التصور البيداغوجي للدرس الفلسفي عند ميشيل طوزي
بقلم الدكتور عبد الله بربزي
باحث في علوم التربية - المغرب
لقد حاول ميشيل طوزي ومن معه تأسيس بيداغوجية الفلسفة انطلاقا من قناعات تقتضي ضرورة الانتقال من ممارسة عفوية تلقائية، إلى ممارسة واعية بذاتها محسوبة ومنظمة، والتي تكون بفضل ذلك قابلة للنقل والتداول أكثر من الممارسة السابقة.( طوزي 1996)، هذا بالإضافة إلى العمل على تأسيس بيداغوجيا خاصة بالفلسفة كغيرها من المواد الأخرى، ثم الاعتماد على الملاحظات الوصفية ( عمل الأستاذ، إنتاجات التلاميذ) هكذا دعا طوزي إلى حوار هادئ بين المتحمسين والرافضين لبيداغوجيا الفلسفة، وإلى التأمل في المشاكل التي تطرحها العلاقة بين الخطاب الفلسفي وديداكتيك الفلسفة، بين قول الفيلسوف وقول مدرس الفلسفة، لذلك وضع طوزي فرضية ديداكتيكية للتفلسف قائمة على التمييز بين التعليم والتعلم تتحدد ديداكتيك الفلسفة، وعلى امتدادها يجب التأمل في الوسائط الضرورية بين التفلسف الذاتي وتعليم وتعلم الفلسفة للآخرين) Tozzi, 1993p20 ).
ومن هذا المنطلق فعلى المدرسين الاهتمام بالفلسفة كمادة تعليمية وليس ككيان معرفي قائم بذاته ومتعال عن باقي المواد الأخرى، كما أن الفلسفة لا يمكن أن تظل بمنأى عن التطورات التي عرفتها نظريات التربية، والتي انعكست على ديداكتيك المواد المدرسية وأعادت النظر في استراتيجيات وتقنين تعليمها وأساليب تقييمها .
وفي هذا السياق، يتحدث طوزي عن البعد العلمي والتعليمي لديداكتيك الفلسفة التي تركز على المتعلم أكثر من المدرس، لأن تعلم التفلسف المتمثل في تنمية مهارات أساسية لدى التلميذ تتلخص في الأشكلة والمفهمة والحجاج، يخضع لتوسط مجموعة من المواقف الديداكتيكية التي لا يشكل خطاب المدرس سوى شكلا من أشكالها الممكنة. ((Tozzi, lbid p23
يرى ميشيل طوزي أن تعلم التفلسف يقتضي ثلاث سيرورات.
- البناء المفاهيميLa conceptualisation: وذلك بتحديد معنى المفاهيم قصد الدرس ( الحق، الجمال، العقل، الحقيقة...إلخ).
- الاستشكالLa problématisation : وهو القدرة على التساؤل فلسفيا حول المفاهيم وإدراك ما تنطوي عليه من مفارقات وتناقضات.
- الحجاج L’argumentation : تقديم حجج وبراهين ومبررات تثبت وتدحض المواقف والأطروحات المجيبة عن الإشكال
- المفهمة: مرحلة أولى من مراحل التفكير الفلسفي التي يتم فيها بناء المفهوم (الموضوع) وإعطاؤه معنى انطلاقا من الانتقال به من المستوى المتداول إلى المستوى الأكثر دقة وضبطا وذلك بوضعه في محكات الدلالة اليومية واللغوية والفلسفية وباقي الحقول المعرفية الأخرى، خصوصا وأن المفهوم الفلسفي ليس مفهوما منعزلا قائما بذاته، بل إنه متعلق بغيره ضمن بنية شمولية تجعله يغتني من خطاب إلى آخر. هذا بالإضافة إلى أن المفهوم "كائن" تاريخي ينشأ وينمو داخل خطاب فلسفي معين. وتبقى لحظة بناء المفهوم لحظة أساسية تمكن المتعلم من "التحرر الذهني والوجداني من عوائق البداهات المباشرة والأحكام المسبقة والآراء الوثوقية".(عبيدة محمد 2002).
يمكن مفهمة مدلول ما:
- إما بإنشاء معنى مفهومه بالاشتغال على اللغة (اشتغال اشتقاقي أو تاريخي أو دلالي أوانطلاق من المترادفات مع التمييز بين الاستعمال المألوف والاستعمال الفلسفي).
- وإما بأشكلته انطلاقا من الطعن في تمثلاته العفوية أو الاصطلاحية.
- وإما ببناء مفهوم كأداة لتعقل الواقع انطلاقا من مجالات تطبيقية.( توزي 2005 ص38/39(.
- الاستشكال: حسب جاكلين روس J. Russ، أن نستشكل لا يعني فقط أن نتساءل بل أن نرتقي انطلاقا من مجموعة من الأسئلة المنظمة لنبلغ عمق المشكلة. ((Russ,J, 1992) ويمكن التمييز بين ثلاثة نماذج من الاستشكال:
- نموذج التبرير الإشكالي: نجعل الإثبات والبداهة والتمثل والتعريف أشياء قابلة للشك والطعن أي نضعها موضع تساؤل.
- نموذج تفكيك المشكل: مساءلة السؤال نفسه والبحث عن ما وراءه من مشاكل فلسفية.
- نموذج صياغة الإشكالية: تطرح فيه المشكلة بصيغة تعارضية، تبرز الخاصية الحوارية لفكر لا يبحث عن حلول نهائية بل عن أجوبة ممكنة.
إن مرحلة الاستشكال لحظة أساسية تتمفصل عندها لحظتي المفهمة والحجاج. فهو مناسبة لطرح تساؤلات تسمح لنا بالوقوف على مختلف التقابلات والمفارقات التي تثيرها المفهمة، وموجه للبحث عن أطروحات ومواقف فلسفية تجعلنا ندخل في لحظة الحجاج.
- الحجاج: إن عرض الأفكار والأطروحات المجيبة عن المشكل المطروح، يقتضي القيام بالمحاججة التي هي خطاب استدلالي إقناعي، هدفه التأثير على المخاطب وإقناعه بصواب أو بطلان موقف ما باعتماد مسوغات ومبررات وأدلة وحجج منطقية أو بلاغية.
وهكذا نخلص إلى أن تقديم الحجاج على أطروحة ما، دفاعا أو رفضا، لا يتم إلا من خلال الإجابة على مشكل معين يحدد العلاقة بين مجموعة من المفاهيم. فالمحاجة لا يكون لها معنى إلا في علاقتها بالإشكالية والإشكالية لا تكون ممكنة إلا بتحليل الموضوعات ومفهمتها.
انطلاقا من محطات التفكير الفلسفي هاته، تتبين لنا فعالية التفكير الذاتي القائم على المساءلة والنقد وحل الإشكالات بتقديم أطروحات أو دحضها اعتمادا على آليات حجاجية متنوعة، وهذا ما سيمكن المتعلم من بناء شخصيته وبالتالي تأهيله للانخراط في الحياة (الاجتماعية والسياسية...) وهذه إحدى الغايات الأساسية التي تراهن عليها منظومتنا التربوية.
يخصص ميشيل طوزي فصلا من كتابه حول شروط طرح السؤال الإشكالي قبل الإجابة عنه، فيلح على ضرورة استبعاد الآراء والأحكام المسبقة والعفوية، واتخاذ مسافة إزاء المشكل أو السؤال المطروح من خلال خطوات منهجية منظمة تبدأ بإعداد السؤال والوقوف على مختلف مفاهيمه وعلى العلاقات المنطقية القائمة بينها، ودون إغفال "الكلمات الصغيرة" التي قد تؤثر بشكل أو بآخر على معنى السؤال كالظروف adverbes والنعوت adjectifs أو غيرها من الروابط. وحتى تسهل الإجابة عن السؤال المطروح، يشترط ميشيل طوزي تحديد الحقل الذي تثار فيه الإشكالية وكذا المشكل الفلسفي المثار من خلاله مع التركيز على طبيعة صياغة السؤال التي قد تعطينا فكرة عن طبيعة الجواب. وبعد إخضاع السؤال لكل هذه الإجراءات، يمكن الانتقال إلى البحث عن الجواب المناسب الذي يقتضي الأخذ بعين الاعتبار كل الممكنات من خلال تركيب يتجاوز ما قد يكون بها من تناقضات. كما أن السؤال ليس بالضرورة أن نجد له جوابا وذلك إما لمحدودية العقل وإما لتناقضات يستحيل دمجها في تركيب.
وما تجب الإشارة إليه، هو اعتماد ميشيل طوزي على أمثلة متنوعة من حقول champs مختلفة ( فلسفة، علم نفس، علم اجتماع، الأخلاق، سياسة...) هذه الأمثلة التي يستعين بها في كل مرة عند طرح سؤال من الأسئلة واضحة ودقيقة وتفي بالغرض منها. وهذا ما يجعل إمكانية التعلم الذاتي من خلال هذا الكتاب ممكنة خصوصا وأن هناك تمارين تتخلل كل لحظاته ويمكن الرجوع إلى حلول مقترحة لها.
ومن خلال قراءة هذا الفصل المترجم، نستشف البعد التعليمي في عمل ميشيل طوزي وذلك باعتماده على الأمثلة التوضيحية وعلى التدرج والتكرار والتلخيص وعلى التقويم. الشيء الذي يتيح للقارئ التعاطي مع الكتاب دون الحاجة إلى توجيه أو مساعدة خارجية، ومن ثمة فتح آفاق للتعلم الذاتي والتفلسف بعيدا عن كل رأي عفوي أو حكم مسبق.
تبين هذا التصور مسارات تعلم التفلسف كما حددها ميشيل طوزي القائمة على مبدأ التدرج وذلك بالبدء من البسيط الى المعقد،أي من القدرة على مفهمة الموضوعات الى القدرة على الأشكلة والمساءلة وصولا الى المحاججة، وهذه المسارات تروم تحقيق الكفاية الفكرية التالية: تعلم التفكير الذاتي وتحقيق نوع من الاستقلالية والحرية الفكرية.
إن ما يثيره إدخال أو إقحام الهاجس البيداغوجي في الدرس الفلسفي إذن، هو: كيف يمكن الجمع بين شيء يسعى إلى بناء "المطلق"، وشيء يحاول الإبقاء على استمرار بناء النسبي "الديداكتيك"؟ وهل هناك انسجام بين التفلسف كضرورة وبين الطرق البيداغوجية كاختيار (اختيار الأستاذ لطريقة ما؟). الأول يحيل إلى الانخراط الذاتي/الشخصي، والثاني يترك الافتراض مفتوحا أمام أن نوجه أيا كان نحو أية وجهة ممكنة.
إن إقحام البعد البيداغوجي في الدرس الفلسفي الحالي، صار أمرا محتوما نظرا لإكراه تقني فرضته عوامل متعددة أهمها ما أشرنا إليه سابقا، ألا وهو تحول الفلسفة من نظام تدريسي نخبوي إلى نظام تدريسي جماهيري يتبعه التقويم أو الامتحان. الشيء الذي يستلزم إقامة تعاقد "ديمقراطي" بين الممتحن والممتحن وبين جميع الفاعلين في العملية التعليمية/التعلمية المتعلقة بالفلسفة، رغم المفارقة القائمة بين الفلسفة كمعرفة حرة والتفلسف كفعل حر من جهة، والإكراهات التقنية التي قد تحملها البيداغوجيا من جهة ثانية.
مجلة دليل الكتاب