مدخل لفهم اللسانيات إيبستمولوجيا أولية لمجال علمي علي محمد إسبر
لم يحقق علم اللسان العام استقلاليته الفعلية إلا في النصف الثاني من القرن العشرين ذلك أنّ الدراسات اللسانية افتقرت بادىء الأمر إلى هوية تحددها بوصفها علماً مستقلاً،
غير أن النزعة التركيبية التي وسمت الأبحاث اللغوية استطاعت أن تنهض بالمحاولات المنهجية في هذا المنحى إلى مستوى العلم. والحق يقال إنه لولا الجهود المضنية التي بذلها عالم اللغويات السويسري الشهير فرديناند دي سوسير (1857-1913) لما حظيت أبحاث اللغويات بهذا الاهتمام العالمي المنقطع النظير. ومرد ذلك إلى أن دي سوسير أثار إشكالية فائقة الأهمية بَل حوّل هذه الإشكالية إلى مبدأ أساسي في نظرته إلى اللغة . وهذا المبدأ هو «اللغة نظام لايعرف غير نسقه الخاص به». وبذا أطلق دي سوسير النزعة البنياوية وحققت انتشاراً واسعاً، لكن النزعة البنياوية المعاصرة لم تكن محصلة فقط لآراء دي سوسير، بل ساهم في ذلك ثلاثة علماء لسان من روسيا هم: «س. كارشفسكي»، و« ن.تروبتسكوي» ،و« ر.ياكبسون»، وقد كان لهؤلاء العلماء الأفذاذ قصب السبق في استخدام كلمة «بنية» والدعوة إلى استعمال «منهج صالح للتمكين من اكتشاف قوانين بنية النظم اللغوية وتطورها » هذا إلى أنهم هم الذين قدحوا شرارة دائرة براغ اللغوية سنة 1929 . ولئن كانت النزعة البنياوية في اللغة تحقق نوعاً من التمايز عن الدراسات اللسانية إلا أنها كانت أساس تطورها. والحقيقة أن أغلب الترجمات العربية لكتب اللسانيات متأثّر إلى حد بعيد بالنزعة البنياوية إلا أننا نجد الآن توجهات نحو ترجمات مؤلفات لسانية من اتجاهات أخرى . وعلى أي حال فإن علوم اللسان صارت الآن متنوعة جداً وحتى متباينة من حيث اختلاف النظريات والآراء والمناهج. ومن هنا تأتي أهمية كتاب « روبير مارتان» .«مدخل لفهم اللسانيات» . وآية ذلك أن مارتان يريغ إلى أن يكوّن تصوراً متكاملاً مُتسقاً حول هذا الموضوع معوّلاً في ذلك على خبرته المعرفية وهو أحد أهم أعضاء المعهد الأكاديمي الفرنسي بالإضافة إلى أنه أستاذ اللسانيات العامة واللسانيات الفرنسية في جامعة السوربون.وقد رامَ مارتان أن يستنبط من النظريات المتنوعة في هذا الصدد ما هو ثابت في مقابل المتحول وهذا يتجلى في أمور أساسية مثل: «غاية اللسانيات ، وموضوعها، والقضايا التي تتناولها، والمسالك التي تتوخى لدراسة اللغة والألسن ، وكذلك ما أصبح لهذا الفن من فروع وتطبيقات» . والواقع أن هذه الأمور الاساسية هي التي دفعت المترجم عبد القادر المهيري إلى نقل كتاب مارتان إلى اللغة العربية «علّ القارىء العربي يجد فيه ما يمهّد له معرفة ماهية اللسانيات وقضاياها ومناهجها». وعموماً يهدف مارتان إلى أن يُظهر للقارىء الغايات التي يضعها عالم اللسانيات نصب عينيه أو أصناف الأسئلة التي يثيرها وتقتضي أجوبة معينة حتى لو كانت هذه الأسئلة جدّ عويصة ما يفضي إلى محاولة تبيان مختلف الطرق التي يقصدها اللساني (عالم اللغويات) ليقدم أجوبته المنشودة. وهذا لايعني أن المؤلف تعمد استخدام منهجية لاتتساوق مع قدرات القارىء العادي وإنما أراغَ إلى بسط مفاهيمه بطريقة لابد أن تنسجم مع القارىء الجاد من حيث إمكان فهم المقصود تماماً. ويحاول مارتان أن يقدم فكرة واضحة عن «عُلومية اللسانيات» أي عمّا يتصل بتداخلاتها وأهدافها ومناهجها. ويُعنى مارتان بإظهار أنه لايُقيّض لأي مثقف أن يكون لسانياً وسبب ذلك أن قدرة المرء التي تتجلى في مَلَكَة استعمال اللغة لاتكفي لجعله لسانياً، وقد يكون من الممكن أن يقدر انسان ما على استعمال لسان من الألسن بطريقة نادرة مثل الخطيب المفوّه أو الكاتب الكبير ويمكن له أيضاً أن يتقن عدداً كبيراً من الألسن لكن كل هذا لا يتيح له أن يكون لسانياً. وهنا يثور السؤال التالي: من هو اللساني ؟ والجواب «اللساني هو الذي اكتسب معرفة عن الألسن وعُني بوظيفة اللغة» لكن هذا لايؤول إلى أن اللساني انسان أعلى لأنه كما يؤكد مارتان كلما تقدم الباحث في اللسانيات سوف يدرك مجالات جهله وأنّ معرفته ليست بهذه السعة التي يتخيلها البعض وإنما هي تقتصر على جانب جدّ بسيط. فالمعرفة اللسانية يكتنفها الغموض بل هو جزء منها أو كما يقول النفري: «المعرفة التي مافيها جهل هي جهل ما فيه معرفة». ولاشك أن صعوبة الدراسات اللسانية تعود إلى وجود «آلاف الألسان» التي تحكمها الكثير من الفروقات ويُعطف على هذه الصعوبات صعوبة أُخرى وهي أن مجال عمل اللساني محدود واللسانيات تحتاج إلى تقاطع اختصاصات متعددة. وعلة ذلك أنّ اللساني إذا أراد دراسة «النطق» فإنه لايستطيع ذلك إلا إذا كان قد ضربَ بسهم وافر في حقل الفيزيولوجيا وآية ذلك أنّ الأصوات التي تقرع أسماعنا ناتجة بواسطة الهواء الملفوظ وحتى في هذه الناحية يوجد الكثير من التأويلات التي تتعلق بعوامل أنثروبولوجية هذا إلى أن اللسانيات تتداخل مع علم الأعصاب، فاللسان عضو مرتبط بالدماغ ويخضع لتأثيرات سلبية مصدرها دماغي. وكذلك فاللسانيات ترتبط بعلم الاجتماع لأنّ اللسان محصلة اجتماعية وأيضاً علم النفس له نصيب في هذا الاتجاه ، لأن الانتاج اللساني يستند على الملكات النفسية كلها. وهذا الفهم للأمور يقتضي أن يكون اللساني إنسكلوبيدياً يلم من كل شيء بطرف. وهذا التعقيد الشديد في اللسانيات يماثله تعقيد آخر يرتبط بميادين اللسانيات سواء في الاتجاه الوصفي أو النظري أو العام أو التاريخي أو التطبيقي. وينظّر مارتان حول أصل اللغة منتقلاً من المستوى اللساني إلى ميدان التفكير الفلسفي، فيؤكد أن الألسن لايمكن أن تكتسب إلا بالتدرّب لكن هنا تظهر مفارقة وهي أنّ وظيفة اللغة نفسها هي التي تجعل من التدرّب أمراً متاحاً وهذا يؤول إلى إمكان أن تكون اللغة فطرية بنسبة كبيرة. وهنا يظهر دور هام لعلم مثل علم الإحاثة الذي قد يقدم مساعدات قيمة ها هنا . ولاشك أن هذا الكلام الذي يقوله مارتان يعود بنا إلى اللغويين العرب القدماء من أمثال الثعالبي صاحب كتاب «فقه اللغة وسر العربية»،والسيوطي الذي قدّم مؤلفاً هاماً هو « المزهر في علوم اللغة وأنواعها» والسكاكي صاحب «مفتاح العلوم» . إلخ.. والواقع أن هؤلاء العرب الأفذاذ انشغلوا منذ زمن طويل بمشكلات اللغة ودخلوا في مُساجلات حول أصل اللغة كما يفعل مارتان الآن. وطرحوا سؤالاً هاماً جداً حول أصل اللغة هو: هل اللغة وقف أم كسب؟ أي هل هي فطرية أم مكتسبة وقدموا آراء في غاية العمق فكانوا الرواد الأوائل لهذا النوع من الدراسات. وهنا لانريد الوقوف على الأطلال، لكن الهدف أن نشير وهذا يكفي.
الكتاب: مدخل لفهم اللسانيات
المؤلف: روبير مارتان
ترجمة : د. عبد القادر المهيري . مراجعة : د. الطيب البكوش
الناشر: المنظمة العربية للترجمة
يقع الكتاب في 239 صفحة من القطع الوسط.