في كتاب "القصر العاري" يحكي الكاتب "نوصرات بيزيشكا" قصة الرجل الغني الذي كان يشق طريقه عبر الأدغال في إفريقيا، وبرفقته مجموعة من البسطاء يحملون له أمتعته، وقد كان الرجل الغني في عجلة من أمره، حيث كان يسير مواصلاً ليله بنهاره لكي يصل في ثلاثة أيام، وعند طلوع صباح اليوم الثالث وفي وقتٍ أخاذ تدلت فيه خيوط الشمس الساحرة، وتراقصت الأشجار لحظتها على تغريد الطيور، لم يملك مرافقوه حينها إلا أن توقّفوا مع تلك الأجواء الخلابة, رغم إلحاح الغني على مواصلة المسير وتهديده لهم بعدم دفع أجرتهم, ولكنهم لم يعيروه ولا تهديده أي اهتمام, وعندما يئس من إقناعهم سألهم عن سر جلوسهم, فكان الجواب منهم يفيض حكمة ويسمو روعة وجمالاً, عندما قالوا: لقد وصلت أجسادنا ولكن علينا انتظار أرواحنا التي ما زالت في منتصف الطريق!
ومازالت كلمات ذلك الرجل الحكيم ترن في أذني, وتحرك مشاعري, وذلك عندما أنهيت زيارتي له بسرعة معتذرًا بالانشغالات والارتباطات, فقال لي موجها وناصحًا: خالد: تأكد أن كل أهل القبور دفنوا ولم تنقضِ أشغالهم!
للأسف أضحت حياتنا في ركضٍ دائم، جدول حافل بالأعمال ويوم مشبع بالارتباطات, وعقل أنهكته التطلعات, وروح تاهت مع ضغط تراكم الإنجازات, وساعات أثقلتها المواعيد فلا وقت لاسترداد النفس وإراحة الجسد!
فكم من شاب أطلق لساقيه الريح في مضمار العمل ممنيًا نفسه بالمناصب العليا!
وكم من تاجر أفنى العمر يحرس الدرهم والدينار ويجتهد في مضاعفة الثروة!
وكم من امرأة أنكرت ذاتها وأنفقت عمرها كمصب لهموم الغير, ترعى كل من حولها وقد أهملت نفسها!
وسوف يستفيق الثلاثة في صباح يوم قريب وهناك على شاطئ الأيام ستشرق شمس الحقيقة وسيعلمون عندها أن سفينة الحياة قد مخرت عباب الزمن وتركتهم وما انتبه أحد منهم!
المتأمل في حال الناس, يجد أنهم يعيشون لهدفين:
الأول: تحقيق ما يريدون.
الثاني: الاستمتاع به.
والقلة الحكيمة هم من يحققون الهدف الأخير, فنحن نتعامل للأسف مع الحياة بنظام (المحطات), فكثيرًا ما نؤجل لحظات الفرح وأوقات الأنس لمحطة مستقبلية, وهذا أسلوب فظيع وصفه ديل كارنيجي بأنه من أكثر الأشياء مأساوية بقوله: "من الحمق أن نوغل في التفكير في المستقبل وأن يستغرقنا الحلم بحديقة الأزهار السحرية في الأفق البعيد وقد أغمضنا العين عن الاستمتاع بالأزهار المتفتحة على عتبات نوافذ منازلنا".
إنّ العمر قصير والزمن محدود ونحن أحوج ما نحتاج أن نعطي نكهة جميلة عذبة لحياتنا وأن نضيف لكثير من تفاصيل حياتنا قيمة إيجابية ومعنى جميل, كما هي ملعقة السكر وفعلها في كأس الليمون الحامض! وقد عبر عن هذه الفكرة الخلاقة أحد الحكماء بقوله: "من المستحيل أن تضيف أيامًا إلى حياتك, ولكن ما تقدر عليه هو أن تضيف حياة إلى أيامك، ما أروعها من عبارة وأثمنها من نصيحة".
أيها العزيز؛ لا تدع فرصة للاستمتاع بمباهج الحياة, فالسعيد هو الذي يلحظ الأشياء الصغيرة ويستمتع بها كثيرًا!
استرجع شريط ذكرياتك وستجد أن الأشياء البسيطة وليست المناسبات المهمة والأحداث الكبيرة هي التي أبقت أعظم مشاعر سعادة عشتها وما زلت تحتفظ بها!
تأمل في أسرتك؛ صغارك، أصدقاءك، هواياتك، استمتع بالحياة دون أن تفقد نفسك أو تكون خاليًا من الإنجازات!
أبقِ عينيك مفتوحة فلا تغفل عن العطاء ولا تنس الوقوف مع لحظات الأنس وتذوقها باحترافية عالية، واجعل في قلبك مكانًا سريًا, تحتفظ به بأحلامك وتسير نحوها بتأن وروية وستجد أن في تفاصيل الحياة ما لا يحصر من لحظات الأنس والمتعة فاغتنمها واحرص على أن لا تسبق روحك فربما تتباعد المسافة بينكما فتفقدها!
منقول