكامل بين الاتجاهات النقدية:
تظلّ عملية القراءة النقدية الواعية مفتاحا إجرائيا للولوج إلى المناهج النقدية والأدبية مجتمعة أو منفردة، وعلى تقنياتها؛ فتبيح الشمولية والموازنة والمقارنة، وبهذا آثرناها ليس باعتبارها محطة نقدية،وإنّما باعتبارها طريقة فنية تؤدي إلى تأسيس منهج نقدي عربي تكاملي أصيل غيرمعزول عن المناهج النقدية والأدبية الغربية؛ وعن العلوم المساعدة الأخرى ، إذ تعمل على» افتتاح فضاء للخطاب النقديّ يتسع للحوار، وبالحوار بين تيارات الخطاب العربيّ واتجاهاته وميوله«(8)، وهذا يتضح في انفتاح المناهج النقدية التي يكمل بعضها الآخر خاصة في الفكر المنطقي والرؤية التحليلية.
وهكذا تحمل جيل النقاد في فترة العشرينيات من القرن الماضي هاجس الاهتمام بالنقد التكاملي، ومحاولة الدعوة إليه وتطبيقه على النص الأدبي،عندما تأكدت لديهم رغبة تعصب الناقد العربي الذي يفرض مقاييسه على النص فرضاً، وإن كانت طبيعة النص تخالف هذه المقاييس ،فإنّ بعض النقاد وجدوا فرصة حقيقية مناسبة ليحكموا على النص بالرداءة، وقريب من هذا الشأن مافعله بعض نقادنا القدامى عندما يتحدّثون عن مصطلح الوحدة العضوية في الشعر العربي القديم، إذ استعاروا مصطلحاً نقديّاً يخصّ عصراً وجنساً أدبيّاً محدّداً، وحولوا إسقاطها على نصوص معلقات الجاهلية لتتقبّل هذا المصطلح ،ولذلك فإنّ كثيراً من النقاد لم يتركوا فرصة للنص للتنفّس الصّحّي، في محاولة للارتقاء بالأثر النقدي إلى مرتبة (نص إبداعي) دون مصادرة جهد الرواد والاتجاهات التالية، أو الاستخفاف بهما وإن تشابكت أحياناً المناهج أو احتدم النقاش تحيزاً لها ودفاعاً عنها، حتى تتأكد لنا"المنهجيات" وتتأصل في التطبيق، وفق آلية واضحة، وإجرائيات ملموسة، وفي هذا الصدد نجد "إحسان عباس" يرى أنّ » النقد لا يقاس دائماً بمقياس الصحة أو الملاءمة للتطبيق، وإنما يقاس بمدى التكامل في منهج صاحبه«(09).
تتأتّى أهمية التكامل بين المناهج النقدية من كونها الوسيلة القادرة على تنظيم البحث النقدي من خلال إجراءات محددة ،ووفق طرائق خاصة، ولا يسع الناقد الاستغناء عن هذه المناهج حاضرة أو غائبة فهي بحاجة ماسة إلى » منهج أو أكثر ليستهدي به، إذا ما أراد أن يكون عمله جاداً تؤطره نظرية واضحة«(10) وخاصة إذا كان العمل المقدم أكاديميا فإنّه يستدعي أكثر من منهج نقدي ليؤسس ظاهرة التكامل المنهجي والمعرفي بين آلية التنظير والتطبيق على النص الأدبي،ومن هنا نجد أن النقاد حين يخوضون غمار النقد فهم يجمعون بطريقة أو بأخرى بين النقد المعياري والسياقي والنصاني بدقة متناهية بشكل غريب ،وبهذا تتم معهم عملية الازدواجية المعرفية للباحث والمبدع على حد سواء لتنبني أسس التكامل بين حلقات النقد القديم والحديث والمعاصر.
كما أن النقد التكاملي يحقق نوعا من الانسجام والاتساق المعرفي والمنهجي أثناء عملية النقد التي تتأسس تدريجيا انطلاقا من الرؤية النقدية الواعية بمسلمات الأدوات النقدية وعلاقتها بالنص الواقع تحت تلك السلطة، وينبغي أن نعيَ جيّدا أهمية المنهج النقدي التكاملي في دراسة الظاهرة الأدبية من خلال جملة من الخصائص النقدية هي كالآتي:
*- يساعد النقد التكاملي الباحث على الإفادة من تنوع المناهج في الدراسة العلمية .
*- يبرز النقد التكاملي وحدة العلم ويتيح للباحث الرؤية الكلية .
*- يساعد النقد التكاملي على تنمية مهارات التفكيرالمتعددة لدى الباحث.
وعليه أصبحت القراءة النقدية في ظلّ النقد التكاملي بديلاً عن النقد أحادي المنهج الذي يسلط نوعا من التعسف المنهجي والنقدي على النص، فلكي تتمّ القراءة التكاملية لابدّ من حضور طرفيها (النص- الناقد) حضوراً حواريّاً تفاعليّاً، ولايتمّ هذا الحضور إلاّ إذا كان الطرف الأول (النّص) ثريّاً، وكان الطرف الثاني(الناقد) ملما، بكلّ حيثيات النقد ومدارسه النقدية وتفرعاته المنهجية والإيديولوجية أثناء الدراسة، وهذا لايتأتى إلاّ بالتسلح المستمر بالأدوات والآليات الإجرائية التي تساهم في تفعيل عملية القراءة النقدية وتسهيل تواصل "النقد التكاملي" بكلّ المدارس النقدية والاستفادة منها بطريقة تجعل من العملية النقدية مرنة وسلسة دون إفراط ولاتفريط.
2-إشكالية تطـبيق النقد التكاملي على النص الأدبي:
إنّ المشكلة الأولى في بعض المناهج تكمن في انطلاق هذه الاتجاهات من النسق الفلسفي العام للناقد أو الباحث، بحيث يبدو المنهج تحقيقاً لمقولة فلسفية ناجزة سلفاً، وهوما يعني الإخلاص لتلك المقولة، لا للظاهرة المدروسة، بهدف » إثبات أن الفلسفة قد انتقلت من مرحلة التأمل النظري إلى مرحلة العلم «(11)، وهذا الرأي في الحقيقة فيه إجحاف وتقصير كبيرين من الناحية النظرية ،حيث نجد أنّ المدارس النقدية لا تغدو علمية إلا إذا انطلقت من الظواهر،لامن المنطلقات الفلسفية العامة ، إذ أن علمية المنهج تتأسس على وعي الظاهرة وعياً دقيقاً وشاملاً، ولا تتأسس على الاتساق مع النسق الفلسفي الناجز.
في حقيقة الأمرأن من يتتبع تطبيقات النقد العربي الحديث في مناهجه المتعددة، ولا سيما مناهج الألسنيات على اختلافها يجد أن ثمة إحساساً يراوده أو يخلص إليه، مؤداه أنها تطبيقات أقرب إلى التجريب المنهجي منها إلى الالتزام المنهجي،كما يعدّ الإجراء النقدي نقل للمنهج من مستوى التنظير العام إلى مستوى التطبيق الخاص أو مستوى الممارسة وهذه الممارسة الإجرائية غالباً ما تختلف بين ناقد وآخر حتى في نطاق المنهج الواحد وفريق العمل الواحد، وإذا كنا نحسب أن المنهج كينونة محايدة وموضعية مطلقة خارج ممارسته، فذلك تصور مسبق أخرجناه من مجال الأيديولوجية إلى مجال المعرفة.
لقد تبين لنا حتى الآن أن من أهم سمات التكاملية الاعتراف بوجود الكثرة المتجاورة الساعية نحوالتفاهم والائتلاف والتلاحم بواسطة الحوار فالتعددية ضرورية ومفيدة للحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية، و الدراسات النقدية المختلفة والمتناقضة القائمة لايمكنها تشكيل منهج،ولا تأسيس فهم متسق للظواهر، و عليه يتوجب إعادة النظر في مضمون الأدوات المعرفية، إذا ما أردنا أن نؤسس "للـنقد التكاملي".
فمادام هذا "النـقد" يقوم على التركيب فيما بين أدوات المناهج الأخرى، لا بد له من أن يعيد النظر في تلك الأدوات الإجرائية من جهة حتى لايقع في التناقض العلمي والمعرفي والمنهجي، ومن جهة ثانية فإن المدارس النقدية لا تتبلور بالتنظير فحسب بل إنها تتبلور أيضاً بالإجراء التطبيقي على الظواهر المعنية، لهذا نشير صراحة إلى أن الإجراء النقدي هو نقل المنهج من مستوى التنظير العام إلى مستوى التطبيق الخاص أومستوى الممارسة، وهذه الممارسة الإجرائية غالباً ما تختلف بين ناقد وآخر حتى في نطاق المنهج الواحد، فالتطبيق هو المحك الأول والأخير الذي يؤكد مصداقية التنظير أوعدمها، أو لنقل إن التطبيق قد يعدّل أو يغير أو يضيف أو يحذف أو يوسّع أو يضيّق ماقد طرحه التنظير، وإن عودة إلى تاريخ أي منهج نقدي.
2-1.إشكالية التنـظير للنقد التـكاملي: في الحقيقة إنّ الكلمة الفصل في موضوع المنهج النقدي المناسب لنقد الأعمال الأدبية العربية، هي أن هذه الأعمال تمثل أولا وأخيرا النبع الذي تنبجس منه مناهج دراستها والبوابة التي تمكن من النفاذ إلى جوهرها، وحسب ذلك لن يستطيع أي منهج نقدي بمفرده أن يوفي توظيفه معالجة شاملة ودقيقة لأي عمل أدبي عربي، لأن الناقد سينظر من خلاله إلى هذا العمل نظرة جزئية، في حين سيهمل الجوانب الأخرى، خاصة إذا استحضرنا في الأذهان ما للأدب العربي قديمه،وحديثه من امتداد في الزمن وسعة في المكان،وقد كان الباحث "نعيم اليافي" أوائل النقاد المنظرين للنقد التكاملي إذ حدد خمس مفاتيح إجرائية بنى عليها نظريته في النقد التكاملي قائلا: »بينت في دراستي السابقة أن للمنهج خمسة مفاتيح يتلامح فيها هي:الموسوعية والانتقائية والانفتاحية والتركيبية والنصية« (12) غير أن قضية التنظير للنقد التكاملي جعلت من آراء النقاد متباينة جدا أثناء الشروع في النقد التكاملي للظاهرة الأدبية(سردا أوشعرا أومسرحا) بل و معضلة حقيقية تحتاج منا إلى دعائم وركائز سليمة للخوض في هذه المسألة،إنّ أدوات النقد التكاملي غير معروفة،ولم تحدد من طرف المنظرين لهذا المنهج،على صعيد الآليات وحتى التطبيق الذي يشكل بداية أزمة حقيقية للناقد والنص الأدبي على السواء ،ومنه كانت حتى اتجاهات النقاد الإيديولوجية والفلسفية حجرعثرة أمام عملية التنظير الفعلية له،فلوعدنا إلى الأدوات التي يستعين بها الناقد في نقده كما حددها "نعيم اليافي" نجدها موزعة كالآتي:
*-الموسوعية: وهي المظهر الخلاق للتكاملية أوالتعددية، ومن دونها ليس لهما معنى.
*-الانفتاح: نجده يتعلق بذهن الناقد وحالته النفسية بغية انفتاح النص على قبول الإجراء النقدي، وانفتاح الناقد نفسه على قبول مختلف التقنيات النقدية.
*-الانتقائية:هي ضريبة الموسوعية حين تكون ذات معرفة موسوعية فلا بدّ لك أن تنتقي.
*-التركيب: فإنه يعني بناء مجموعة من العناصر منتقاة وفق خطة متصورة ومرسومة لا تتم كيفما اتفق ،إن التركيب صهر للعناصر أو تذويب لإنتاج حالة ثالثة جديدة.
*-النصية:احترام هوية النص والنقد القائم علية دون إفراط ولاتفريط.
وجميع تلك الأدوات عقيمة أمام الظاهرة الأدبية، وحتى الناقد الذي نجده يتجاوزها أو حتى لا يأخذ بها أثناء الممارسة الفعلية للنقد التكاملي لعدم فهمها من جهة ، ونمطية تلك الآليات من جهة ثانية،في حين نجد فريقا آخر يبحث عن أدوات خاصة به للتفرد بها والتميز عن غيره من النقاد المشتغلين في حقل النقد التكاملي ممّا يجعل التكامل بينهم غير ممكن على أرض الواقع النقدي العربي، ناهيك عن التهرب من هذا المنهج وعدم وضوح الرؤية فيه وضبابية مفاهيمه ومصطلحاته التي لم تمكن النقاد من الخوض فيه بيسر وسهولة تامة ،مما دفع بالنقد التكاملي إلى الانزواء والتأزم أمام المناهج النقدية الأخرى التي تفرض نفسها بشكل ملفت للانتباه خاصة أمام وجود بعض النقاد الذين يطربون لها ويمجدونها في كلّ دراسة نقدية أومؤتمر علمي على الصعيدين النظري والتطبيقي،ليتشكل عندهم نوع من الشوفينية المنهجية والنقدية نحوها تدريجيا على حساب النص العربي.
2-2. إشكالية الآليات الإجرائية للنقد التكاملي:
تعدّ إشكالية البحث في الأدوات الإجرائية للنقد الأدبي أزمة معقدة خاصة في النقد التكاملي الذي تختلف فيه الآليات، ولا تتوضح للنقاد المتمرسين في حقل التكاملية رغم بداية هذا النقد في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي مما يجعلنا أمام حيرة علمية ونقدية أثناء "التطبيق والتنظير" له من جديد،وعليه يندمج المستويان معا ليشكلا لنا أزمة نقدية عويصة يستحيل الخروج منها ، أمام معضلات منهجية ونقدية في تناولنا للمناهج الغربية التي تبقى غريبة عن ثقافتنا وعن أدبنا وإبداعاتنا جملة وتفصيلا، في غياب المدارس النقدية العربية وعلاقة ذلك بالنقد التكاملي الذي يبحث عن هوية التأصيل،مع هذا الانحسار النقدي المفروض علينا،ومن هنا نجد أنّ جميع المناهج » قابلة للفاعلية المتفردة، على أن يكون النص الإبداعي الأول هو المنوط به تحديد المنهج القرائي وفي ما تقع عليه شفراته، مع تجاوز تقنية الإحالات في كل منهج على حدة واعتبار الأصل القرائي الأول هو فك الدوال عن مدلولاتها« (13)، وهذا لا ينفي جهود بعض النقاد المحدثين الذين حاولوا إيجاد حلول نقدية آنية في تلك الفترة، إذ طوّروا خطابا نقديا عربيا حديثا-النقد التكاملي- الذي يعتمد على التركيب المتجانس بين التيارات النقدية المختلفة، ومن ثم محاولة دمجها في "التكاملية النقدية" بطرق تعسفية أحيانا دون مراعاة خصوصية تلك الاتجاهات النقدية وآلياتها التي تختلف من مدرسة لأخرى.
أ- على مستوى المنهج(التنظير):
يواجه "النقد التكاملي" حاليا مشكلة تعدد المفاهيم النقدية لهذا المنهج السياقي ومن ثم نجد ّ تباين الخلفيات المنهجية والمنطلقات النظرية خاصة لدى النقاد المشتغلين في حقل هذا المنهج، ومنه تؤدي هذه الاضطرابات المعرفية الفكرية حتما إلى حجب الرؤية الصحيحة والعميقة عن ذهن المتلقي ، والإبحار المتميز في صلب الثقافة النقدية العربية خاصة لنؤكّد على أنّ "النقد التكاملي" حتى يحقق نوعا من الشمولية عليه المرور بمرحلتين أساسيتين هما:
*-المرحلة الأولى:هي مرحلة القراءة الواعية، وهي قراءة تختلف عن قراءة النقاد العادية بانفتاحها الدائم على جلّ الاتجاهات النقدية والاستفادة منها،و يرجع هذا الانفتاح إلى عدة أسباب أهمها أن النص يختلف في تحليليه ونتائج دراسته من نقد لآخر.
*-المرحلة الثانية:هي مرحلة الانتقال من التنظيرإلى مرحلة الدراسة،والتحليل التي تؤسس لرؤية التحليل والمكاشفة الفعلية للنقد المؤسس،والمهم من كل هذا أن النظرية النقدية العربية أصبحت لها أوجه متعددة تجعلها تبحث عن التأسيس لها من خلال المحاولات الجادة على صعيد التنظير للمفاهيم والرؤى المنهجية والفكرية.
ب- على مستوى الأدوات الإجرائية: عملية النقد السليم، هوأن لا يتم إخضاع أي خطاب أدبي اعتباطا وبالإكراه لسلطة الأداة النقدية، وأن لا نترك الخطاب الأدبي يهيمن على المنهجية النقدية التي سيعتمدها في ممارسته النقدية، وذلك محاولة منه لإقامة حوار نقدي إبداعي بين العمل الأدبي ومنهج الدراسة والتحليل، باعتبار أن العمل الأدبي كائن لغوي حي، له ظروف معينة وخصائص محددة، ثم إنه تجربة مفتوحة باستمرار من أجل القراءة، والمطلوب هو استكشاف ما يزخر به من حياة داخلية وإبراز فاعليته، وكذا تعدد الأدوات النقدية المترجمة من المصطلحات الغربية وتعريبها مباشرة دون إخضاعها للهوية الثقافية النقدية العربية، وقابلية النص الأدبي العربي لها أو لا ، مما يزيد في غموض الأدوات الإجرائية التي تبقى عصية مبهمة على الناقد، والمتلقي معا أضف إلى ذلك الفهم الصحيح المؤسس للكيفية السليمة لتطبيق تنلك الآليات على النصوص دون تمييز إذن فكيف لهم بتطبيقها على نصوص عربية تعكس رؤى فكرية معينة، وفلسفات معرفية ما.
*- خاتـمة الدِّراســة :
لقد توصلت المداخلة إلى جملة من النتائج الهامة التي يجب أن يراعيها ناقد النص الأدبي القائم على النقد التكاملي على وجه الخصوص لأنّ جلّ المناهج النقدية على اختلاف مشاربها سعت» إلى التشبه بالعلم واستخدام أدواته والاستفادة من معادلاته وأحكامه وأرقامه في مقابل مجافاة التأثيرات الذوقية وإنكار الرؤية الذاتية«(14)،وعلى العموم فإنّ معظم هذه النتائج النقدية كالآتي:
1- عدم التركيز على منهج نقدي واحد أثناء الدراسة النقدية للظاهرة الأدبية بل يستحسن الاستعانة بمناهج أخرى تساهم بشكل ملحوظ في كشف خبايا الظاهرة الأدبية ومحاولة تحليلها وفق الأطر المناسبة لذلك دون إجحاف.
2- تحقيق نوع من التشاكل النظري والتطبيقي بين جلّ المدارس النقدية التي تسعى إلى التكامل في أصولها الفلسفية والمنهجية خاصة داخل المناهج السياقية التي تضمن هذا التكامل.
3-الخوض في عملية التكامل يستدعي من النقاد التسلح التام بأدوات وآليات نقدية تحقق التكامل دون شرط أو قيد على أن تحدد تلك الأدوات سلفا من أجل المساهمة في هذا المشروع النقدي العربي الأصيل.
4-وقوع نقدنا العربي تحت هيمنة الأحادية النقدية، وكف حركته عن الإبداع لما هو أصيل ومتفرّد ومنطلق من واقع همومنا الثقافية الخاصة ،وطبيعة النّص الإبداعي ،وهذا كلّه من أجل إنهاء الغربة المنهجية التى يحياها نقدنا العربي.
5-كثيرهي المدارس النقدية التي وقعت في إشكالية العجز النقدي للظاهرة الأدبية، وهذا لطبيعة النص الخاصة أو لعدم قدرة المنهج على تفكيك شفرات النص، ومناسبة المنهج النقدي له أثناء عملية التحليل.
6-رغم تباين المناهج النقدية مرفولوجيا و تقنيا إلاّ أنّها تتقاطع في العديد من القضايا التي أثارت فجوات نقدية يصعب إغفالها منا رغم اختلاف العصر النقدي ،وتباين أدوات كل ناقد وتطور الأفاق المعرفية واللّغوية للمبدع والناقد على الوجه الخاص لهذا كانت النصوص المعروضة على الساحة النقدية تلقى ما تلقى من أساليب التشريح ،والتعديل النقدي الذي إما يضيق من حلقة نقدها أو يوسعها أو حتى يخرج بصاحب العمل الإبداعي عن المألوف من الأعمال وهكذا تبقى عملية النقد الأصيل في أخذ ورد بين الناقد والمبدع في ثنائية ضدية.
عموما إنّ المدارس النقدية السياقية أوالنصانية أوالأكاديمية أوالتأثيرية كلّها متكاملة فيما بينها، في حين تبقى الظاهرة الأدبية صعبة المنال تتطلب مفهوما عاليا في الأصول النقدية وقاعدة معرفية مركبة تسمح للناقد بمسح كلّ حواشي النص الموضوع تحت العين الفاحصة عند الناقد الجاد،وهكذا » ثمّة حركة تتمركز حول جوهر العمل الإبداعي،تتجه نحو الاقتراب من بنية النص الأدبي، وقد تتطرف في الاقتراب منه« (15) وعليه تبقى العملية النقدية في أخذ ورد حتى تقف على مداخل ومغاليق الظاهرة الأدبية، كما إن الإجراء النقدي هو نقل المنهج من مستوى التنظير العام إلى مستوى التطبيق الخاص أو مستوى الممارسة،وهذه الممارسة الإجرائية غالباً ما تختلف بين ناقد وآخر حتى في نطاق المنهج الواحد،إذن فالتطبيق النقدي هو المحك الأول والأخير الذي يؤكد مصداقية التنظير أو عدمه، وإن عدنا إلى تاريخ أي منهج نقدي، سوف تؤكد لنا أن ثمة فرقاً كبيراً بين بداياته النظرية ونهاياته التطبيقية بشكل كبير جدا.
الهــوامــش والإحــالات:
(1)- رضا عامر:المناهج النقدية المعاصرة ومشكلاتها(المنهج السيميائي نموذجا)، مجلة الواحات للبحوث والدراسات،غرداية،ع4، مارس2009،ص325. (2)-سعد الدين كليب:النقد التكاملي، مجلة الموقف الأدبي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق- سوريا،ع281، أيلول1994. http://www.awu-dam.org/mokifadaby/281/mokf281-012.htm
(3)- نعيم اليافي:النقد التكاملي حوار الأسئلة والأجوبة،مجلة الموقف الأدبي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق- سوريا،ع-273-274-275 كانون الثاني وشباط وآذار1994.
http://www.awu-dam.org/mokifadaby/273-274-275/mokf273-274-275-013.htm.
(4)- نعيم اليافي:النقد التكاملي حوار الأسئلة والأجوبة،مجلة الموقف الأدبي،
. http://www.awu-dam.org/mokifadaby/273-274-275/mokf273-274-275-013.htm.
(5)- محمّد عزَّام :النَّصُّ الغائب تجلّيات التّناصّ في الشعر العربي ، دراسة من منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق 2001.
http://www.awu-dam.org/book/01/study01/52-m-a/book01-sd001.htm
(6)-صالح هويدي:النقد الأدبي الحديث قضاياه ومناهجه، منشورات جامعة السابع من أبريل، مصر،ط1، ،2004ص 25.
(7)-أحمدالشايب:أصول النقد الأدبي، مكتبة النهضة المصرية،القاهرة،مصر، ط1،1999 ،ص 105.
(8)-مصطفى خضر:النـَّقــد والخطاب محاولة قراءةٍ في مراجعةٍ نقديّة عربيّةٍ معاصرة، دراسة من منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق 2001.
http://www.awu-dam.org/book/01/study01/190-m-h/book01-sd002.htm
(09)-محمد الجزائري:آلة الكلام (النقدية..) دراسات في بنائيّة النص الشعري، دراسة من منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق1999.
http://www.awu-dam.org/book/99/study99/169-m-j/book99-sd002.htm
(10)-مرشد الزبَيدي:اتجاهات نقد الشعر العربي في العراق، دراسة من منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق 1999.
http://www.awu-dam.org/book/99/study99/114-m-z/book99-sd002.htm
(11)-ريشنباخ هانز: نشأة الفلسفة العلمية، ترجمة فؤاد زكريا، المؤسسة العربية، بيروت-لبنان ، ط2،1979، ص12.
(12)- نعيم اليافي:النقد التكاملي حوار الأسئلة والأجوبة،، اتحاد الكتاب العرب، دمشق- سوريا،ع-273-274-275 كانون الثاني وشباط وآذار1994.
http://www.awu-dam.org/mokifadaby/273-274-275/mokf273-274-275-013.htm.
(13)-عزت محمد جاد: نظرية المصطلح النقدي،الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، ط1،2002، ص 312.
(14)-صلاح فضل:مناهج النقد المعاصر، إفريقيا الشرق،الدارالبيضاء، المغرب،ط1،2002، ص152.
(15)- المرجع نفسه،الصفحة نفسها.
نشر في الموقع بتاريخ : الجمعة 6 ربيع الثاني 1432هـ الموافق لـ : 2011-03-11
منقول اصوات الشمال