زيارة قصيرة لعنترة
الدكتور عثمان قدري مكانسي
تركنا الأدب والشعر منذ فترة ليست بالقليلة وغصنا في التربية القرآنية والنبوية أولاً والسياسة ثانياً حتى كدنا ننسى أننا قضينا أكثر من خمسة وخمسين عاماً في رحاب الأدب تعلماً وتعليماً شابَ فيها الرأس وضعفت العينان وكل البدن ولو عصرْتَ عقولنا ما وجدت غير الأدب من شعر ونثر.
لكنني وجدت نفسي صباح هذا اليوم وأنا عائد من صلاة الفجر أترنم بمعلقة عنترة بن شداد ، أردد مقدمتها وأقف على معنى كل كلمة فيها وأقلب فيها الوجوه وأغوص في معانيها ، ثم أراني أنتقل إلى شوقي رحمه الله في (جارة الوادي) ثم أراني أعقد مقارنة بين وقوف عنترة على الأطلال وأمّ شوقي الرياض التي التقى فيها المحبوبة مرات عديدة وأقول : إن الشاعر ابن بيئته ، فمن عاش في الصحراء تذكر النؤي والأثافيّ السفع وجذم الحوض . ومن كان في المدينة ذكر الرياض الغناء وأشجارها وعيونها وريّاها .
فعنترة يريد اختصار الموقف وعدم الاسترسال في وصف الأطلال فأعلن أن من سبقه من الشعراء لم يتركوا له ولا لغيره جديداً ولا قديماً في هذا الباب ( هل غادر الشعراء من متردّم) فإذا بالمعري يخالفه إذ يقول :
إني وإن كنتُ الأخيرَ زمانُه * لآت بما لم تستطعه الأوائلُ
فأقول هذا – المعرّيّ- فارس الشعر والمقال وليس فارس الضرب والنزال ، ثم هو ذكي أريب ومتكلم بارع عاش في قرون العلم والحضارة العربية في (بغداد)عاصمة الدنيا آنذاك ، فأين البدوي البسيط عنترة منه في صحراء ما قبل الإسلام؟
والجميل في بساطة عنترة وسهولة معانيه أنه يخبرنا بأسلوب الاستفهام في بيته الأول أنه اهتدى إلى أطلال مضارب الحبيبة بعد أن ضرب أخماساً بأسداس( أم هل عرفت الدار بعد توهّم) والمعرفة قبل العلم فلم يقل ( أم هل علمت ..) فالتوهم ثم المعرفة ثم العلم . ويأسى المحب حين يمر بآثار المحبوب فتتوارد على قلبه قبل عقله كلُّ أحاديثهما ولقاءاتهما وأحلامهما ،وما كان أجملها فإذا به ينتبه إلى الواقع الحزين وينادي بأعلى صوته ( يا دار عبلة بالجواء تكلمي ) وهل تتكلم الصخور الصم والحصى الصغيرة والرمال المتحركة ، إنه لن يسمع غير صوت الريح أو عواء ذئب شم رائحته فأقبل يعسل إليه ، أو نباح كلب ضال يرجو ما يسد رمقه. ولْيتكلمْ وحده ممنياً نفسه بلقاء قريب يغسل أدران البعد وآثار الحرمان.
ولعله فرح حين عرف المضارب المقفرة مهد الحب ومرابع الأحلام الوردية ثم تألم إذ انتبه لواقعه المرير ، فلا حسّ ولا أنس. لقد شدّت القبيلة إلى مكان آخر قد يعرفه فهو منطلق إليه . لكنْ لا بد وقد مرّ على ذكريات الأمس أن يقف عنده سويعات بل دقائق يسلم على دار عبلة ( وعِمي صباحاً دارَ عبلة واسلمي) . إن السلام والتحية عنوان الشوق واللهفة.
وأتذكر مجنون ليلى يمر على ديار المحبوبة ليس حباً بها إنما حباً في الحبيب الغائب :
أمر على الديار ديار ليلى * أقبل ذا الجدارَ وذا الجدار
وما حب الديار شغفن قلبي * ولكنْ حبُّ مَن سكن الديارَ
تراه يقبل الجدار ثم يعلل في البيت الثاني فعله هذا كي لا يظنه الراؤون مجنوناً . وعلى رغم هذا وصفوه بالجنون فأصبح لا يُعرف إلا به.
وقف عنترةُ ناقته ولم يُنِخها ، وحُق له أن يفعل ذلك فلن يُطيق البقاء في منعطف أو تل أو أرض كان يلقى فيها الحبيب وهو الآن بعيد عنه. أو لا يعرفه فهو يبحث عنه ، وبقاؤه في مرابع ذكرياته وإن كانت تخفف عنه قليلاً فإنها تحرك أوار الحب في قلبه وشوك البعاد في جسده. ولن يُطيق اجترار ذكرياته ليصحوَ على سراب واقعه.
لكنني وقفت طويلاً أمام وصف ناقته (بالفدن) والفدن :القصر المنيف ، أتساءل لم جعلها قصراً ، فكان في رأسي أكثر من تعليل:
1 - بما كانت الزيارة لأطلال حبيبته قصيرة ، فإنزال الأحمال عملية مرهقة لا حاجة إليها.
2 - لو أناخها وعليها حمل ثقيل فقد يضطر لتخفيف الحمل عنها كي تقوم مرة أخرى.
3 - صرّح أنه وقف ناقته على الأطلال ( ليقضي حاجة المتلوّم) فمن اللائم يا ترى ؟! أيلوم نفسه لو أنه لم يقف؟ ولربما تسأله عبلة أوَقف أم لا ؟وتظن عدم التوقف دليلاً على عدم اهتمامه بها ؟ وهو لا يريد أن يقف هذا الموقف. ولعله لا يحب أن تكون قصيدته مبتورة على عادة شعراء ذاك الزمان فمن سمات القصائد إذ ذاك الوقوف على الأطلال.
4 - والحقيقة أنني لم أرتح لوصف ناقته بالفدن ورأيته حشواً .
قلت إنني قارنت بين قصيدة عنترة وقصيدة شوقي في الحديث عن جارة الوادي ، وترنمت بلحن محمد عبد الوهاب يغنيها، فوجدتني أدخل البيت أردد:
ولقد مررت على الرياض بربوة * غنّاء كنت حيالها ألقاك
ضحكت إليّ وجوهها وعيونها * فشممتُ في أنفاسها ريّاكِ