في خضم أدب الرحلات تتعدد الموضوعات ، وتتنوع أغراض الرحلات وأشكالها، ويحصل الاختلاف أو الائتلاف بين الشكل والمضمون ، حيث يتوضع أدب الرحلات بين الخيال والواقع وقد تكون الرحلات حقيقية دينية كالرحلة السماوية الأولى من الجنة إلى
وقد تكون الرحلات علمية و جغرافية كرحلة ابن بطوطة و رحلة السندباد البحري فهذه الرحلات المقيدة بقيد الزمان و المكان فضلاً عن الإدراك الحسي الذي تميزت به من وصفٍ لأقوام محسوسين و جغرافية أوطانهم و طبائعهم وتكويناتهم الجسمانية والنفسية والاجتماعية وسلوكياتهم الحياتية . وقد تكون خيالية أو خارقة للعادة معبرة عن الإحساس الداخلي فهي فوق مقدرة الناس العاديين على إدراكها بحواسهم فصلاً عن إدراكها بخيالهمً ، فتكون معجزةً محيرةً لهم وفي هدا الاطار فاننا ندرس في هذا الفصل رحلتين من نوع خاص في اطار دراسة مقارنة وكما سبق وان صرحت فانه لأول مرة نحس أننا ندرس الادب المقارن في شقه التطبيقي لذلك كانت مادة غنية بالمعرفة علي مستويين نعتقد انهما مهمين علي درجة كبيرة علي المستوي الثراثي من جهة حيث اننا وقفنا عند هرم من أهرام الفلسفة العربية وكذلك الانفتاح علي الاخر بعتباره يشكل محورا رئيسيا داخل الادب المقارن وقد انطلقنا في البداية من مجموعة من التمثلات الشائعة حول علاقة الكوميديا الالهية برسالة الغفران والتي مفادها ان دانتي نسج الكوميديا الالهية علي ضوء رسالة الغفران ثم انتقلنا بعد ذلك الي بناء مجموعة من الفرضيات العلمية من قبيل هل يمكن القول ان المعري أول من اكتشف وصف العالم الاخر انطلاقا من رحلة عجائبية؟ والي أي حد يمكن القول ان دانتي قد توصل برسالة الغفران؟ وماهي أوجه التشابه والاختلاف بين هده النصوص من حيث المبني والمعني؟ ولتفنيذ هده النظريات او تثبيتها احتكمنا الي النصوص انطلاقا من مقاربة موضوعاتية حيث حاولنا الوقوف علي بعض الموضوعات المشتركة بين النصين ثم اعتمدنا علي المقاربة التناصية لتفنيد ما ادعاه لإسبانيّ (ميجويل آسين بلاثيوس) الذي أعلن في كتابه المشهور (فكرة الحشر والنّشر الإسلاميّة في الكوميديا الإلهيّة لدانتي) أنّ للكوميديا الإلهيّة جذور إسلاميّة واضحة وبيّنة، بل تكاد في بعض أجزئها تقوم في نسجه علي رسالة الغفران للمعري لكن من خلال الدراسة تبث أنه وان كان دانتي قد تأثر ببعض المصادر الاسلامية للكوميديا الإلهيّة تتعلّق خصوصاً بكتاب المعراج وبالمجموعة الطُّليطليّة، وبسائر الأخبار الأوروبيّة عن الأخرويّات الإسلاميّة، أي أنّ المسألة تتعلّق بكتب عربيّة غير علميّة دخلت في الثّروة الثّقافيّة لأوروبا في القرنين الثّاني عشر والثّالث عشر فانه من الصعب الأخذ بموقف اسين بلاثيوس و لكن لا يمكن القول إنّ دانتي لم يطّلع على الثّقافة الإسلاميّة، ولم يستفد منها لانه ليس في مصلحة دانتي ، كما أنّ التّمسّك بالأمل بألاّ يستطيع أحدٌ أبداً البرهنة على أنّ العلوم الإسلاميّة كانت معروفة في أوروبا بوجه عام، وفي إيطاليا بوجه خاص في زمن دانتي ليس ممّا يخدم عظمة دانتي. خاصة وان أوّل ترجمةٍ عن المعراج قد ظهرت عام 1264م أي قبل ولادة دانتي بسنةٍ واحدة، وهي سنة 1265م، والكوميديا الإلهيّة على حسب ما هو مرجّح ألّفت ما بين 1302م، 1315م، وجميع الوثائق تشهد أنّ في هذه الحقبة كانت هناك ثلاث ترجمات للمعراج، واحدة باللّهجة القشتاليّة المسمّى الكسلافيّة، والثّانية بالفرنسيّة، والثّالثة باللاّتينيّة، وكلّها كانت منتشرة في أُوروبا اما بخصوص فرضية كون المعري اول من وصف العالم الاخروي فان هده الفرضية تبدو مغلوطة لانه ثبت ان هناك امم اخري قد سبقته لدلك خاصة اليونانية والرومانية وغيرها من الامم التي تفننت في وصف العالم الاخروي وبناء علي المقاربة التناصية تبين ان هناك نوع من التشابهات الجزئية من قبيل لقاء ابن القارح بآدم عليه السّلام في الجنّة؛ حيث نرى أنّ موضوع الحديث الرّئيسيّ بينهما هو اللّغة الفطريّة الأولى التّي كان يتحدّث بها أبو البشر؛ فيقول آدم: "إنّما كنتُ أتكلّم بالعربيّة وأنا في الجنّة، فلمّا هبطتُ إلى الأرض نُقل لساني إلى السّريانيّة فلم أنطق بغيرها إلى أن هلكتُ. فلمّا ردّني اللّه سبحانه إلى الجنّة عادت عليّ العربيّة" كذلك يلتقي دانتي في السّماء الثّامنة بآدم، حيث يكون موضوع الحوار الرّئيسيّ بينهما هو أيضاً اللّغة التّي كان يتحدّث بها أبو البشر خلال إقامته في جنّة الأرض. هذا مع اختلاف اللّغات التّي ذكرها المعرّي بطبيعة الحال وعندما يعود ابن القارح من الجحيم تلقاه الحوريّة المكلّفة بخدمته، فتلومه برقّة على تأخّره، وتصحبه في نزهةٍ في حدائق الجنان. وهذا نفس ما تفعله الحسناء (ماتيلدى) مع دانتي حيث تلقاه باسمةً عاتبةً عند دخوله غابة الفردوس الأرضيّ، وتجيب على أسئلته بلطفٍ ومهارة، ويمضي في نزهته معها حتّى تقع عيناه على كوكبةٍ من الحسان اللاّتي يحطن بحبيبته (بياتريس) وهي تهبط من السّماء للقائه، كما وقعت عينا ابن القارح من قبله على كوكبةٍ مماثلةٍ من الحوريّات وهنّ يُحطنَ بحبيبة امرئ القيس التّي خلّد ذكرها في شعره ولكن اذا تعمقنا في المقارنة نجد أن هناك العديد من الاختلافات تجعلنا الحكم جزما بانه ليست هناك علاقة بين الكوميديا الالهية خاصة علي مستوي البناء والشكل حيث ان رسالة أبي العلاء تبدأ بنهوض ابن القارح من القبر تلبيةً لنافخ الصّور، كما لبّى سكّان القبور نافخ الصّور، والفصل فصل عراك وكفاح لهذا الرّجل الذّي يريد منه أن ينتهي إلى الجنّة بعد الشّفاعة والمغفرة. وفي الجنّة يجتمع إلى أهلها وبعض سكّانها، ثمّ يعرّج على النّار، فيتحدّث إلى من لم تشملهم المغفرة
وأمّا في الكوميديا الإلهيّة فتبدأ الرّحلة في ظلال الشّاعر نفسه في غابة مظلمة لا نور فيها. ولولا أنّه أتاه دليل من ذلك العالم هو الشّاعر (فرجيل) لكان نصيبه الهلاك الأبديّ، فيزوران معاً جهنّم التّي امتلأت بالأثمة والمغضوب عليهم، ثمّ ينتهيان إلى الأعراف أو المَطْهر، ثمّ يُنعِم اللّه عليهما بدخول الجنّة، وتذوّق طوباها.وهناك اختلاف اخر يبدو جوهريا خاصة فيما يتعلق بالبناء حيث أنّ الكوميديا متناسقة البناء، مترابطة الأجزاء، يعتمد فيها السّابق على اللاّحق، وقد جعل دانتي الإنسان فيها مع الدّنيا والآخرة والعالم واللّه في بؤرةٍ واحدة، كما ألغى فوارق الزّمان والمكان، ومزج بين الأسطورة والتّاريخ، وبين الواقع والخيال.علي العكس من ذلك فرسالة الغفران رسالة نثريّة أفسد من جمالها الغلوّ اللّغويّ، والبحث النّحويّ، وشيء من التّكلّف، وهي تعتمد على اقتباسٍ كثير، واستشهادٍ كثير.
"واصطناع الأسلوب القصصيّ التّعليميّ الفكه محمولاً على الخيال المبدع والسّخرية اللاّذعة، والاستقصاء الأدبيّ الجامع، هو أسلوبه في رسالة الغفران" ، وهو "يؤثّر الصّعوبة والمتانة والتّعمق اللّغويّ والسّجع ولزوم ما يلزم، والتّفننّ اللّفظي والمعنويّ، وحشد المعرفة والتّعقيد اللّغوي هو الميزة الأسلوبيّة للمعرّي في رسالته، وهذا ليس بالجديد عليه، فهو يُعدّ زعيم مذهب التّصنّع في زمنه في إزاء عصرٍ شهد تطوّراً حضاريّاً، "وغدت الكتابة فيه -كسائر فنون العصر- معقّدة في قواعدها وأساليبها". ولعلّ التّعقيد له أكثر من مسوّغ في أدب المعرّي، فهو من جهةٍ حبيس بيته لخمسين سنة، فماذا يفعل في خلال ذلك؟ "سوى الفزع إلى ضروب العبث في فنّه، وإنّها لضروبٌ تؤدّيه إلى التّعقيد اللّغوي كما أنّ هذا التّعقيد ضربٌ من ضروب بحثه عن طريقٍ تجعله يتفوّق على معاصريه (60)، كما أنّ ثقافته الواسعة واطّلاعه على الغريب والشّاذ، وتعمّقه في النّحو واللّغة جعلته يجنح إلى توظيف ذلك الرّصيد الضّخم في كتابه (61)، وما يجده غيره غريباً، قد يجده المعرّي "غير غريب بالنّسبة إلى زمانه وإلى من كتب إليه؛ لأنّ التّاريخ لم يحدّثنا أنّ أحداً طلب من أبي العلاء أن يفسّر له شيئاً من كلامهويذهب سليم الجندي إلى أنّ التّعقيد في اللّغة عند المعرّي قد يكون توجّهاً مقصوداً؛ "ليستر تحته ما يريد من غمرٍ أو تهكّم أو سخرية
"وفي رسالة الغفران معرض نادر الصّور في التّاريخ الفكريّ للسّخرية العقلية من العقول المرقّعة، والسّخرية جسر ممتدّ بين الواقع والمفترض، وبين المكانيّ الموحل، والزّمنيّ المصعّد" ولا شكّ أنّ هذه السّخرية هي مظهر من مظاهر النّقد التّي يسلك بها طريقاً خفيّةً وباطنةً؛ ليتجلّى موقفه من كثيرٍ من الأمور. "ذلك أنّ أبا العلاء يسلك في هذه الرّسالة إلى النّقد مسلكاً خفيّاً، لا تكاد تبلغه الظّنون". وفي كثيرٍ من أحداث الرّسالة نجد سهام سخرية أبي العلاء موجّهةً نحو الأدباء؛ "ولعلّ المعرّي أراد أن يسخر من عالم الأدباء في رسالته، وقد أصاب ذلك إصابةً محكمة" وهذه السّخرية امتدّت لتشمل بطل القصّة ابن القارح، فنراه يدخل الجنّة على ظهر جاريّةٍ فاطميّة، وفي مكانٍ آخر يحاول أن يستجلب رضى سادن الجنّة بالنّفاق، وبنظم قصيدةٍ في مدحه.
ولعلّ أبا العلاء أراد من ذلك أن يعرّض بالحياة التّي كان يحياها ابن القارح، وبتملّقه للحكّام، وباستغراقه في أصناف المتع الحسّيّة
وفي كلِّ الرّسالة كان المعرّي مستطرداً استطراداً متشعّباً "يغلب عليه طابع السّجع ويصعب معه على القارئ أن يتابع تسلسل الأفكار وتطوّرها؛ لأنّ أبا العلاء في رسالته يخلط كثراً من المسائل بقضايا لغويّة، وشروح متعدّدة، يعرض بها آراءه على لسان من يستحضرهم من الشّعراء للاستجواب في محكمته الأدبيّة المتنوّعة الأغراض والأهدافولعلّ المعرّي أراد من الاستطراد التّعمية على أفكاره، وتلوينها لدفع السّأم الحاصل من كثرتها، ولعلّه استجابةً غير واعية لثقافةٍ غزيرة، أو بسبب إملائه لفقدان بصره أمّا الشّعر فقد كان حاضراً في الرّسالة وهو يؤدّي أدواراً مهمّة في نسيج العمل، فمن جهةٍ يقوم بوظيفةٍ استعراضيّة للبطل تدعيماً لبطولته القصصيّة، وإثباتاً لتميّزه عن الأدباء الآخرين من أهل الجنّة. كما أنّه مولّد للسّرد داخل كل المشاهد التّي قام عليها النّص كما انّه يستخدم للتّسلية واللّهو في مجالس الجنّة
والحقيقة أنّ تنوّع الأساليب وتداخلها ضمن النّسيج السّرديّ، جعل الكثير يحار في تجنيس الرّسالة، ففي حين اتّفق الجُلُّ على أنّها ليست رسالة بالمعنى الاصطلاحيّ، عدّها البعض قصّة ، في حين عدّها آخرون شكلاً من أشكال الرّواية ونزعت طائفةٌ ثالثة إلى إدراجها تحت فنّ المسرحيّة بسبب غناها بالحوار، والتّقسيمات إلى مشاهد