الأسلوبية عند ميشال ريفاتير الدكتور طارق البكري
تمهيد:
الأسلوب في اللغة والأصطلاح :
يقول ابن منظور في اللسان: ( يقال للسطر من النخيل وكل طريق ممتد فهو أسلوب، فالأسلوب هو الطريق والوجه والمذهب، ويقال أنتم في أسلوب سوء... ويقال أخذ فلان في أساليب من القول أي أفانين منه).
ويعرف ابن خلدون الأسلوب في المقدمة فيقول: ( إنه عبارة عن المنوال الذي تنسج فيه التراكيب أو القالب الذي يفرغ فيه ولا يرجع إلى الكلام باعتبار فادته كمال المعنى من خواص التركيب الذى هو وظيفة الإعراب ولا باعتبار افادته كمال المعنى من خواص التركيب الذي وظيفته البلاغة والبيان ولا باعتبار الوزن كما استعمله العرب) ويخلص للقول إن الأسلوب هو(الصورة التي ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب الصحيحة باعتبارالإعراب والبيان فيرصها فيه رصاً).
وفي اللاتينية كلمة(stilus) تعني ريشة ثم تطورت لتصل إلى الأعمال الأدبية .
وأشهر تعريف للمصطلح الحديث المعاصر نجده عند الكونت بوفون بقوله:
( الأسلوب هو الإنسان نفسه ولا يمكن أن يزول ولا ينتقل ولا يتغير) .
مقدمة :
يعتبر ميشال ريفاتير من أبرز الباحثين في الدراسات الأسلوبية الحديثة، فقد قدم العديد من الأفكار والمبادئ التي تفاعلت بمجملها مع أفكار غيره المصنفين في دائرة الأسلوبية البنيوية وسواهم من الضالعين في سبر أغوار الأسلوبية وسبك بنائها المتماسك من نواحيه.
وبالفعل، فقد وضع ريفاتير مجموعة قيمة من الأسس استطاعت أن تشقً طريقها وتثبت ذاتها، وتقدم للباحثين أضواء ساطعة كاشفة .
ركز ريفاتير على جملة من القضايا الهامة، وتكلم على عدد من الظواهر الأسلوبية البارزة في النص، ولفت إلى الجمل التي تستوقفنا كقراء وتلفت انتباهنا، معتبراً أن الأسلوب يعد إبداعا من المنشيء وإرجاعا من المتلقي ، فالمبدع يسعى للفت انتباه المخاطب والوسيلة هي شيفرات تستوجب كشفاً من القارىء.
ويعتبر ريفاتير من أبرز الأسلوبيين، وقد عمل في جامعة كولومبيا منذ مطلع العقد الخامس من القرن الماضي وله دراسات عديدة منها 'إنتاج النص' و ' دراسات في
ريفاتير والأسلوب:
يصنف ريفاتير مع الأسلوبية البنيوية ومن الذين يقولون بأن الأدب شكل راق من أشكال الإيصال وأن النص الابداعي ما أن يتم خلقا ويكتمل نصا حتى ينقطع عن مرسله لتبقى العلاقة بين الرسالة والمستقبل زمنا لا يتنتهي دوامه. وهو بذلك خالف ياكبسون الذي يهتم بالمرسل والمرسل إليه وينصب اهتمامه بالدرجة الأولى على القارئ دون أن ننسى الوظيفة الشعرية.
ويعتبر ريفاتير من المجددين في التنظير الأسلوبي بمقالاته التي نشرها في بداية الستينات ثم جمعت واستكملت في أوائل السبعينيات من القرن الماضي في كتابه مقالات في الأسلوبية البنيوية (Essais de stylistique structurale).
ويعرف ريفاتير الأسلوب بأنه: ( إظهار عناصر المتوالية الكلامية على اهتمام القارئ ) وتظهر من كتابات ريفاتير أن الأسلوبية ما هي( سوى هذا التأثير المفاجئ الذي يحدثه اللامتوقع في عنصر من السلسلة الكلامية بالنسبة إلى عنصر سابق).ويستشهد ريفاتير ببيت شعر لكوريني: (هذه عتمة مضيئة تسقط نجوما) ويقول : هذه مفارقة غير متوقعة.
ولا شك أن ريفاتير أحسن كثيرا بالاستشهاد بهذا النص الفريد، فمن حيث التباين الظاهر يقع القارئ في حيرة بين الضوء والعتمة والاستعارة غير المتوافرة في تكتيك شعري فريد ينقل المتلقي من حيثيات الكلمات المعتادة إلى أفق جديد غير متوقع ، وهذه الصدمة المفاجئة التي تحدث لدى المتلقي هي المقصودة من فعل التغيير المنطقي للكلمات المتتالية في السياق، ويرى البعض أن هذه الطريقة هي بنية ثنائية متباينة منتظمة في زمن التكون التتابعي للنص .
ويقدم ريفاتير في كتابه أسلوبية البنيوية تعريفاً محدداً للأسلوب يتولى بعد ذلك شرحه والتعليق عليه، فيقول :
يفهم من الأسلوب الأدبي كل شكل مكتوب فردي ذي قصد أدبي أي أسلوب مؤلف ما أو بالأحرى أسلوب عمل أدبي محدد يمكن أن نطلق عليه الشعر أو النص وحتى أسلوب مشهد واحد.. ويعلق المؤلف نفسه على تعريفه هذا بقوله: إن هذا التعريف محدود للغاية وكان من الأفضل أن نقول بدلا من (شكل مكتوب) كل شكل دائم ، حتى يشمل الآداب الشفاهية التى لا تستمر نتيجة للحفاظ المادي عليها كشكل نصي متكامل فحسب، بل بوجود خواص شكلية فيها تجعل من الميسور فك شفراتها، مثل : الافتتاحية الموسيقية بطريقة منظمة ومستمرة ، وقابلة لأن نتعرف عليها بالرغم من أي تنويعات أو أخطار في طريقة عزفها أو تفسيرها من مختلف القراء.
أما قوله ذو قصد أدبي) فلا يشير في هذه الحالة إلى ما أراد المؤلف أن يقوله ولا يهدف إلى التمييز بين الأدب الجيد والردئ ولكنه يعني أن خواص النص المحدد تدل على أنه ينبغي اعتباره عملاً فنياً وليس مجرد تعاقب كلمات.
من هذه الخواص شكل الطباعة وشكل الوزن وعلامات الأجناس الأدبية والعناوين الفرعية مثل رواية أو قصة أو حتى ظهوره في الوقت الحاضر في مجموعات معينة قصصية أو مسرحية أو شعرية .
ويبدو أنه من الأسهل لنا في ريفاتير أن نطلق كلمة الأدب على كل كتاب ذات طابع أثري أي كل كتابة تجذب انتباهنا بصياغتها وشكلها.
ثم يعود إلى تعريفه للأسلوب قائلا :
وهنا نفهم من الأسلوب كل إبراز وتأكيد سواء أكان تعبيريا أو عاطفيا أو جماليا يضاف إلى المعلومات التي تنقلها البنية اللغوية دون التأثير على معناها. ويشرح كلماته فيما بعد مشيرا على أن هذا التعريف لا يتميز بالمهارة اللازمة لأنه يبدو كما لو كان يفترض معنى أساسياً لوناً من ألوان درجة الصفر- على حد تعبير بارت-
تقاس عليه عملية التكثيف التي نسعى لتقييمها ولا يمكن أن نصل إلى هذا المعنى الأساسي إلا عن طريق نوع من الترجمة أي عن طريق تحطيم النص كشيء أو نقص القصد منه أي استبعاد النص المكتوب وإحلال فرض يدور حول المؤلف حوله. ثم يضيف: ( لكنني كنت أفكر في نوع من الكثافة التي يمكن أن تقاس عند كل نقطة من القول في المحور التركيبي طبقا للمحور الاستبدالي حيث تعد الكلمة الماثلة في النص (أقوى) بشكل أو بآخر من نظيراتها أو مترادفاتها الممكنة دون أن يؤدي هذا إلى خلل في المعنى، لكن هذا المعنى - مهما كان المستوى اللغوي الذي ننظر إليه من خلاله- لا بد أن يختلف بما يسبقه وما يلحقه). ويردف قائلا: (وربما كان من الأوضح والأدق أن نقول أن الأسلوب هو البروز الذي تفرضه بعض لحظات تعاقب الكلمات في الجمل على انتباه القارئ بشكل لا يمكن حذفه دون تشويه النص ولا يمكن فك شفرته دون أن يتضح أنه دال ومميز مما يجعلنا نفسر ذلك بالتعرف فيه على شكل أدبي أو شخصية المؤلف أو ما عدا ذلك. وباخصار فإن اللغة تعبر والأسلوب يبرز).
الأشكال الفردية:
الأشكال الفردية عند ريفاتير بالنسبة للأسلوب كالكلام بالنسبة للغة، فدراستها تسمح بالحصول على البيانات اللازمة لإقامة النظام وعندما يستخدم المؤلف عناصر اللغة الأدبية لإحداث تأثير خاص تتحول إلى عناصر أسلوبية وميزتها تكمن في هذا التنفيذ الخاص لقيمتها لا في قيمتها المحتملة في نظام موحد. ولولم تستخدم لإحداث تأثير محدد فإن أقصى ما يقال حينئذ إنها تمثل خلفية سياقية متخصصة بالنسبة للأسلوب الفردي أكثر من القول العادي.على أن الأساليب الفردية في الكلام يصعب في أحسن الحالات وصفها ويسهل وضعها في أنماط عامة، مما يجعلها أقل تخالفاً فيما بينها وأقرب إلى اللغة العامة من الأساليب الكتابية، أما الأساليب الأدبية فهي معقدة متشابكة، ولهذا فهي ذات ملامح يمكن تمييزها بوضوح .
وعي المؤلف:
ويرى ريفاتير أنه إذا كانت مهمة عالم اللغة تنحصر في الإمساك بجميع ملامح القول دون استثناء فإن دارس الأسلوب ينبغي له أن يعتد فحسب بتلك الملامح التي تنقل المقاصد الواعية للمؤلف، مما لا يعني أن وعي المؤلف يشمل كل ملامح القول. وغالبا ما يستحيل التعرف على هذه المقاصد دون تحليل الرسالة مما يمكن أن يؤدي إلى حلقة مفرغة لولا أن هذه المقاصد ربما تتضح بإجراءات أخرى، مثل التحليل الفيلولوجي أو تصريح المؤلف بها وغير ذلك من الإشارات.
كما يرى أن هذا التمييز بين الاختيارات الواعية واللا شعورية لا يفيد إلا في حالة دراسة كيفية توليد الأسلوب، إما في دراسة ظاهرة الأسلوب نفسها وتأثيرا على توجه إليه، فإن جدواه ضئيلة للغاية، إذ لا يمكن الوصول فيه حينئذ إلى نتائج حاسمة
الفرادة في العمل الأدبي :
يذهب ريفاتير في كتابه ( إنتاج النص) باحثا عن سمة الفرادة في العمل الأدبي ومن أجل الوقوف على هذه السمة يقترح مقاربة شكلية ويذكر أن التحليل الذي يعتزم إجراءه لا علاقة له بالأسلوبية المعيارية القديمة أو البلاغة، وإذا كان ريفاتير للبلاغة مفارقا فإنه أيضا من النقد الأدبي نفور.
وليس ذلك منه إلا لأنه لا يريد أن يجعل من التحليل مطية تعلوها أحكام القيمة، وما هذا الموقف بدعا، فمنهجه في التحليل يقف عند الظاهرة ويتحقق من وجودها، وأما النقد فيأتي بعد ذلك أي بعد هذه الخطوة فيتبنى الظاهرة التى وقف عليها وتحقق من وجودها.ولكن ريفاتير عندما عمد إلى دراسة سلوك الكلمة في العمل الأدبي، لاحظ أن سمة قرابة تجمع بين دراسته التحليلية والدرس اللساني، غير أنه أكد أم السمات الخاصة بالعمل الأدبي تتطلب أن يبقى التحليل النصي واللسانيات مختلفين ضمن هذا التقارب نفسه .
ولتعليل هذا الأمر يرى أنه لا يكفي أن نلجأ إلى اللسانيات فقط لدراسة الأدب، ذلك لأن العمل الفني يطرح على اللسانيات قضية غير لسانية، ألا وهي الأدبية.
ويلاحظ ريفاتير أن ثمة محاولة قامت لحل هذه القضية وذلك بتعميم الوقائع التي تم الكشف عنها في النصوص من جهة وباستخلاص القواعد الخاصة باللغة الشعرية من جهة أخرى .
وقد كانت غاية هذه المحاولة - كما يرى ريفاتير- تكمن في وضع التعبير الأدبي في إطار نظرية عامة للإشارات، غير أنه لم يلبث أن وجد في هذه المحاولة مطعنا جعله يعرض عنها، ويمكن أن نستدل على هذا الأمر بقوله: ( إن هذا البحث الذي هو ميدان الشعرية، لا يستطيع أن يكشف عن السمة الخاصة بالرسالة الأدبية)، وهويرى( أن الشعرية تعمم هي الأخرى على حين أن طبيعة الرسالة هي النص).
ويؤكد ريفاتير أننا لا نستطيع أن نعرف حقاً هذا النوع من الرسائل إلا بالنصوص، خاتماً نقده لهذه المحاولة بقوله: ( إن القواعد المستخلصة من النص حتى ولو كانت لا تنتج إلا جملا منحرفة وموازية لجمل النص فإنها لا تنتج مع ذلك نصا أدبيا جديداً).
ثم يتدرج ريفاتير منهجا وطريقة في بحثه إلى أن ينتهي إلى تقرير أمور ثلاثة:
1- الأدبية وفرادة النص .
2- الفرادة هي الأسلوب.
3- النص والأسلوب .
وسنحاول فيما يلي تقديم تعريف مختصر لكل من هذه الأمور الثلاثة :
أولاً: الأدبية وفرادة النص :
يقول ريفاتير: ( النص فريد دائما في جنسه، وهذه الفرادة هي التعريف الأكثر بساطة، وهو الذى يمكن أن نعطيه عن الأدبية، ويمكننا أن نمتحن هذا التعريف فورا إذا فكرنا أن الخصوصية في التجربة الأدبية تكمن في كونها تغريبا وتمرينا استلابياً وقلبا لأفكارنا ولمدركاتنا ولتعبيراتنا المعتادة) .
ثانياً: الفرادة هي الأسلوب:
يقول ريفاتير إن النص يعمل كما يعمل برنامج الحاسوب، وذلك لكي يجعلنا نقوم بتنفيذ تجربة الفرادة .. الفرادة التي نعطيها اسم الأسلوب، والتي تم خلطها ردحا طويلاً مع الفرد المفترض المسمى الكاتب).
ثالثا: النص والأسلوب :
في نهاية المطاف يعلن ريفاتير مقرراً الأسلوب في الواقع هو النص).
وأشار هنا بعض الباحثين إلى ملاحظتين:
الأولى : أن الأسلوب يخرج من كونه بصمة من بصمات الشخص ليصبح شيئا من أشياء النص، او بمعنى أدق ليصبح هو النص نفسه وليس الشخص أو الرجل كما ذهب بيفون إلى ذلك.
الثانية : أن هذا الأمر عند ريفاتير بمنزلة الشيء الذي يدور على نفسه، إذ إن مفهوم النص عنده يرتبط بأدبيته والأدبية ترتبط بالفرادة والفرادة أسلوب والأسلوب هو النص، وبما أن الأدبية لا تقوم إلا ضمن هذا الأخير فإن خلو أي نص من الأدبية يرفع عن صفته كنص.
ويستنتج الباحثون من هاتين النقطتين السابقتين ما يلي :
إن دل هذا الأمر على شيء فإنما يدل على أن حاجة النص الأدبي إلى أسلوبه حاجة واكدة، بها يصير إلى وجوده، وهذا يعني أنه لا وجود لنص إلا في أسلوبه ولا وجود لأسلوب إلا في فرادته.
وهكذا ترتبط الفرادة والأدبية بالنص كما يرتبط النص بالأسلوب، ويدور الأمر على نفسه حتى لا إنفكاك.
ريفاتير وموقفه من القاريء:
يرى ريفاتير في كتابه دراسات في الأسلوبية البنيوية (أن القاريء يجلي الأسلوب بفعل الأثر الذي يتركه، فالأسلوب يستأثر بانتباه القاريء واهتمامه عبر ما يفضيه في سلسلة الكلام ، والقارئ يستجيب بدوره للأسلوب فيضيف إليه من نفسه عن طريق رد الفعل الذي الذي يحدثه فيه)، وهذا يشير إلى خلاصة مفادها أننا نقول ما نقول، أي نعبر في استعمالنا للكلام،ولكن الأسلوب هو يجعل لما نقول ميزة ويعطيه فرادته ، وريفاتير يقول:
( إن االلغة تعبر والأسلوب يجعل لهذا التعبير قيمة).
ويرى ريفاتير ( أن إطالة الأثر الأسلوبي زمنا والإحساس بالشعر في أي لحظة من اللحظات إنما هو أمر يتعلق كلية بالقارئ. ثم يخلص للقول: ( إن هذا التداخل بين الطريقة الأسلوبية والإحساس بها، إنما هو من صلب القضية) ولذا يقترح أن نتبنى هذا الإحساس ( لتعيين الوقائع الأسلوبية في الخطاب الأدبي).
ويعلق عبد السلام المسدي عل موقف ريفاتير هذا فيقول: ( ويفضي هذا التقدير بريفاتير إلى اعتبار أنً البحث الموضوعي يقتضي ألا ينطلق المحلل من النص مباشرة، وإنما ينطلق من الأحكام التي يبديها القارئ حوله .
وفي كتابه إنتاج النص يتضح منظوره بشكل أكبر فيما يخص القارئ حيث يرى أن ( الظاهرة الأدبية ليست هي النص فقط ولكنها القارئ أيضاً بالإضافة إلى مجموع ردود فعله إزاء النص) .
من هنا نستطيع أن نستنتج أن ريفاتير يولي الأهمية الكبرى لأمر خارج حدود النص نفسه، فهو لا ينسب الفضل للمؤلف ولا للسياق الأسلوبي أو التعبير النسقي في الكلام ولكنه يميل صراحة إلى الاعتراف بدور القارئ باعتباره المنتج الأول للنص حيث تتحدد قيمة النص عبره وحده.
وهذا الاعتبار الذي يقودنا إليه ريفاتير يقدم للقارئ فضاءات واسعة ويجعلة حاكماً وحكماً ومنفذاً للحكم، وبذلك يكون القارئ هو صاحب السلطة والسلطان والقدرة على التحكم بالنص برفعه أو بخفضه.
وهو يقول بشكل أو بآخر ( إن النص في وجوده مدين لمباشرة القارئ له، أو بكلمة أخرى وجود غير محقق لا يتم ظهوره وتنفيذه إلا بقراءة القارئ له ). وبهذا نستطيع أن نفهم معنى قوله ( إن الظاهرة الأدبية ليست هي النص فقط ولكنها القارئ أيضاً بالإضافة إلى مجموع ردود فعله إزاء النص) .
ويطلق ريفاتير اسم (القارئ النموذج) ويدفع الباحث عن نفسه تهمة إحلال القارئ ورد فعله محل المؤلف ونفسيته، ملاحظا أن المؤلف لا يبقى منه سوى النص، أما القارئ فالبرغم من أن عملية تلقيه إنما هي نفسية، إلا أنه وباستخدام القارئ النموذجي فإننا نصفي العناصر الشخصية من المتلقي بحيث لا يبقى منها سوى ما يتصل بالمثيرات الموضوعية، وإقامة التفسير بعد ذلك على أساس الوقائع نفسها لا على أساس النص الذي استصفته شخصية القارئ أو حصرته فيما يذكره به بما يتوافق مع ذوقه أو فلسفته أو ما يظن أنه ذوق وفلسفة المؤلف المدروس.
ويؤكد ريفاتير أهمية الزمن كعامل مغير في الدلالة الأسلوبية، فاستجابة القارئ النموذجي لا تصلح إلا بالنسبة لحالة اللغة التي يفهمها، إذ إن وعيه اللغوي الذي يتحكم في ردود فعله يتصل فحسب بفترة زمنية وجيزة في تطور اللغة.
النص والمستقبل :
وهنا يعالج ريفاتير القضية بما لها من صلة من نظرية الإيصال، بحيث يصل إلى نتيجة يفترق فيها الإيصال الأدبي عن العادي فالإيصال الأدبي لا يحتوي إلا عنصرين لهما تمثيل مادي فيه وهما: النص والقارئ، أما العناصر الأخرى التى يقوم عليها الإيصال العادي فأشياء بديلة عن النص.
ويعلق على الشرح الذي يستهدف القارئ بقوله: ( إن الشرح يقتضي إظهار الأثر الأدبي الذي تحمله العبارة في مظانها فهي توجه القارئ نحو بعض التأويلات وتزوده بشفرات لفك شيفرات النص). وهنا يؤكد مجددا على دور القارئ وعلى مكانته الأولى بالنص مهما كان هذا النص باعتبار أنه رسالة موجهة إليه ولولاه لما كان هنالك رسالة والرسالة نفسها لا تنفتح على مغاليقها إلا من خلال قارئ يفك رموزها.
طاعة واعية للنص:
لكنه من جانب آخر يؤكد أن الوحدات الأسلوبية تفرض نفسها على القارئ وهو يرى وجود شرطين للتحقق من وجودها:
أولا : يجب أن يقوم التحليل على طاعة مطلقة للنص.
ثانيا: أن تكون الطاعة القاعدة الأصولية للشرح.
لكن تجدر ملاحظة قضية هامة وهي أن الطاعة للنص عند ريفاتير ليست مطلقة، ولا تعني مجرد أن يبتعد القارئ تماما عن التدخل في النص لتصحيحه أو لاستكماله، ولكنها تعني أيضا أن يكون الشرح قائما على عناصر ذات قابلية إدراكية إجبارية، وهو يؤكد ( أن الشرح يختلف بهذا التحديد عن التأويل البنيوي العادي الذي يبحث أن يضم كل شيء إلى نظامه ولكنه لا ينجح إلا في ضم النص باعتباره مادة لسانية وليس باعتبار النص نصا ً).
الوحدة الأسلوبية :
ويقدم ريفاتير تعريفا قيما للوحدة الأسلوبية بأنها: ( ثنائية لقطبين لا يفترقان، الأول منهما يبدع الاحتمال والثاني يلغيه) ويعتبر أن الأثر الأسلوبي ينتج عن التضاد الحاصل بينهما).ولا يمكن لهذه الوحدة الأسلوبية برأيه أن تختلط مع التقطيع الطبيعي، أي مع الكلمة والجملة ذلك لأنها ( لا تستطيع أن تكون سوى مجموعة من الكلمات أو الجمل المرتبطة بطريقة أخرى غير المقطعية ).
وقد دفع هذا الموقف بريفاتير إلى الإعراض عن شرح الكلمة معزولة لأن ذلك يؤدي إلى إنكار الحدث الأسلوبي ( ومن أراد الشرح عليه أن يذهب إلى ما وراء الكلمة ). ويقترب ريفاتير هنا تماما مع رأي عبد القاهر الجرجاني بأن الكلمة المفردة وحدها ليست هي الأسلوب بل طريقة نظم الكلم .
السياق الأصغر والسياق الأكبر:
الطريقة الأسلوبية ليست عند ريفاتير هي الأسلوب، فما هي سوى مظهره المنتظم، إن أسلوب نص أو عمل أو كاتب ليس مجموع طرائقه الأسلوبية،بل هو علاقاتها التركيببية المحتملة. وأول خطوة على طريق توسيع المنظورات يميز ريفاتير إلى جانب السياق الذي يسميه بالسياق الأصغر (Microcontexte) الذي يسهم في إنتاج الأسلوبية، ويميز ما يطلق عليه السياق الأوسع (Macrocaontexte)، وهو بالتحليل الأولي خارجي ومتقدم على هذه الطريقة الأسلوبية ولكنه ذات مدى متبدل سواء في البداية أو النهاية وقابل للائتلاف مع سابقه،
أو لإعادة التشكيل في نهايته، والتحديد من خلال اللامتوقع في العناصر التي تكونه.
الانحراف والسياق:
الانحراف عند ريفاتير حيلة مقصودة لجذب انتباه القارئ، وكان الاعتقاد السائد أن النمط العادي يحدده الاستعمال، غير أن مفهوم الاستعمال نسبي، ولا يمكن الدارس من مقياس موضوعي صحيح، فيقترح ريفاتير تقويض مفهوم لاستعمال بماهو يسميه ( السياق لأسلوبي ).
ومفهوم الانزياح والانحراف عند ريفاتير ( انزياح عن النمط التعبيري المتواضع عليه، وهو خرق للقواعد حينا ولجوء إلى ما ندر من الصيغ حينا آخر).
وقد استقر ريفاتير عند فكرة الانحراف الداخلي بعد أن تبين له أن طريقة القارئ العمدة -الذي سنتعرض له لاحقاً- تكفي لاكتشاف الانحراف، ويحدد ريفاتير معيار الانحراف بالسياق الخارجي ويسمي وحدته الأساسية السياق الأصغر فهما مع الانحراف أو المخالفة يكونان معا ما يسميه مسلكا أسلوبيا نحو وصف الشيء بما لا يعد من صفاته، كأن يقال: شمس سوداء أو ضوء خجول، فالاسم الأول من العبارتين سياق أصغر والوصف مخالفة أو انحراف، ويضع ريفاتير المعادلة التالية:
سياق أصغر + مخالفة = مسلك أسلوبي
لكن لا بد ملاحظة أن السياق الأصغر لا يقتصر على هذا النوع فقط .
وعموماً يمكن للسياق الأصغر أن يدخل في سياق أكبر، ليشكل سلسلة لغوية ممتدة يكون السياق جزئا منها، ولا تنحصر داخل حدود الجملة النحوية أو عدد معين من الجمل، وإنما تتحدد نهايتها بشعور القارئ كما تتحدد بدايتها بقدرته على التذكر.ويعين ريفاتير شكلين أساسيين للسياق الأكبر:
سياق + مسلك أسلوبي + سياق
سياق + مسلك أسلوبي يبتدئ سياقاً أسلوبياً جديدا + مسلك أسلوبي
فكأن السياق الأكبر في كلتا الحالتين يتحدد بالعبارات التي تحيط بالسياق الأصغر، وإن كان من الجائز أن تمتد المخالفة حتى تصبح هي نفسها سياقاً.
ولتوضيح ما يقصده، نورد هذا المثال الذي قدمه للنوع الأول وهو قول لبرنارد شو:
إنهم يصورون المسكين على أنه مجرم، مع أنه لم يكن إلا رجلاً إنكليزياً صميماً ذا عيال.
فالعبارة الأخيرة تكون مع العبارة التي تسبقها مباشرة مسلكاً أسلوبياً، وهي في هذه الحالة تعد سياقاً أصغر، والعبارة ليست في النهاية إلا جزءا من السياق الأكبر الذي يبدأ مع بداية الجملة حتى نهايتها.
التشبع عند ريفاتير:
التشبع مصطلح يستخدم بالكيمياء عادة، ويعني أن المادة المنحلة في السائل - كالسكر في الماء - قد بلغت كميتها حداً لم يعد لكمية السائل معه القدرة عل الامتصاص.
أما ريفاتير فقد استعمل هذا المصطلح مجازا للدلالة على أن الخاصية الأسلوبية هي بمثابة المادة المنحلة، والنص بمثابة السائل، فإذا تكررت السمة الأسلوبية باطراد تشبع النص فلم يعد يطيق إبرزها كعلامة مميزة.
ومثال ذلك أن ينبني نص على ظاهرة السجع فإذا تراوحت مواطنها ظلت محتفظة بطاقتها التأثيرية، وإن اطردت اختفي تأثيرها بل لعل عدول صاحب النص عن ظاهرة السجع يصبح هو نفسه خاصية أسلوبية.
ويمكن تلخيص هذه الفكرة بأن الاستخدام المتكرر لظاهرة أسلوبية معينة لدى كاتب ما أو عدة كتاب يجعل الظاهرة أمراً عادياً ولا يعود لها أي مزية أسلوبية، وهذا الأمر يستدعي من الكاتب أن يبتكر دائماً ولا يعتز بظاهرة معينة ويواظب على استخدامها، فمع استخدامها المتكرر تفقد بريقها ولا تعود لها قيمة لدى القارئ .
القارئ العمدة (architecteur):
لكن من هو القارئ الذي لديه القدرة على تمييز النص واكتناهه وسبر محتواه؟
الأثر الأسلوبي كما ذكرنا سابقاً يتعلق بالقارئ، لذا فإن النص نفسه سيتعدد دائما بتعدد القراء له ، لذلك أراد ريفاتير أن يحل العقدة فرأى تعيين الانحراف بمعونة عدد من القراء، وبمجموع القراءات يصل إلى ما يسميه بالقارئ العمدة.
فريفاتير يعين مواضع الانحراف بمعونة عدد من القراء المدربين على هذا النوع من القراءة، كما يفعل علماء اللغة في الفروع الأخرى لهذا العلم، فيعتمدون على أخبار الرواة من أهل اللغة عن كيفية النطق ومعاني الكلمات...، ويسمى مجموع هذه الأخبار على سبيل التجريد ' القارئ العمدة'.
وعيب على هذا الاقتراح الأخير أنه يجرد العملية التذوقية من محتواها الشخصي باسم الموضوعية.
والقارئ العمدة بتعبيره هو محصلة ردود أفعال عدد من الخبراء اللغويين تجاه النص بضمنهم نقاد ومترجمون وعلماء وشعراء وغيرهم، فالقارئ العمدة ليس قارئا بعينه إنما هو مجموعة الاستجابات للنص التي يحصل عليها المحلل من عدد من القراء الخبراء.
ويحدد ريفاتير القارئ العمدة بقوله: ( هو مجموع الرواة الذين يستخدمون لكل مثير أو متواليه أسلوبية كاملة... إنه وسيلة لاستخراج مثيرات النص لا أكثر ولا أقل) لكنه يستدرك قائلا من الضروري أن نستبعد تصنيفات القراء حتى لا نتورط في تصنيفات جاهزة).
وهنا لا بد من الاشارة إلى أن قضي القارئ العمدة تحتاج إلى دراسة قائمة مستقلة تتناول هذا الجانب بالبحث والتحليل نظرا لأن ريفاتير أولى هذه المسألة جانبا مهما من أبحاثه وهي تحتاج إلى تعمق أكبر ومجال أوسع للبحث .
الأسلوبية البنيوية:
مع ميشال ريفاتير بدأت الأسلوبية البنيوية مساراً مهماً في تناول الأسلوب في النص الأدبي، وقد افرد كتابا خاصاً لهذا الغرض وسماه (محاولات في الأسلوبية البنيوية) صدر عام 1976. وتمثلت غاية الكاتب في أن الأسلوبية البنيوية تقوم على تحليل الخطاب الأدبي لأن الأسلوب يكمن في اللغة وووظائفها ولذلك ليس ثمة اسلوب أدبي إلا في النص.وقد عرف ريفاتير الأسلوب الأدبي بأنه كل شيء مكتوب وفردي قصد به أن يكون أدباً.
ويرى ريفاتير في مقال له ( لا يمكن فهم الوقائع إلا في اللغة، لأن اللغة هي أداتها، ومن ناحية أخرى يجب أن تكون للوقائع الأسلوبية خاصة مميزة، وإلا لم نستطع أن نميزها عن الوقائع اللغوية).
التواصل :
يركز ريفاتير على فكرة التواصل التى تحمل طابع شخصية المتكلم في سعيه إلى لفت نظر المخاطب، ولهذا اعتنى عناية كبيرة بالمنشيء الذي هو يشفر (Encode) تجربته الذاتية، وبالمخاطب الذي يفك شيفرة (decode) .
هذا التعبير، وهو بذلك يؤكد تجاوز ما جاء به جاكبسون الذي كانت نظريته لا تنظر إلى الرسالة الشعرية بوصفها تكيفاً لمتطلبات التواصل، وبدلا من ذلك ينظر إلى إسقاط مبدأ التماثل على الرسالة بكيفية ما، بوصفه يحررها من المقام الأول ويجعلها غامضة وغير تداولية، وبذلك يتجاوز ما يطرحه جاكبسون في أن الرسالة قائمة بذاتها، ولا يظهر من ذلك أن هذه الرسالة تحقق تواصلا مع المخاطب، أما ريفاتير فإنه يرى أن الرسالة لا يمكن أن توجد بذاتها، وإنما هناك علاقة يجب أن تنشأ بين الرسالة والمخاطب، فالعلاقة التي تقوم بينهما عنصر مهم من عناصر الأسس التي أقام عليها ريفاتير أسلوبه ، وهي رؤية تتجاوز كون الأسلوبية تحليلا ألسنيا يميز عناصر الأسلوبية في رسالة ما، وإنما يكون للقارئ دور في تمييز هذه العناصر، ولذلك يقوم القارئ في أسلوبية ريفاتير بدور مهم جدا(كما أشرنا سابقاً) وهو دور يقوم على الوعي والإدراك لما تمثله العناصر الأسلوبية من وظائف داخل النص الأدبي.
ويصبح طرفا الإخبار عند ريفاتير المرسل والمتلقي، ويتضح ذلك من القول: ( فإذا كانت عملية الباث في عملية الإبلاغ العادي أن يصل بالمتقبل إلى مجرد تفكيك الرسالة اللغوية لإدراكها، فإن الغاية من الباث في عملية الإبلاغ الأدبي تتمثل في توجيه المتقبل توجها يقوده إلى تفكيك الرسالة اللغوية على وجه معين مخصوص، فيعمد الباث عندئذ إلى شحن تعبيره بخصائص أسلوبية تضمن له هذا الضرب من الرقابة المستمرة على المتقبل في تفكيكه للمضمون اللغوي).
وهذه الأفكار الخطيرة التي يطرحها ريفاتير بجرأة تفصل ما بين نوعين من التواصل البشري، الأول التواصل العادي المجرد من الأسلوب الأدبي البليغ، والتواصل القائم على الحاجات والتبادل والخدمات، أما الجانب الأدبي وهو الجانب المتمثل بالشعور فغير ذلك تماماً، فالنص الذي يشحنه الشاعر أو الأديب بنصه يحتاج برأي ريفاتير إلى رقابة مستمرة ليس على نفسه فقط بل وأيضا على المستقبل في عملية التمحيص والتفكيك وإعادة التشكيل، ولكن من حيث الاجمال فإن ذلك يبدو مستحيلا من الناحية العملية، وربما يكون القصد غير ذلك حيث على الباث أن يكون مهيئاً ليستوعب قدرة المتقبل على تفكيك النص واستشعاره، وهو أقرب إلى الظن لأن الباث بطبيعة الحال يستحيل له مراقبة كل المستقبلين وخصوصاً مع مرور الزمن واستمرارية النص بعد سنين من زوال صاحبه .
عنصر المفاجأة:
وهنك عنصر مهم جدا أشار إليه ريفاتير أهميته ليست دون أهمية ما سبق، وهو عنصر المفاجأة من خلال المثير والمنبه الأسلوبي، حتى إنه رد الميزة بالنص إلى هذا العنصر، فقال: ( تنتج القوة الأسلوبية من إدخال عنصر غير متوقع إلى نموذج، فالسياق الأسلوبي يتكون من نموذج لغوي يكسره بغتة عنصر لا يتنبأ به).
ويرتبط مفهوم الأسلوب عنده بعنصر المفاجأة التي تصدم المستقبل وتحدث صدمة في نفسه، فكلما كانت السمة الأسلوبية متضمنة للمفاجأة فإنها تحدث خلخلة وهزة في إدراك القارئ ووعيه.
وقد ساق ريفاتير مثلا هو قول كورني ( عتمة مضيئة تسقط نجوما) فجمع العتمة مع الضوء، وبهذا أحدثت المقابلة منبها أسلوبيا لا بد له أن يحدث استجابة ما لدى المستقبل، فكل واقعة أسلوبية تنشأ من سياق ومن تعارض ولذلك على الدارس الأسلوبي أن يمنح التعارض عنايته، لأنه يشكل الأجراء الأسلوبي في النص المدروس.
ومما لا شك فيه أن عنصر المفاجأة عند ريفاتير هو بنفسه تجسيد للانحراف( الذي تحدثنا عنه سابقا)، فقد عرف الأسلوب على أنه انحراف عن المعيار، كما وصف الانحراف بالانزياح، والمقصود انزياح أو انحراف الأسلوب عن الاستخدام العادي للغة، مما يجعل اللغة تستخدم استخداما غير مألوف.
وقد لقي مفهوم الانحراف عند ريفاتير تطورا جذريا استخلص منه مقولة ( التضاد البنيوي ) وحدد ما يترتب عليها من إجراءات أسلوبية أي من عمليات التكوين الأسلوبي حسب مصطلحه، وهي إجراءات تعتمد على القارئ أساسا لأنه هدف الكاتب الموجه إليه الرسالة.
ولا شك أن الكتابة الفنية تتطلب من الكاتب أن يفاجئ قارئه من حين لآخر بعبارة تثير انتباهه حتى لا تفتر حماسته بمتابعة القراءة أو يفوته معنى يحرص الكاتب على إبلاغه إياه. وفي هذا تختلف الكتابة الفنية عن الاستعمال العادي للغة فالإنسان في حديثه العادي يستطيع أن يلجأ إلى وسائل كثيرة مصاحبة للكلام كي ينبه سامعه إلى فحوى الرسالة: من استخدام النبر والتعبير بحركات الوجه أو الإشارة باليدين إلى هز ذراع السامع إذا كان المتكلم في حالة انفعالية تدفعه إلى ذلك، وأما إذا تأملنا الكتابة الفنية وجدنا في تعابير اللغة أحيانا ما يشبه هز الذراع وربما الإمساك بالتلابيب، وإذا كانت هذه الحركات والنبرات في لغة الحديث لا تفعل فعلها إلا لكونها خارجة عن المألوف، فكذلك وسائل اللغة التي يراد بها جذب الانتباه إنما تحدث ذلك بفضل ما فيها من المفاجأة أو الخروج على سياق الكلام العادي ، أي بفضل ما فيها من الانحراف.
السياق الأسلوبي :
بما أن التقوية الأسلوبية تنتج من إدخال عنصر غير متوقع في نسق، فهي تفترض إشعارا بالانقطاع الذي يغير السياق، وهنا فرق جوهري - كما يقول ريفاتير- بين المفهوم الشائع لكلمة السياق وبين السياق الأسلوبي.
فليس السياق الأسلوبي ترابطيا، بمعنى أنه ليس السياق اللفظي الذي يقلل تأثير لمشترك اللفظي أو يضيف إيحاءات إلى لفظة ما، فالسياق الأسلوبي كما يقول ريفاتير: ( نسق لغوي يقطعه عنصر غير متوقع- مفاجئ كما أشرنا في الفقرة السابقة- والتقابل الذي ينشأ عن هذا الاقتحام هو المثير الأسلوبي) ويوضح ريفاتير أنه يجب أن يفهم أن هذا الانقطاع ليس من باب الفصل، فقيمة المقابلة الأسلوبية ترجع إلى نظام العلاقات الذي تقيمه بين العنصرين المتصادمين، وما كانت لتحدث أي تأثير بدون وصلهما في متتابعة.
إن صنع النسق الذي تتوقف عليه 'المفاجأة' يرجعه ريفاتير بالضرورة إلى سير المتواليات، والسياق يبتع القارئ مارا بكل متواليات الحدث.
ويرى ريفاتير أن السياق لا ينفصل عن الإجراء الأسلوبي ويتمايز بالخواص التالية :
1- التلاؤم اللازم مما لا يحدث بالنسبة للقاعدة.
2- قابليته الفورية للتحديد وإمكانية الإمساك به على التو فليس غامضا ولا مبهما ولا ذاتيا.
3- التنوع، إذ إنه يشكل مجموعة من مظاهر التضاد مع الإجراءات الأسلوبية المتوالية، وهذا التنوع هو الذي يوضح لنا السبب في أن وحدة لغوية ما تكتسب تأثيرها الأسلوبي أو تعدله أو تفقده نظرا لوضعها، كما أنه هو الذي يوضح السبب في عدم اعتبار اطراد القاعدة واقعة أسلوبية بالضرورة بمثل ما أن التأثير الأسلوبي لا يتوقف دائما على الشذوذ عن القاعدة.
الانصباب:
وهناك ظاهرة تتصل بالسياق الأسلوبي يطلق عليها ريفاتير اسم الانصباب، فقد تتجمع العناصر الناجمة عن الإجراءات الأسلوبية مما يجعل تأثيرها يعتمد على التوافق بين الجوانب الدلالية والصوتية وتتراكم حتى تصل إلى نقطة محددة، بحيث يكون كل إجراء أسلوبي منها- على استقلاله في ظاهر الأمر- جزءا من بنية أكبر تمثل القوة التعبيرية التي تصب فيها جميع الإجراءات المستخدمة.
وهذا الانصباب ذو طبيعة تراكمية ويمثل السياق الدلالي الذي يحد من تعدد معاني النص ويوضح مقاصد المؤلف، كما أن هذا الانصباب هو الإحراء الوحيد الذي يمكن أن يوصف بأنه يتم بطريقة واعية إذ إنه حتى لو كان قد نبت في النص بشكل لا شعوري من المؤلف فإنه لا يلبث أن يدركه على التو عند قراءة ما كتب ولو اقتصر على الاحتفاظ به أو اجتهد في تكوينه، فإنه يصبح مثلا للوعي الواضح في استخدام اللغة.
ويعد الانصباب أقوى وأعقد أشكال الإجراءات الأسلوبية، ومن المسلم به أنه معيار خصب للتحليل فلو فرض أن القارئ النموذجي قد لاحظ وجود إجراء أسلوبي ما لكنه لا يمثل تضادا موسوما مع السياق السابق فبوسع الدارس أن يبحث حينئذ عن الانصباب كواقع أسلوبي.
وكثيرا ما ينجم عن خطأ حذف لإجراءات الأسلوبية ألا يستطيع قارئ اليوم استجلاء البروز الأسلوبي للنصوص القديمة وبوسعه حينئذ أن يعتمد على الانصباب ليكتشف هذا البروز بتحليل اتجاه الإجراءات الأسلوبية الأخرى، وتوقع أن تكون الإجراءات المندثرة مساوقة للتيار نفسه مما يساعده في نهاية الأمر على اكتشافها وتحديدها وجبر حذفها. فالانصباب في الواقع هو العامل الأسلوبي الذي يضمن استمرار نظام التشفير في النص، ولو كانت هناك أجيال من القراء لم تعد تتبين اتجاه بعض الإجراءات الأسلوبية لأنها فقدت قدرتها على التضاد في النظام اللغوي الجديد، كأن تكون المصطلحات الجديدة أو المستعارة قد فقدت جدتها وطرافتها وصارت من اللغة الأدبية المشتركة فمن الممكن أن تظل بعض هذه العناصر محتفظة بفاعليتها كمثير أسلوبي للتعبير يمس مجموعة الإجراءات التي وضعها المؤلف، ويصبح الانصباب هو وسيلتنا للتعرف على بقيتها.