المقامة الشمقمية
حدثنا عامر بن صعصعة فقال : أدركني التعب، ومسني اللّغب، بعد أن أجهدني اللعب، فأسلمت عيني للكرى ... بعد أن أتيت على القِرى ...
كانت ليلة صيفية ، فنمت نوم العافية ، كنومة أهل الكهف ، بل قل كنوم أهل الهف والنّف، وذوي السّف والقّف، الراقصين على أنغام كل دف ...
ولم يعكر لذته لا ولولة الرياح ، ولا المواء والنباح، ولا بلبلة تيوس البطاح، وهم في ساحة النطاح. و بينما أنا أغط في نوم عميق، دغدغنى حلم رقيق، نقلني من زمان الهم والتعاسة، ووسوسة السياسة، ودجل السّاسة، إلى زمان الماسة في أخبار دولة العباسة، أخت الرشيد، صاحب الزمن المجيد .. ولم يكن هو المقصود من العباد في تلك البلاد، بل أحد سكان بغداد، في حي كثير الأعراق، وتلك حال العراق، وقد قال عنه الحجاج بأنه مهد النفاق ، وسوء الأخلاق، والكيد والشقاق ... فحللت طيفا على رجل عجوز، يقشر حبات من الجوز، كفيف البصر، منفوش الشعر، مشدوق الثغر... فلما أحس بوجودي صاح متوعدا: من الطّارق ؟؟ بل من المّارق ؟؟؟ بل من السّارق ؟؟؟
فرددت على عجل الجواب : رجل غريب الزمان والمكان....
فقال ساخرا : أما المكان فمعلوم ، وأما الزمان من الكلام المذموم .. أإنس أنت أم جان ؟؟؟
قلت على الفور: بل إنسان من نسل آدم وحواء.
فقال : أتدخل بيت بشار بن برد، دون تحية ولا استئذان، والله لأشكوك غدا للسلطان، فيضرب عنقك أيها الإنسان.
فقلت مشدوها : أأنت بشار بن برد ؟ الزنديق بن الزنديق .. الأعمى الظريف، والشّاعر اللطيف، المرح الخفيف ....
فصاح وقد امتعض غيظا: قبح الله سعيك، وذل جناحيك، وأخرس لسانك، أفي داري وتسبني أيها الملعون ...؟؟؟
فأجبته معللا : والله ما قصدت ، ولا أدري ما ذكرت، وإنما قلت فيك ما قرأت ....
وبينما نحن على هذه الحالة، من جدال وعنف في المقالة، إذ ارتج الباب رجا ، فتناثرت لصداه الأوراق، واتسعت لرهبته الأحداق.
فقال بشار : لا تجزع ولا تهلع ، هذا شيطان زمانه، عدو أشلائه، المكنى بأبي الشمقمق ...
فقلت : أبو شمقمق الشاعر المرتزق ..
وبينما أنا في أكفان الدهشة، وأكناف الصدفة، ولج الرجل الغرفة ، وكله لهفة، مبادرا بشار بالنكتة : كيف حال الأعمى ؟؟ ألم يرح الله الخلق منك، ويُحررك من محبسيك ، وينقذ الخلق من فلسفتك وفكرك ...
فرد عليه بشار ساخرا: أهلا بالكاسي العاري، البائس الساري ، لما أقبلت ؟؟ ألمأتم أم عرس؟؟ وما أخالك إلا لذلك يا وجه النحس.
فرد عليه الشمقمق : ومتى كنت تُبصر أيها المأفون ، ومتى كنت تُعين أيها الملعون ؟؟؟
فقال بشار: تعمى الأبصار لا البصائر، يا أعمى النّجدين و نزيل القفرين، الموعود بقبرين .. هيه ما تريد وإياك أن تزيد .. وقل المفيد ....
فرأيت أبا شمقمق قد استعد استعدادا ، كأنه في ساحة وغى، أو في حرب ذات رحى، وخاطب بشار قائلا : اسمع يا بشر، قد مسني وأهلى الضر، ونحن بحاجة إلى مال يكفي العيال من شر السؤال ..
فقال بشار: ويحك أيها الأحمق ، هل كتب علي أن أعول وأهلك ؟؟
فأجابه : أجل يا تيس العجم، وأس العلقم ، ولولا ذاك ما جئتك أصلا ..
فاستغرب بشار المقالة وسأله : بأي حق يا ابن العرجاء ؟؟
فأجابه : إنك تأخذ أموال الأمراء والكرام، بكلام تقرضه قرضا، ولي فيه حق معلوم لكوني شاعر محروم.
فقال بشار : فلتفعل مثلي يا شويعر ؟؟؟
فأجابه : يا بشار إني أشعر منك وأفصح، لكن الدنيا تنطح، فترفع الأطلح، وتخفض الأصلح، الذي بالندى ينضح ، وبالحكمة يصدح....
فأجابه بشار : أنت يا أبا شمقمق ؟؟؟؟
فأجابه : إيه والله، وتالله إن لم تعطني الساعة ما طلبت، لأهجوك هجاء مرا.
فرد عليه بشار مستصغرا : أهجو إن استطعت ..
فقال الرجل عندئذ : اسمع منى إذن :
إني إذ ما شاعر هَجانية ** ولج في القول له لسانيه
قلت له على علانية ** بشار يا بشار يا ابن الزّا...
ولم يتم الرجل العجز حتى انتفض بشار : لا تكملها قبح الله منطقك، سأعطيك مئة دينار.
فقال أبو الشمقمق : مئة دينار، وما ذا أفعل بها يا ابن اللكناء، أأشتري بها لأمك الحنّاء، أم بردعة لأتانك الدّعجاء...
فأجابه بشار : آ تريد أن أزيد ، والله ما يُفيد ، ولا داعي أن تُعيد، فيدي عنك تحيد.
فخاطبه آمرا : اجعل لي يا عاشق الأتان ، والمُتحرش بالصبيان، ألف دينار كل عام، ممسوكة الختم، تامة الرقم.
فاشتط بشار غاضبا : أهي جباية تفرضها عليها؟ ياصعلوك بغداد وأرذل وأنذل العباد ....
فقال : سميها كما شئت وافهمها كما أردت ....
فقال: بشار لن أعطيك فلسا ولن أهديك بنسا، ولو كنت بصيرا لنلت منى فأسا وبأسا ...
حينها قال الرجل : يا بشار سأعلم صبيان المدينة، أرجوزة مجنونة ، كلما رأوك تبعوك ينشدونها بالطبول ... واسمع أبياتها أيها المخبول :
هِلِلّينَة هِلِلّينَة *** طعن قِثاء لِتينة
سبع جوزات وتينه *** فتحوا باب المدينة
إن بشار بن برد *** تيس أعمى في سفينه
فصاح بشار متوسلا : صه، ولك ما طلبت .
فخرج الرجل وهو يقول :
من ذاق طعم شراب القوم يدريه***ومن دراه غدا بالروح يشريه
ثم سرت في المكان نسمة برد، أيقظتني من رقدتي، فعلمت ساعتها أني كنت أحلم ، فأوقدت المصباح ، و لما انتشر نوره الوضاح، أبصرت عن يساري، كتاب اللطائف والطرائف ...
إن تاريخنا المقروء أنزر من تاريخنا اللامقروء، فكم من شاعر غُمر وهو أشعر، وفارس جُهل وهو أقدر، وعالم نُسي وهو أجدر، ... وصدق من قال كل تاريخ يخفي وراءه ألف تاريخ ...
وإلى اللقاء في مقامة غراء
عبد القادر بوعرفة