قد لا يصدقون قصتي ..ومع ذلك أشعر أن من واجبي أن أرويها لكم ..علكم تشاركونني .....هذا كله ما اطلبه منكم ...وليس من المستبعد أن أكون أول من يطلب منكم هذا النوع من المشاركة .... في الدهشة ..! وأنا أعرف مسبقا كما تعرفون أنتم طبعا أن الدهشة ..تعني تعثر الوعي والحس بشكل ما ..وقد تعني غيابهما في لحظة من اللحظات .. التي يعيش فيها المرء تجربة شخصية ..أو في لحظة من اللحظات التي يعيش فيها المرء قصة من ..باب المشاهدة أو القراءة .. !وستعيشون أنتم قصتي قراءة ،تعيشون غرابتها كما عشتها أنا بداية ونهاية ..والغرابة قصة مشاهدة .!
قصتي أنني كنت ذات يوم كئيب ممطور ...كأيامنا هاته..._ اللهم اجعلها علينا خيرا ونعمة _وأعرف أن كئابة هذا اليوم لم تنسحب على نفسي بأية صورة من الصور ..بل يمكنني أن أقول أنّني كنت فرحا ...مسرورا ...بالذهاب إلى عملي قبل الموعد بحوالي ساعة ...لأن لي عادة لا أتخلّى عنها أبدا ..وهي أن أنام مبكرا وأقوم مبكرا ...والذهاب المبكر إلى العمل يتيح لي أن أتحدث مع الزملاء في العمل بنشاط .. فأنا أعتبر التبكير نشاطا وحيوية وبركة ..و استقبالا ليوم جديد بعزيمة جديدة ..ولابد أن يكون للعزيمة رجالها وأبطالها ..فلكل صفة إنسانية بطل ..سواء أكان ايجابيا أم سلبيا ..رغم ما للسلب والايجاب من تبادل في المواقع والمراكز والأهداف والقمم ... ! وكنت أتصور نفسي بطل عزيمة .....!
كنت في هذا اليوم الممطور أسير في شوارع مدينتنا ...في طريقي إلى عملي ...و أنا أنظر إلى الرصيف المقابل من الشارع وإذا بي ألمح صديقا لي عزيزا ... فرفعت يدي اليمنى لتحيّته ...وينبغي لي أن أخبركم هنا أيضا أن لي عادة ثانية ، هي أني أحييّ عن بعد بيدي اليمنى ..! ومثلي لا يستطيع إلا أن يفعل ذلك ..فعل الإنسان المهذب أن يعرف الأوضاع المناسبة ...لكل ممارسة ..من ممارسته اليومية ..وكان رفع يدي اليمنى في ذلك اليوم من ممارستي اليومية ..دون أي توقع أو انتظار ..!!
وما ان اختفى صديقي العزيز حتى ...استوقفني رجل ...فضننت أنه توسم فيّ الرّجل المثاليّ .. أو ربّما وُصفتُ له أنّي كذلك ...قد يكون الرجل كذلك وهو لا يعلم... أو لا يريد أن يعلم ...فقلت : له في لباقتي المثالية :هل أسدي لك نصيحة أو خدمة ؟...فأجابني الثاني من ورائي_كأنه نزل من السماء أو خرج من الأرض _قائلا :اسكت قطع الله بَكُورَكَ وأتعس الله حضورك .!!!! ثمّ ابتدراني من مرفقيّ وحملاني حتى صرت معلقا بينهما كسلّة .... تكاد رجلاي تلامس الأرض_ ربما وسيلة نقل جديدة للعمال _فسرت وأنا مرعوب القلب ،مفجوع الفؤاد ...مرتعد الأطراف ...أتسائل في أعماقي أي ذنب ارتكبت ..وأي إثم جنيت ...يا إلهي؟ أنت وحدك تعلم ما يتعاقب على القلب من صواب وخطأ...أنت وحدك تعلم أنّني لم أرتكب اثما ...ولم أقترف ذنبا لا في حقك ولا في حق أخي الانسان _على الأقل في أوّل النهار_فكن لي بالطيف سترا مستورا ...ومن سواك يعلم ما يخفيه وجدان الظالم ... ..؟ ...وما ان أدخلاني في إحدى المداخل حتى استقبلني أربعة آخرون ...وصاح بي أحدهم ، وكان أزرق العينين ، أحمر الخدين ...واسع الفم ..أشقر الشارب ، طويل القامة :هكذا اذن ..!!وردد الباقون وكأنهم صداه: هكذا اذن!! ....وقبل أن أتساءل عن معنى ذلك كله ...وقبل أن أدرك ما يدور حولي ...انهالوا عليّ بالضرب من كل جانب كما لو أنّهم يتبارون في ذلك ...هذه لكمة في الصدر ...وتلك في الخد ثم في البطن ...ثمّ بين الرجلين ...وأنا أتلوّى صعودا وهبوطا ..وما أن أحاول فتح فمي للكلام حتى تسكتني لكمة أو ركلة وصفعة قوية ...كل حركة ضربة وسكنة لطمة ..أفقد معها توازني وأقع أرضا ...فتنهضني يدان قويّتان بصورة خاطفة ..ليستمر الضرب والتعذيب ...كأن في القضية أنواعا من الانتقام ...!! وقد تمثلت أفظع معاناتي في الضربات الرأسية التي تلقيتها ..فقد كان من بين أولائك الرجال ...رجل مستدير الرأس كبيره ...في حجم دلاّعة** متوسطة ... !! ورغم ما كنت أعانيه من ألم الضرب المبرح والنطح القوي ...فكرت في نفسي .. ياسبحان الله ...كأني به لم يكن ضاربا إلا لاستدارة رأسه ...!!
وحين أنهكت قواي ولم يبق فيّ ما يضرب ..وضعت في زنزانة واطية ..حشرت فيها حشرا ..لا يجلس فيها المرأ إلا وهو مطأطأ الرأس ...مقوس الظهر ..مجموع الأطراف ...فكان علي أن أعاني عذابا من نوع آخر ..وبعد ساعات لا أدري ..عددها ...بعد الظهر على أيّة حال ..أخذني ذو الرأس المستدير إلى مديره..وكان يقول لي بين الحين والآخر هكذا تتعلم كيف تحترم الناس ...!!
وحين أهمّ بالكلام يضربني بركبته من ورائي :ولا كلمة يا ابن ال....
ووجدتني أمام رجل طويل الرأس كالقرعة** !! فكان أول مافكرت فيه ..إذا كان الرجل ذاك مستدير الرأس قد نطحني ...فإنّ هذا الذي يجلس أمامي سيأرجحني فوق قرعته المنتصبة ...ويفعل بي ما يفعله الوعل بغريمه .. ثمّ يلقي بي في زنزانة أخرى أشدّ وطأة ...لكنه ....لحسن حظي استقبلني ..بلطف كبير ..وكانت البسمة لا تغادر شفتيه ..وعندما انفردت به سألني :
لماذا فعلت ذلك !..فشعرت أنّ في استطاعتي أن أطمئن إليه وأحدثه عن أمري دون أن أتلقى ضربة منه ...فسألته بدوري :ماذا فعلت ياسيّدي ...؟
_غريب أمرك هذا ألا تعرف ماذا فعلت ؟
_لم أفعل ياسيدي مايجعلني أستحق هذا العذاب ..الذي عرفته في هذا اليوم .. دعنا من العذاب الآن!
_ لكني أريد أن أعرف ماذا فعلت قبل أن ... أموت !!
_فاستوى الرجل على كرسيّه الفخم ..وقال لي :
_ألم تبكر ّ إلى العمل وخرجت من منزلك إلى العمل قبل بدءه بساعة ..؟
_نعم ..وهذه عادتي ..فأنا أبكر ...وأدخل عملي قبل حينه ....وهذا هو السداد والتفاني .. فأنا أحب عملي .. وأحب أن أتقنه ....ومن ثم أحترم وقتي ...و..و
_آآ نعم أنت تعترف .... بذنبك .. كما جاء في التقرير ..!
_وماذا يقول التقرير ؟فهّمني ياسيدي ..حتى أعرف كيف أدافع عن نفسي ...!من الظلم أن أعاقب دون أن أعرف السبب !
_التقرير يقول... أنك بكرت إلى عملك بساعة ....مخالفا بذلك القوانين المعمول بها في المؤسسة ..فنحن لعِلمك... قانون المؤسسة يقول: يجب على العمال التأخر ساعة عن الموعد الأساسي للعمل ...مراعاة لمشاعر المدير _أو نومه _لأنه لا يستطيع النهوض باكرا....وأنت خالفت القانون ..بل وجرحت نوم المدير .....وأثرت على السير الحسن للمؤسسة ...!!
ثم كور يديه ..فخشيت هو الآخر أن يلكمني ..إلا أنه رفعهما فوق كتفيه و تثائب ..ثمّ نام حتى سمعت خنينه ...فراعيت نومه ونمت أنا أيضا .....فلم أكن أخالف النوم الحسن ..للمؤسسة ؟
__________________
الدلاعة..والقرعة ..تحرّجت من وضعهما لكني وجدت لهما أصل في اللغة
الدلاعة *:هي البطيخ العظيم ،و وجدت في المحيط ..دلعت بطنه ..إذا عظمت
القرعة*: أو القرع بتحريك الراء أو تسكينها ..اليقطين المعروف.. /القاموس المحيط/