تعليمـيّة اللغات : المبادئ والمفاهيم
مبادئ ومفاهيم تعليميّة اللغات: تعتبر تعليميّة اللّغات (Didactique des langues) علما حديث النشأة اقترن ظهوره باللّـسانيّات التّطبيقـيّة، يهتم بطرق تعليم اللّـغات، ثمّ اتّسعت دائـرة اهتمامه فأصبح يهتم بمتغيرات العملية التّعليميّة التـّعلميّة، فينظر في المحتويـات، فينتقيها وينظّمها لتتماشى مع الأهداف الموضوعة لها، ثمّ يحدد الطرائق والوسائل التي تكفـل نجاح العمليّة التّعليميّة التّعلّمـيّة.
وتعلميّة اللّغات ميدان تتجسّد فيه ثمرة تكامل وتعاون جهود الإنسان في كثير من المجالات المعرفيّة باختلاف اتّجاهاتها وتخصّصاتها، فطبيعة الموضـوع الذي تعالجه وهو كيفيّة تعليم وتعلّم اللّغة، يتطلب منها هذا الارتباط الوثيق بينـها وبين حقول معرفية مختلفة، ولذا فالمشتغل في حقل التّعليمـية، لا يكتفي بمعطيات حقل معرفيّ دون آخر فلكلّ ميدانه الخاصّ به، فإذا كان اللّسانيّ يتناول البنى اللغـويّة التي بنيت عليها الأ لسنة البشرية ويبحث في وظائفها، وكيفية آدائها لها، فلا يمكننا أن نطمئن إليه، لكي يمدّ نا بنظرية متكاملة في كيفية اكـتساب اللـغة البشرية وتعّلمها؛ والأمر نفسه بالنسبة للبيداغوجي أوعالم النّـفس فهو الآخر وإن كان يهتم بظاهرة اكتساب اللّغة، لا يمكنه أن يفيدنا في التّعرف على أسرار البنى اللّغوية، لأنّ ذلك من اختصاص اللّسانيّات وحدها "وهذا دليل واضح على أنّ البحث الجماعي المتفاعل الممنهج المنتظم هو الذي يكفل-في هذه الميادين التّطبيقيّة (المتداخلة)- النتائج الإيجابية والحلول الناجعة...، وقد أيقن الباحثون أنّ هناك حقيقة قد يتجاهلها اللّسانيّون والمربون الذين يعملون كلّ واحد بمعزل عن الآخـرين، وهو أنّ بين البنى اللغوية وكيفيات اكتسابها علا قات ثابتـة وقوانين خفيـّة، يجب أن يكشـف عنها الغطاء، وأن تصاغ على ما تتطلبه الصّياغة العلمية الدقيـقة."ولذلك فتّعليميّة اللّغات تراهن على الجمع بين ثمـار فنون وعلوم عديـدة، لكونها ميـدانا فسيـحا، يتجسـّد فيه العمل الجماعيّ المتكامل والمثمر، وتتـقاطع فيه معـطيات اللسانيات، وعلم النّفـس اللّغوي، وعلم
الاجتماع اللّغوي، وعلوم التّربية، ونظريات الاتـّصال، إلاّ أنّ الوظيفة الكبـرى للتّعليميـّة تتجسّد في إمكانية تكييف هذه المعطيات النّظريةالمجرّدة بإ يجاد نوع من التناغم بينهـــا ثم كيفية الاستفادة منها، وهي تتصدى لمعالجة موضوع اختصاصها وهو تعليم اللّغة وتعلـّمها، فالمشاكل المترتبة عن هذه المهمة، لا تنحصر في مستوى اللّغة المراد تعلّمها بل هناك مشاكل نفسية، يجب على المشتغل بالتّعليم أن يراعيها،لأ نّه يتعامل مع كائن بشري يعيش بكل أبعاده الذّهنية، والنّفسيّة، والجسد ية، داخل مجتمع معيّن له خصوصيته التي ينفرد بها. وتعليميّةاللّغات تتكفل بالإجا بة عن مثل الأسئلة التّاليّة:ماذا نعلم؟ من نعلم؟ لماذا ؟ كيف نعلم ؟ وانطلا قا من هذه التّساؤلات تحدّد التّعليمية أقطاب العمليّة التّعليميّة التّعلميّة المتمثلة في العناصر التالية:
- المتعلّم ( من؟ ) للتّعرف على الخصائص الذهنية والنّفسيّة للمتعلّم.
- المحتوى ( ماذا؟) لتحديد المضامين المعرفيـة المراد تعليمها.
- الأهداف ( لماذا؟) لتحديد أهداف ومرامي التّعليم.
- الطريقة ( كيف؟) لاختيارالطّرق والتقنيات البيداغوجية.
ونظرا لطبيعة عمل هذه الأقطاب المتداخل ونوعية العلاقة الرابطة بينها، فإنّ العمليّة التّعليميّة التّعلّميّة تمثّل نظاما ترتبط فيه هذه الأقطاب فيما بينها ارتباطا عضويا، يؤثر كل عضو منها في الآخر ويتأثر به، بحيث لا يمكن أن نستغني عن أحدها ؛ وهذا التّصوّر يفيدنا كثيرا في حل كثير من المشاكل المرتبطة بالعمليّة التّعليميّة لوضعها في سياقها السّليم، ومـن ثمّ نتـفادى الارتجالية الناجمة عن النـّظرة القاصرة التي تتناول هذه العناصرمعزولة بعضها عـن البعض. ويمكن أن يوضّح الارتـباط العضوي بين هذه العناصر بحيث يكـون المتعلّم المحور وبؤرة الاهتـمام بالشـّكل البياني التّالي:
المحتوى الأهداف
المتعلم
الطريقة التقويم
والسّؤال الأساس الذي يمسّ صميم عمل تعليميّة اللّـغات، هو كيف يمكن تحويل المعرفة اللّسانيّة ذات الطّابع العلمي المجرّد إلى مـبادئ عملية إجرائية يمكن الاستفادة منهـا في الميدان التّربوي؟ ثمّ كيف تتمّ عمليّة تكييف محتوى المادة اللّغويّة لتنسجم مع الطرق التّربوية وتستجيب لحاجـيّات المتعلم اللّغـوية؟
التّكييف التّعليمي: إنّ مفهـوم التّكييف أوالتّحويل التّعليمي للمعارف النّظريــــة didactique La transposition يخص ّتلك العمليّة المتعلقة بالمراحل التي يمكن أن تتحول فيها المفاهيم المراد إكسابها للمتعلم في مستوى تعليمي معين،من معارف مرجعية Savoirs savants إلى معارف تعليمية Savoirs enseignés مع العلم أنّ هذه العملية، أي عمليّة التكييف، تخضع لمعايير لغويّة، ونفسية، واجتماعية، وبيداغوجية.وهذا المفهوم لعملية التكييف له أهميته القصوى لدى المختصين في تعليميّة اللغات بصـفة عامة وتعليميّة النّحو بصفة خاصة فالنّحو التّعليمي يختلف عن النّحو العلمي، فإن كان علم النّحو يصف الأبنية اللّغوية معزولة عن سياقات استعمالها وصفا معمما ومجردا وتلك طبيعة عمله العلمي الدقيـق، فإنّ النّحو التّعليمي لا يأخذ هذه المعطيات النّحوية المجردة كما هي، بل يقوم بتطويعها وتكييفها من أجل أغراض تعليميّة صرفة، ولذا يرى التّعلميّون المهتمون بموضوع تعليم النّحو، أنّ الأمر يحتاج إلى بناء استراتيجيّة واضحة المعالم، محددة الغايات، تقوم على أسس علمية، وأخرى بيداغوجية بحيث تحدد فيها أهداف تعليم النّحو تحديدا واضحا ودقيـقا، فينتـقى فيها المحتوى النّحوي انتقاء يخضع لمعايير وضوابط علميّة وبيداغوجيّة، بعيدة عن الأهواء والأراء الشّخصيّة، يكون فيها المتعلّم محور العمليّة التّعليميّة التّعلميّة، فيقدم له النّحو والصّرف لا على أساس قواعد نظريّة جافـة معزولة عن أحوال الخطاب، تحفظ عن ظهر قلب بل كمثل عمليّة، تكتسب بكيفيـة خاصة وذلك بتوفير نوع من النّـشاط وعفويّة التّعبير أثناء حصص القواعد التّلقينيّة و باعتماد نصوص وحوارات مفعمة بالحيويّة مستوحاة من واقع المتعلمين، بحيث لا تُقدّم لهم إلاّ البنى اللغويّة التي يكثر جريانها على الألسنة والتي يحتاجونها في استعمالهم الفعلي للغة. ومن هذا المنطلق يغدو النّحو وسيلة لتكوين ملكة لسانيّة سليمة، ويكون الهدف الأساس من وراء اختيار المحتوى النّحوي،هو إكـساب المتعلم ملـكة
تبليغيّة مشافهة وتحريرا، بحسب ما تقتضيه أحوال وظروف الخطاب المختلفة وإكساب المتعلم لهذه الملكة التّبليغيـة، لا يعني بأيّة حال من الأحوال أن يفهم، ويعبر، ويقرأ، ويكتب الجمل فقط ،بل أيضا أن يعرف كيفيّة استعمالها و توظيفها، في مختلف ملابسات الحدث التّواصلي...
المصدر: اهل المنتدى